-1-
يبدو «الحزب السوري القومي الاجتماعي»، الآن، في حالة غير مسبوقة، بمستوى أزمته ومعناها ومضمونها، وما تنطوي عليه وما يمكن أن تفضي إليه. لم يعد يكفي وصف الحزب بـ«المأزوم» فحسب، بل هو مُقيم في أزمته ومسترخٍ في منزلها. مسكنه ومنزله ومكان إقامته الدائم: أزمته. هو في ذلك المنزل الذي تردّد عليه كثيراً خلال تاريخه الطويل. يندر أن نجد وقتاً كان الحزب فيه خارج «منزل الأزمة»، ويندر أن نستذكر وقتاً كنّا فيه مشغولين بقضيّته فحسب، من دون أزمته! رأسمال الحزب الكبير، الفكري والمعنوي، صرفته قياداته في «منزل الأزمة» وبُدِّد هناك. تمّ تبذير القسم الأعظم منه في أعمال ترميم وترقيع، بدل أن تساعد الحزب على الخروج من ذلك «المنزل» كانت تعمل على توفير العوامل التي تُبقيه مقيماً فيه، راسخاً لا يتزحزح!
لم يتمكّن الحزب من الخروج من هذا المنزل، الذي لا يُفترض هجره وتركه، بل تدميره ونسفه، بمسبّباته البنيويّة والأخلاقيّة، لكنّ ذلك لم يحصل أبداً، ولا يبدو أنّه سيحصل الآن، فها هو الحزب يوسّع منزل أزمته ويضيف إليه طابقاً من طراز آخر، فيبدو الركام القادم هائلاً، ونُحكَم نحن الذين ذات يومٍ حلمنا بالعمل من أجل قضية هذا الحزب، بألّا نعمل فيها إلّا عندما تمنحنا أزمتنا إجازة مؤقتة!
-2-

أخطر ما في الفصل الأخير من أزمة الحزب، الذي ابتدأ مع نهاية مؤتمر لم يكن أحد يريد انعقاده إلّا الذين اختلفوا على نتيجته، أخطر ما في هذا الفصل أنّه يقدّم أزمة الحزب، على نحوٍ غير مسبوق، فيشير إلى خلاف وصل إلى مرحلة الانشقاق، ولكن من دون «عناوين كبرى». لا عقائدية ولا سياسيّة، تلك التي كانت في الفصول السابقة القديمة لأزمة الحزب حاضرة وموجودة. أزمة من دون عنوان؟ بلى، وستؤدي إلى اعتبارها محض «صراع على السلطة»، صراع مجرّد من المعاني الإضافية. وعلى الأرجح سيتمّ مستقبلاً، فضّ هذا الاشتباك، والوصول إلى «تسوية» تعيد توزيع «السلطة» في جنبات «منزل الأزمة»، المكان الدائم للإقامة. وكون الأزمة من دون عنوان، فهذا يعني أنَّ الصراع يجري «على العضم»، في القاع. ويعني تالياً أنَّ الحزب المقيم هناك، يكون قد خرج عن معناه تماماً. الحزب، بتشكيلاته التنظيمية الراهنة وحالتها، خارج معناه، خارج ذاته، خارج بيته.
-3-

يحتشد «منزل الأزمة»، بكائناته وسكّانه. تقيم فيه مختلف «تنظيمات الحزب»، تلك التي أيّ واحد منها يحمل اسمه، إلى جانب مختلف «الجماعات» التي تميّز نفسها بأسماء مختلفة، إلى جانب الأفراد/ الأعضاء، سواء من كانت أسماؤهم في سجلّات التنظيمات والجماعات أو لم تكن. أيّ «سوري قومي اجتماعي» محكوم عليه بالإقامة في «منزل الأزمة»، ولا يمكن له أن يهجره نهائياً. يمكن أن يبتعد عنه قليلاً، أن يبتعد ويمارس قيادة ذاتية ويقول: دعهم وشأنهم، لا أمل بإصلاحهم، عليّ الانصراف والتفرّغ تماماً لخدمة قضية الحزب الكبرى. هو يفعل ما يتمكّن من ذلك، ويبذل جهداً كبيراً وموجعاً كي يبتعد... ولكنّ «الالتحام» المميّز لبيئة هذه العقيدة، لا يُتيح لنا، نحن أتباعها، ذلك الابتعاد الدائم عن ذلك «المنزل»، وإن كان الأوكسجين لا يكفينا، فقد نفضّل أن نموت اختناقاً في «منزلنا» المُشبع بثاني أوكسيد الكربون، على أن نعيش من أوكسجين لا نشعر مع «شهيقه» بطعم «الالتحام» ببعضنا...
تتساوى تنظيمات الحزب وجماعاته في إقامتها الدائمة في «الأزمة»، ويتيح هذا التساوي، لنا نحن الأفراد / الأعضاء، أن نتنقل بينها، فنكون في أحدها لنتركه وننضمّ للآخر. نتنقّل بينها وكأننا لم نغادر ما لا يرضينا، لندخل وننضم إلى ما يرضينا! قد نحلّ هنا أو هنالك، لاعتبارات شخصيّة وحسب، أو إنسانية، لمللٍ ألمَّ بنا، أو لضيق من مكان إقامتنا، أو لأملٍ لاح لنا من «الغرفة المجاورة»؟ نتنقّل بين التنظيمات والجماعات ولكنّنا لا نغادر ذلك المنزل... أبداً.
-4-

بلى، نحتشد جميعنا هنالك، نستهلك ما عندنا «كفاف يومنا»، ولا ننتج لغدنا. من دون إنتاج؟ لا بدَّ من «مدّ اليد» إلى مخازننا. هو يوم أسود طويل يمر علينا، وقد لا يكفيه «قرشنا الأبيض». استهلكت «التنظيمات» التي تحمل اسم الحزب، مخزونه الاستراتيجي، ورصيده التاريخي. استهلكت سيرته، فكره ونظرته، وتساهم في تضييق النظرة إليه كخلاصٍ لهذه الأمة المُعذّبة. والسوريّون القوميّون الاجتماعيّون، لا سبيل لهم إلّا سعادة. صباحاً ومساءً يعيدون وصاياه ويقرأون نصوصه وتدهشهم استشرافاته، فيتشاوفون بها وبعقيدته، ولكن لتحتجزهم جدران الأزمة وراءها. من شعورهم بالفقدان الكبير لسعادة، وحاجتهم العظيمة إليه، يتّجهون إلى استيلاده مجدّداً، ولكن كـ«نبي - رسول - قدّيس»... إذّاك، ما حاجتنا إلى التنظيمات؟ ما حاجتنا إلى المؤسسات؟ فنحن «جماعة مؤمنة به وهو نبينا»، وسيسامحنا لأنّنا لم نتمكّن من فهم واستيعاب «أعظم أعماله بعد العقيدة: إنشاء المؤسسات». صعبٌ علينا فهم هذا العمل، صعب على مداركنا الإحاطة بالمؤسّسات يا معلم. دعكَ منها، واسمح لنا بعملك العظيم الأول: العقيدة وحسب، وحدها تكفينا، ونعدك أن نتعبّد ونحن نكرّر فصولها يوميّاً، ولتذهب هذه المؤسّسات إلى الجحيم، وأمّتنا معها!!
ينظر القوميّون إلى أمّتهم وما حلَّ ويحلُّ بها، ويتحسّرون على واقعها وواقعهم. فكلّ مؤشرات الواقع تشير إلى سعادة وعقيدته. كلّ ما يحصل في الأمة يفرض علينا الحضور وبجهوزيتنا الكاملة.
حضرنا بدمائنا دائماً. دماؤنا التي نخجل من فوحها، نخجل من عزلتها بعيداً عن حناجرنا الخرساء، التي تترك ضجيج اللغات الخاطئة والشاذة والركيكة، تسرح وتمرح وتنصب مشاريعها، فيما مشاريعنا غائبة ومؤجّلة، ولكن إلى متى؟ ولماذا؟
دماؤنا صانت وجودنا وصنعت شرفنا، ولكنّها نفسها تحتاج إلى حمايتنا لها من الضياع، حمايتنا التي ليست سوى غاية قضيتنا ومبادئها وفلسفتها وإنسانها الجديد. لكن، كيف إذا ما كنّا جميعنا رهن الاحتجاز وراء قضبان الأزمة؟
-5-

هل من يريد التحرّر من وراء تلك القضبان؟ هل من يريد أن ينسى مهنة السجين، التي ليست سوى صناعة السبحات من نوى حبّات الزيتون، كي تمرّ الأيام والليالي، وهو يتعبّد مكرِّراً «صلواته» بعدد حبّات السبحة؟ هل من يريد استعادة: عمل/ واجب/ رسالة، أقسم ذات يوم أن ينجزه بإخلاص تام؟
هل من يريد تحرير هذا الحزب من أزمة تقبض عليه وتتحكّم بحياته ومصيره؟ هل من يريد إخراج هذا العملاق من منزل الأزمة، حيث لا باب يتّسع للخروج. ولا سبيل لهذا العملاق كي يستعيد معناه، إلّا بتدمير هذا المنزل بجدرانه وأساسه وسقفه الوطيء؟
نحن جميعنا نريد، وجميعنا نرغب بالخروج. حسناً، كانت قساوة الكلمة من ألم الواقع، ولعلّها تُوجع ضمائر اعتادت طمأنينة وهمية!
-6-

تنظيمات الحزب كلّها، التي تحمل اسمه، تفتقد للشرعيّة الدستورية. وهي حالة تضع «سكّان الحزب» أمام واقع استثنائي، يفرض عليهم العمل لإنتاج شرعية دستورية لوجودهم، وهذه الحالة لها معنى تأسيسي، ولذلك هي مصيرية، حيث أية إعادة إنتاج للحزب بـ«تسوية سلطوية» تُسمى «وحدة الحزب» مجدداً، لن تكون سوى إعادة ترتيب لـ«منزل الأزمة» الذي دبّت فيه فوضى الخلافات والصراعات، والتي يمكن أن تجمّد ويعود الهدوء ليسود أرجاء المنزل، ونعود لننتظر عصفاً جديداً!
هل نتمكّن من ابتداع طريق مختلف عن هذا التقليد المقيت الذي اسمه: التسوية؟ هل نقول إنّ تعبير «الشرعيّة الدستوريّة: صفر»، الذي يشير إلى تنظيمات «الأمر الواقع»، يتيح لنا أكثر من أيّ وقت مضى، إنتاج هذه الشرعيّة بمقاييس منهجنا الدستوري، وبما يليق بعقيدتنا وغايتها؟ هل «الشرعيّة الدستوريّة: صفر»، تمنح أعضاء الحزب القدرة على المبادرة لإعادة صياغة الجسد المؤسّساتي لعقيدتهم؟ هل نتمكّن من تحديد خط انطلاق، وكيف وأين يكون وممَّ يتكوّن؟ من أين تبدأ ورشة حياكة «دَستَرة» المؤسّسات المركزيّة؟
هذه الأسئلة وشبيهاتها وغيرها، برسمنا جميعنا، نحن الذين نقيم في منزل الأزمة، والذي تتوسّع أجنحته يوماً بعد يوم، فإمّا نتمكّن من إيقاظ هذا العملاق كي ينهض ويدمّر هذا المنزل ويسير على ركامه، أو نستسلم لما هو قائم، ونتلقّى الحكم المؤبّد بإقامتنا في منزل الأزمة.
-7-

في 2 آذار / مارس 1947، عاد سعادة إلى الوطن، وخاطبنا فور وصوله قائلاً: «عودوا إلى ساحة الجهاد». كان المقصود أن نعود للعمل من أجل القضية وغايتها. كان الحزب حينها يقيم في «الواقع اللبناني» بقرار و«تنظير» قيادته، وفي هذه الإقامة كان خارج معناه تماماً. جاء سعادة وأيقظ العملاق، بعمل دستوري، إداري، فكري / إبداعي، تدريبي وفي مختلف الاتجاهات. نهض العملاق حينها ودمّر «مكان إقامته الضيّق: الواقع اللبناني»، وبدأ برسم خريطته وتوسيعها باتجاه سوريا كلها.
الخلاص: أن ينهض العملاق ويدمّر منزل الأزمة.

*باحث وكاتب سوري