عندما تُطرح مسألة الفساد الإداري البيروقراطي للنقاش والبحث، تُطرح معها على الفور مسائل عدّة تتوجّب مقاربتها، على سبيل التمهيد.أولاً، إنّ دراسة الفساد الإداري لطبقة اجتماعية مسيطرة، هي دراسة مشروطة بظروف صعود هذه الطبقة التاريخي إلى السلطة، أي دراسة النظام السياسي المستهدف في شروطه الاجتماعية التاريخية العينية. وهذا أمر يحتاج إلى بحث متخصّص يتجاوز مهمّة التمهيد وبناء نقاط ارتكاز للبحث.
وثانياً، فإنّ بحثاً في الفساد الإداري - البيروقراطي، يعني مناقشة فشل الطبقة المسيطرة في بناء شرعيّتها التاريخية، وفشلها في قوننة الحكم، بالتالي فشلها في بناء هيمنتها التاريخية.
ولكوننا لسنا في سياق بحث عن فساد حكم طبقة بعينها، أو نظام بعينه، فسوف تكون مقاربتنا على شكل وضع أعلام أو شاخصات على سبيل التمهيد، شاخصات مستخلَصة من تجارب نُظم اجتماعية سياسية متعدّدة كسيطرة البيروقراطية السوفياتية في حكم الاتحاد السوفياتي السابق، وسيطرة البورجوازية الصغيرة ذات الأصول الفلاحية والمتوسطة ذات الأصول المدينية في مصر والعراق وسوريا في النصف الثاني من القرن العشرين، وفي تجربة النظم الفاشية في إيطاليا وألمانيا بين الحربين العالميتين.
نقول، أولاً، إنّ الفساد البيروقراطي يصيب الطبقة المسيطرة على سلطة الدولة، والتي فشلت في بناء هيمنتها أو هي عاجزة بحكم طبيعتها الاجتماعية التاريخية عن بناء مثل هذه الهيمنة، بالتالي عاجزة عن بناء شرعيتها التاريخية كطبقة حاكمة وعن قوننة الحياة الاجتماعية السياسية. أي هي عاجزة عن بناء حكم القانون.
فالبيروقراطية السوفياتية، التي قامت سلطتها وامتيازاتها كفئة اجتماعية (تحت طبقة) بالوكالة عن البروليتاريا الظافرة بعد ثورة اجتماعية اشتراكية على أثر الحرب العالمية الأولى، جاءت بهذه الوكالة على أرضية دمار كوادر الطبقة العاملة في روسيا بفعل الحرب الأهلية الطاحنة، وبفعل عزلة الثورة المنتصرة والحصار الإمبريالي الغربي على أثر فشل الثورة الاشتراكية في أوروبا، حصار لأوّل دولة بروليتارية في التاريخ في بلد فقير مدمّر ذي أغلبية فلاحية معدَمة وأميّة. كان مطلوباً من هذه الفئة البيروقراطية الحاكمة أن تأخذ بيد الطبقة «الأصلية» الطبقة العاملة، بيد الموكِّل حتى يحكم نفسه بنفسه! وهذا لم يحصل وانهارت سلطتها بفعل طغيان الفساد الإداري وطغيان القمع السياسي وتوقف النمو الاقتصادي في الاتحاد السوفياتي أواخر السبعينيات من القرن العشرين.
في المقلب الآخر وعلى ضفة النظام الرأسمالي الإمبريالي، كان حكم الحزب الفاشي (النازي)، حزب البورجوازية الصغيرة، حكماً بالوكالة عن الرأسمالية الاحتكارية الألمانية التي دخلت بعد انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا وبعد كساد 1929 في أزمة اجتماعية - اقتصادية سياسية عامة نتيجة للأزمة الاقتصادية ونتيجة لحضور البديل التاريخي الاشتراكي ممثّلاً بحزب الاشتراكية الديمقراطية في ألمانيا مشفوعاً بثورة روسيا الاشتراكية. كان على الفاشية أن تسيطر كوكيل حكم مؤقت وأن تُحطّم الحركة الاشتراكية وتصفّيها، وكان عليها أن تُخضع الحركة النقابية وتستولي على النقابات.
في الطرف الثالث، وفي البلدان المتخلفة وبعد سيطرة أعيان المدن بين الحربين في كل من مصر وسوريا والعراق، وفشل حكم الأعيان هذا في حلّ المسألتين الفلاحية والقومية (الإصلاح الزراعي ومسألة فلسطين)، جاءت البورجوازية الصغيرة ذات الأصول الفلاحية والبورجوازية الصغيرة المدينية لتحكما بالوكالة ، حيث صعدتا إلى السلطة السياسية في فترة ضعف مزدوج سواء لجهة البورجوازية الليبرالية ذات الأصول الإقطاعية أو لجهة الطبقة العاملة التي كانت بالكاد بدأت تظهر بحكم تخلّف وتأخر البنى الاجتماعية الاقتصادية لهذه البلدان، وانتشار الأمية وندرة التعليم العام الحديث، وإقصاء طبقات بكاملها عن المشاركة في الحياة الإدارية والسياسية.
الطبقتان اللتان لديهما إمكانية الهيمنة الاجتماعية الاقتصادية في عصر الرأسمالية هما البورجوازية والبروليتاريا. وكون البورجوازية الليبرالية كانت قد دخلت في طور الانحطاط والأفول مع دخول الرأسمالية في المرحلة الإمبريالية أواخر القرن التاسع عشر، وكون البروليتاريا قد دخلت مرحلة الأزمة بعد صعود البيروقراطية السوفياتية في روسيا، فقد شهد القرن العشرون شيوع حكم الوكلاء: البيروقراطية السوفياتية في روسيا والفاشية في إيطاليا وألمانيا، وحكم البورجوازية الصغيرة الفلاحية في مصر (الناصرية) وفي العراق وسوريا (البعث).
ما يجمع جميع هؤلاء الوكلاء هو استعارة الشعار الاشتراكي للبروليتاريا (كطبقة لديها إمكانية الهيمنة التاريخية ولديها مشروعها التاريخي)، استعارة هدفها تضليل فقراء الفلاحين ومعهم الطبقة العاملة لكسب ولائهما. فالفاشية الألمانية رفعت شعار «الاشتراكية - القومية»، وكذلك فعلت الناصرية والبعث. أما البيروقراطية السوفياتية فكانت تحكم أصلاً باسم الطبقة العاملة في روسيا وبرنامجها السياسي، نيابة عنها (بالوكالة).
يظهر الفساد ويستشري في هذه الشروط التاريخية ضمن نظام الطبقة الحاكمة بالوكالة، بحكم عجزها عن بناء شرعيتها التاريخية وفشلها في إحكام هيمنتها. فهي جميعها ليس لديها مشروع تاريخي للحكم. بل هي تستعير شعارها من الاشتراكية تارة ومن الرأسمالية تارة أخرى.
البورجوازية الصغيرة هي بورجوازية بطبيعتها التاريخية، ومصيرها محسوم بالتطور نحو بورجوازية كولونيالية تابعة للرأسمالية الإمبريالية. والفاشية عليها أن تسلّم «الأمانة» بعد تلاشي أزمة الرأسمالية الإمبريالية العامة؛ أن تسلمها بالقوة التي تمارسها ضدها النُّظم الرأسمالية الديمقراطية - الليبرالية. حيث تتحالف هذه النظم بهدف تحطيمها. أما البيروقراطية السوفياتية وكونها ليست طبقة بل فئة حاكمة باسم البروليتاريا الظافرة في الثورة، فإن مآلها التاريخي هو التفسخ والتفكك، تاركة الحكم لرأسمالية الدولة الاشتراكية أو ما يشبهها.
يدخل الفساد في نظام حكم جميع هذه الطبقات والفئات الوكيلة، مشفوعاً بقمع سياسي شديد وتصحير للحياة السياسية العامة، واستئصال للخصوم السياسيين وتصفيتهم حين يعزّ التدجين، مع استيلاء على النقابات حيث تتحول النقابات إلى أجهزة داعمة لسلطة الطبقة الحاكمة.
نشهد استثناءات في مسألة تفشي الفساد البيروقراطي في نظامين: النازي في ألمانيا، وفي نظام صدام حسين البعثي في العراق، حيث طغى القمع العارم لدرجة قمع معه الفساد الإداري.
في نظام حكم الطبقات الوكيلة بالمعنى التاريخي يسود الفساد الإداري ليشير إلى إعادة لتوزيع الدخل، مستمرة وعشوائية بعيداً عن حياة القانون، هذا من جهة الجمهور، أما من جهة الطبقة والفئات الحاكمة فيأخذ الأمر استمرار التراكم البدائي للطبقة الصاعدة إلى السلطة عن طريق الاستيلاء على الثروة القومية بالقوة، مشفوعاً بعجز تاريخي عن قوننة هذا الاستيلاء على فائض القيمة وشرعنته. الفساد والعشوائية في توزيع الدخل والاستيلاء على الثروة القومية واحتكار الحياة السياسية هي وجوه لعملية تاريخية واحدة هي حكم الطبقة أو الفئة الوكيلة. صحيح أن البورجوازية الليبرالية استولت على الفائض بالسلب والنهب والقوة النارية ابتداءً من القرن السادس عشر، إلا أنها بعد وقت قوننت هذا الاستيلاء وسمحت بهامش للحياة السياسية وحرية ما لأحزاب الطبقات الهامشية.
إن ما يجمع المجتمعات المحكومة بالوكلاء التاريخيين هو الفساد الإداري الذي يلفّ الحياة العامة، واحتكار الحياة السياسية من قبل حزب السلطة وغياب الحياة السياسية للطبقات الهامشية، أو ما ندعوه تصحّر الحياة السياسية العامة، مشفوعاً باحتكار الثروة القومية.

* كاتب وباحث سوري