لا بدّ بداية من تقدير مستوى التحليل في برنامج الحزب الشيوعي اللبناني الصادر في جريدة «الأخبار» يومي 22 و 23 حزيران الجاري. وهو مستوى (سبق وتدرّبتُ عليه لسنوات) «يُواصل في الشمولية ما دأب عليه كُتّاب برامج مؤتمراته حول تفاقم تدهور أوضاع المجتمع اللبناني واستفادة أغلب المسؤولين في الحكومات المتعاقبة من الفوائد السياسية و/أو المادية لهذا التدهور المتواصل خلال عقود. واقترن هذا التدهور خلال أكثر من عقدَين بضمور الحضور الوطني للمثقفين والنقابيين ضموراً ينعكس اليوم ارتفاعاً» يُباهي بثوريته الشباب المتعلّم في قواعد الحزب في نقاشاته السياسية مع شباب آخرين، ويُباهي بها ما تبقى من حضوره المحدود في الإدارات الحكومية والقطاع الخاص مباهاة تستثير الأعصاب. في حدود مثل هذا الضمور يشتدّ الانتماء وتشتد المواجهة ويتعمّق التحليل «المُنزّل في التعبئة الحزبية خاصة. ويظهر ذلك في صفحات برنامج الحزب اللبناني عن فهم قيادته لموجبات «المرحلة الانتقالية»» التي نتوقف معه عندها اليوم لنلاحظ توقفه أمام «فشل السلطات التشريعية والتنفيذية وشللها...»، وأمام ما يثيره من مخاطر منها «تفاقم الأزمة النقدية والمالية» وما ظهر معها من «انهيار البُنى التحتية ووظائف الدولة الأساسية» وما نتج منها: «على الصعيد الاجتماعي من بطالة وهجرة وتهميش وخصوصاً بين الشباب» وما قادت إليه هذه المخاطر من ضرورة «العمل السياسي من أجل التنظير الحقيقي... ويؤسس لبناء دولة ديموقراطية علمانية... واقتصاد يلبّي تطلعات الشباب والمتعلمين والنساء والطبقة العاملة والفئات المتوسطة والعدالة الاجتماعية بدلاً من اقتصاد... لا يليق بلبنان في القرن الحادي والعشرين».
«جميع مكونات حالة الاعتراض الوطني الديموقراطي مدعوة إلى مسار إنقاذي على أساس عقد اجتماعي»، داعياً «جميع الحلفاء» (؟) إلى إقرار قانون انتخاب يعتمد ما تقول به أحزاب أخرى

ويُضاعف القيادي، كاتب البرنامج، من طموحاته في مواجهة مثل هذه المخاطر البنيوية المتفاقمة وهو لم ينسَ تعداد مخاطر الطروحات السياسية المتعلقة بـ«قضايا الحياد والتدويل والمثالثة واللامركزية الموسّعة والفدرلة.. وإخضاع البلد لأكبر عملية هيركات للودائع ...»، وأنه يضع مواجهة مثل هذه المخاطر، في رقبة دولة مهدّدة بالتفكّك تستورد ولا تُنتج وهي تمرّ بأصعب مراحل تدهور عملتها وإدارتها ومرافقها العامة وعجزها عن الاستدانة من محيطيها العربي والدولي. بل يذهب القيادي في تثوير تطلباته على رأس الحزب وقد نسي أنه بلد مهدّد بلا حدود لمواجهة سلطات متدهورة، كما كتب في البرامج، تُدار بين «أيدي خمس أو ست زعامات» أوصلت القوى الطائفية الحاكمة إلى حد الاختباء وراء «حكومات تكنوقراطية» مفكّكة. لا بل يُغالي في تقديره أن مجموعات شباب الانتفاضة لا تلزم الحضور وإن كانت قد أتت رداً على أزمة الرأسمالية اللبنانية، ناسياً أن هذه المجموعات لم تكرر ظهورها في قلب العاصمة بعد أن احتلت (1%) من اتفاقيات قواعد الزعامات الطائفية.
ولكن كاتب برنامج الحزب عاد وأدرك أن «أهداف الانتفاضة ليست من النوع الذي يمكن تحقيقه عبر برامج مجتزأة أو فئوية أو ذات طبع مطلبي بحت، بل هي من النوع الذي يتطلب برنامجاً متكاملاً وجذرياً يُنهي مرحلة ويبني على أنقاضها مرحلة جديدة ... نوع يستند إلى متغيرات (لم ولن تتوفر في ظل نظام الطائف)» تدفع «إقليمياً باتجاه تغيير مرحلة الديموقراطية _ التوافقية التي أنتجت نظام المحاصصة». إنه التغيير الذي أسنده الكاتب مسرعاً إلى النظرية الماركسية التي يرى أنها قادرة في لبنان على «بلورة عقد اجتماعيّ جديد يقوم على أسس العدالة الاجتماعية ويؤمن (بضمانة ماركس) صعود الطبقات والفئات التي تعتمد مداخيلها على العمل بدلاً من الاعتماد على الريع». ولا ينسى كاتب برنامج الحزب تذكير «جميع مكونات حالة الاعتراض الوطني الديموقراطي على السير معاً باتجاه مسار آخر إنقاذي يطرح الحزب الشيوعي فيه تأسيس عقد اجتماعي... ويدعو جميع الحلفاء (الذين لا يرى منهم أحداً في مظاهراته، ما عدا النائب أسامة سعد ومواليه) لإقرار قانون انتخاب يعتمد ما تقول به، (ولو عن ظهر قلب) أحزاب أخرى». ويدعو الحزب فيه إلى «الحد من تأثير الخطاب الطائفي ومن استحداث مجلس شيوخ قلّما يميل إلى الحديث عنه زعماء الطوائف... ووضع قانون وطني جديد للأحزاب السياسية يتماهى مع عملية التحرر التدريجي من الطائفية»، مع العلم أن الدعوة إلى هذا القانون ستظل، ولسنوات بعيدة، طرحاً (نضالياً وحسب) في غياب الظروف الإقليمية والدولية الملائمة للتخلي عن الطائفية. وهذا ما يقلل من حظوظ الوعي والتقدم التدريجي لأجيال عديدة من فقراء الطوائف لإقلاعها عن موالاة زعمائها المدعومين إقليمياً و/أو دولياً.

* باحث في علم الاجتماع