إنه لمن المفاجئ حقيقةً للباحث الأمين والمحايد أن يلاحظ قلّة الدراسات ـــ الأكاديمية بشكل خاص ـــ التي تناولت أعمال الشهيد السيد محمد باقر الصدر، لا سيما منها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بشكل رصين ودقيق، والأهم، بشكل علميّ محايد أيديولوجيا. فلنأخذ عمل الصدر الشهير، مثلاً، حول البحث عن المذهب الإسلامي في الاقتصاد، وهو عمل اقتصادنا (١٩٨٧، الطبعة السادسة، بيروت: دار التعارف). وقد نشره الصدر في خضمّ الصراع الفكري الأيديولوجي بين الماركسية من جهة، والرأسمالية من جهة أخرى، في النصف الثاني من القرن العشرين. فمن النادر أن نجد حوله أبحاثاً نقدية محايدة وجدّية واقعاً، وذلك من وجهة النظر العلميّة، لا في صفّ المدافعين ولا في صفّ المهاجمين. وقد صُعقتُ على المستوى الشخصي، حقيقةً، عندما وصلتني فيديوات ومقولات لصحافيين ورجال دين تسخر بشكل واضح من هذا العمل ومن صاحبه، من دون أيّ اعتبار للحياد وللأمانة العلمية.
محمد باقر الصدر

إنّ أطروحتنا المركزية في هذا المقال تتمحور حول فكرتين مركزيتين لا بدّ من ذكرهما، برأينا، إنصافاً للبحث العلمي بشكل عام، ولمستقبل العلوم الإسلامية بشكل خاص. أولى هاتين الفكرتين هي: التشديد على أنّ عمل اقتصادنا ليس عملاً عابراً في مجال الدراسات المعنية بتجديد البحث الإسلامي المعاصر. وثانيتهما: أنّ التركيز يجب أن يتمحور، بالتالي، حول الإسهامات الأبستمولوجية (أي المعرفية) والمنهجية (الظاهرة منها والضمنية) لهذا العمل، أكثر من الإسهامات المفاهيمية الجزئية النهائية (كطرحه مثلاً حول مفهوم «العمل المنفق» في وجه الرأسمالية، وحول «استمرارية الملكية» في وجه الماركسية إلخ.). وهذا التركيز هو الذي سوف يهدينا، في نهاية المطاف، إلى ضرورة التقريب بين التفكيرَين المعرفي (الأبستمولوجي) والمنهجي (الميتودولوجي) عند الصدر من جهة، وهذين التفكيرين عند ماكس فيبر من جهة أخرى، لا سيما من زاوية استعمال فلسفة «النموذج ـــ المثالي» الفيبرية (مع استخدام أُطرها الأبستمولوجية الأساسية)، وذلك، عند التعامل مع الأبحاث الإسلامية ذات الطابع «الفَهمي-التأويلي».
فإننا نعتقد، بصراحة، أن أغلب ناقدي هذا العمل، إما وقعوا في فخ الحُكم القِيمي كما حدد معناه الفيلسوف والعالم الألماني ماكس فيبر (١٩٦٥، «كتابات حول نظرية العلم»، ترجمات جوليان فرويند، باريس: بلون Plon)، أو أخطأوا في التصويب على الجوانب الجزئية دون الجوانب الأهم وهي الجوانب المعرفية والمنهجية. وهذه الأخيرة تشكل برأينا ـــ وبكل موضوعية ـــ ثورة في عالم البحث حول المواضيع الإسلامية، وهذا ما لم يلاحظه أكثر ناقدي اقتصادنا كما سنفصّل (١). ومن المهمّ في هذا السياق التشديد على أننا لسنا بصدد الدفاع الأيديولوجي أو الديني أو الحزبي عن السيد الصدر، وإنما بصدد الدفاع عن الأمانة العلمية، وخصوصاً، بصدد الكشف عن كنوز ثمينة لمستقبل الدراسات حول تجديد منهجية البحوث الإسلامية أو ذات الطابع الإسلامي عموماً. نحيل، بالنسبة إلى التعريفات المتعلّقة بالأبستمولوجيا (أي فلسفة المعرفة) والميتودولوجيا (أي علم المنهجية) إلى أعمال ماكس فيبر، وشيوخ مترجميه ومفسّريه على غرار جوليان فرويند وريموند آرون وفيليب راينو في فرنسا.
إن النموذج ـــ المثالي عند ماكس فيبر، وكما تفهمه هذه الورقة، هو أداة قياس مفاهيمية (بمعنى Mesure conceptuelle) بامتياز، تساعد على بناء المفاهيم، من دون أحكام قيمية، وعلى المقارنة بين هذه المفاهيم، وبينها وبين الواقع، بهدف استخراج النتائج النظرية وبناء العلاقات السببية في العلوم الإنسانية والاجتماعية. ولا يستطيع الباحث أن يدّعي: (١) فهم موضوع أو ظاهرة ما من دون بناء نموذج ـــ مثالي عنه أو عنها؛ (٢) ولا أن يقيم علاقات سببية إلّا بعد إتمام هذا البناء الذهني المنطلق من دراسة المعطيات. وهو بناء لا يدّعي أنه الصحيح دينياً أو قيَمياً، ولا أنه الوحيد الممكن، ولا أنه الواجب اعتماده، ولا أنه يمثل كل تجلّيات الموضوع في الواقع الخارجي وفي النصوص. هو يدّعي، فقط، أنه أداة للبحث العلمي: نبنيه لنفهم السمات الأساسية لظاهرة أو لموضوع ما، ثم نناقشه، قبل أن نقابله مع النماذج ـــ المثالية الأخرى الممكنة ومع الواقع (الذي تمثّله المعطيات). ويتم بذلك فتح الباب على مصراعيه أمام البحث العلمي المحايد، وأمام الطرد النهائي للحُكم القيَمي ـــ وللتكفير العلمي المتبادل ـــ بين الباحثين حول هذه المواضيع الإسلامية. من هنا، يصبح لدى الباحث المعني ـــ حسب طرحنا المركزي ـــ أدوات معرفية تمكّنه من الحفاظ على التموضع العلمي (راجع: «الحياد الأكسيولوجي» و«العلاقة مع القيَم» الفيبريَين في المراجع المذكورة)، وأداة منهجية تذكّره على الدوام، إلى جانب طريقة الطوابق الصدرية (المعروضة في ما يلي)، أنه ببساطة في صدد بناء نماذج ـــ مثالية قابلة للنقد والنقض. ونعتبر بالتالي أن إسهام اقتصادنا الأهم هو في فتح الباب أمام هذا التقريب ذي الخطورة المنهجية القصوى، وربما التاريخية في سياق منهجية العلوم الإسلامية.
يشدد السيد الصدر على الامانة العلمية في الفصل الراديكالي بين المذهب المعني بمسائل العدل والاحكام القيَمية، وبين العلم بما هو علم الاقتصاد


فمن البديهي عندنا أن ما قام به الصدر في طرحه هو، عملياً، بناء نماذج ـــ مثالية ضمنيّة حول كلّ قضية اقتصادية. إذ، بعد نقده للفلسفتين الماركسية والرأسمالية، يصل الصدر إلى لبّ الموضوع وهو «استكشاف» المذهب الاقتصادي للإسلام (أو المذهب الإسلامي في الاقتصاد). وهو ـــ بكل أمانة علمية وفي فصل منهجي سنعود إليه في ما يلي ـــ يشدّد على التمييز بين علم الاقتصاد والعلم بالمذهب الاقتصادي، ويشدّد على أنه في صدد دراسة الثاني، وهي قضية لا يزال يشتبه عندها كثير من الباحثين والمراقبين. ولذلك نشدّد مجدداً على أهمية وضع القضايا الأبستمولوجية في أول قائمة العلوم البحثية المعنية بالإسلاميات. المهم، في الجزء الثالث، يبدأ الصدر بعرض منهجية ونتائج بحثه حول المذهب الإسلامي في عدة مواضيع اقتصادية. وما يتوجب أن يلفت نظر الباحث برأينا هو، قبل أي شيء، الملاحظة التالية: وهي أننا أمام مرجع إسلامي مجتهد، يتعامل مع الأحكام الفقهية وآراء الفقهاء (من كل المذاهب والعصور) على أنها معطيات للدراسة الحيادية نسبياً (على الأقل كما يريدها هو). وما هذه المسألة بالعابرة بالمعنى الأبستمولوجي كما رأينا وسنرى بشكل أدق: فقد أصبحت أقوال الفقهاء وأحكامهم معطياتٍ للبحث العلمي («الموضوعي» كما يصفه الصدر في اقتصادنا). إنها إذن نقطة جوهرية: فالصدر يسمح لنا من جهة بأن نتعامل كباحثين مع معطيات هي ذات طابع ديني أو شبه ديني؛ ومن جهة أخرى، لا ينفي فكرة أن نبقى، مع ذلك، ضمن البحث الذي يسمّيه بالموضوعي.
غير أن إسهامات هذا العمل المهمة لا تقف عند هذا الحد، في إطار ما نطرحه في هذه الورقة. فالسيد الصدر يتحدث، ضمن شرحه المنهجي، عن طريقة يسميها بـ«طريقة الطوابق». وهي تعني أنه يمكن للباحث أن يستقري (من استقراء) المعاني المفاهيمية ثم الأبنية النظرية، وذلك من خلال دراسة أبواب الفقه. فالفرضية الأنطو-أبستمولوجية الصدرية في اقتصادنا تعتقد بوجود هذا المعنى المفاهيمي خلف أقوال الفقهاء المتعدّدة والمتشعّبة والمتقابلة من جهة، ومن جهة ثانية، تعتقد بإمكانية استقرائها أو استخراجها أو استنتاجها مع الحفاظ على الموضوعية. نحن إذن في عالم «فَهمي» (أو «تأويلي») بامتياز بالمعنى الذي تتبنّاه المدرسة الفَهمية ـــ التأويلية المعاصرة في العلوم الاجتماعية، وخصوصاً مؤسسها الأبرز وهو العالم والفيلسوف الاجتماعي الألماني ماكس فيبر (ت. ١٩٢٠). ونصل هنا بوضوح لا ريب فيه إلى أهمية تفعيل الرابط بين تفكير محمد باقر الصدر والمدرسة الفيبرية. ونذكّر هنا، مع رايموند آرون (١٩٦٥، «مراحل تطور التفكير الاجتماعي»، باريس: غاليمارد Gallimard) أن للعلم الفيبري سمتَين رئيسيتَين حقيقةً، وهما: «عدم الاكتمال الجوهري» (العلم هو مستقبل العلم) من جهة، و«الموضوعية» من جهة أخرى. لذلك، يكون من المهم أن نبقى قريبين من نظرة فيبر الأساسية التي تشدد على الموضوعية، بخلاف التيار المعاصر المهيمن حالياً في المدرسة الاجتماعية التأويلية، والذي يعتبر التأويل «تنظيماً للمعنى الذاتي (غير الموضوعي) من خلال المفاهيم». أما نحن، فنأخذ الفهم ـــ على غرار الصدر وفيبر ـــ على أنه «انتزاع، لكن موضوعي، للمعنى الممكن» (أو بحث عنه)، والتأويل على أنه «تنظيم-ترجمة، من خلال المفاهيم أيضاً، لكن للمعاني الموضوعية الممكنة» التي يمكن استقراؤها من أقوال ونقاشات الفقهاء.
إنّ طريقة الطوابق هذه تقول إذن بالانتقال من دراسة الأحكام الفقهية الجزئية التفصيلية حول موضوع معين، إلى استقراء المعاني المفاهيمية الممكنة أو المرجّحة حوله أيضاً، ثم إلى استقراء المباني النظرية (بالمعنى الأيديولوجي) حوله. ونحن، ولو اختلفنا أنطولوجياً مع السيد الصدر حول الاعتقاد بوجود (أو عدم وجود) معنى مفاهيمي ـــ نظري مؤكّد ويقيني خلف أحكام الفقهاء في كل باب، فمن الحكيم أن نلتقي معه حول مبدأ استعمال أحكام الفقهاء كمعطيات، وحول مبدأ طريقة الطبقات، وذلك في سبيل: الفهم العلمي الموضوعي للمعاني المفاهيمية ـــ النظرية الممكنة خلف خطاب هؤلاء. ومن شأن هذا الالتقاء الأكاديمي أن يؤسّس لصفحة جديدة في منهجية العلوم الإسلامية. لكنّ جرأة الصدر لا تتوقف عند هذا الحد، بل تتعدّاه إلى مفهوم أصبح معروفاً في العلوم الحوزوية المعاصرة وهو مفهوم «منطقة الفراغ». ففي خضمّ نقاشه لمسائل نظرية جزئية في باب التوزيعين الابتدائي للموارد الطبيعية، والثانوي لعوائد الإنتاج، يعترف الصدر بقضية أنطولوجية مهمة. فهو يصرح بأنه، خلال الغوص في الطوابق المذكورة، قد لاحظ أن الشارع المقدس (وهو الله جل وعلا، في نهاية الأمر، حسب اعتقاده) قد ترك ـــ لحكمة ما ـــ مناطق فراغ تشريعية، لا بد للإمام المجتهد من أن يملأها حسب سياق كل عصر وكل واقع (ضمن الهامش المشروع طبعاً). ثم يشرح السيد الصدر أن منطقة الفراغ التشريعية هذه لا بدّ من أن تؤدّي إلى مناطق فراغ مفاهيمية بطبيعة الحال، وهو قول سديد طبعاً. ومن هنا، يفتح الصدر باباً كبيراً آخر أمام التقريب بين البحث الإسلامي والبحث العلمي، لا سيما البحث العلمي التأويلي كما عرّفناه، إذ يقر بما يمكن تسميته: بوجود تأويلات مفاهيمية متعددة ممكنة ـــ لا تأويل واحداً ـــ لكثير من المواضيع. لذلك نرى السيد محمد باقر الصدر يتحدث عن عدة نظريات إسلامية ممكنة حول الموضوع الواحد. وهذا أمر خطير آخر على المستوى الأبستمولوجي والمنهجي، إذ يدفع بنا دفعاً نحو المفاهيم الفيبرية الأساسية.

ماكس فيبر

في الخلاصة، وفي سبيل الدفاع عن أطروحتنا في هذه الورقة، ينبغي أن نشدّد على نقاط أساسية ثلاثة في ما يخص إسهامات اقتصادنا الأبستمولوجية والمنهجية. (١) النقطة الأولى هي مبدأ اتّخاذ أقوال وأحكام الفقهاء (أي خطابهم بشكل عام) كمعطيات للبحث العلمي المحايد أو شبه ـــ المحايد (كما في اقتصادنا)، أي كمعطيات يمكن التعامل معها على هذا الأساس رغم طبيعتها القريبة من عالم المقدَّس وعالم القيَم. (٢) النقطة الثانية هي طرح طريقة الطوابق، حيث نرى أن السيد الصدر ينطلق من أحكام أبواب الفقه، ليغوص نحو العمقَين المفاهيمي والنظري (اللذين يكوّنان «المذهب الإسلامي» برأيه)، مع اعتباره ـــ الأنطولوجي ـــ أن هناك وبالتأكيد وجوداً لهذين العمقين خلف أحكام الفقه الفرعية والجزئية في كل موضوع. وبالإضافة إلى هاتين النقطتين الجوهريتين والسبّاقتين بلا أدنى شك واللتين تقرباننا بشكل لافت من البحث «الفَهمي-التأويلي» بالمعنى العلمي المعاصر كما أسلفنا، تبقى النقطة المركزية أبستمولوجياً هي: (٣) مسألة منطقة الفراغ التشريعية ـــ المفاهيمية، والتي لا يمكن إلا اعتبارها ثورية على المستوى العلمي الصرف. فهذه الفكرة تعتبر، كما يشرح الصدر في ما سيتم عرضه لاحقاً وكما سبق وأشرنا، أن الشارع قد ترك مناطق فراغ تشريعية (وبالتالي مفاهيمية) لا بدّ من أن يملأها الإمام ـــ المجتهد في كل زمان ومكان، ضمن الهامش المقبول طبعاً. وهذا ما يفتح المجال أمام السيد الصدر للقبول بفكرة إمكانية وجود «عدة نظريات إسلامية حول موضوع ما»، قد تكون كلها إسلامية وكلها صحيحة إلى حدّ كبير، ويمكن مقابلتها فيما بينها ومع الواقع التطبيقي، مع بقاء الحكم النهائي بيد الإمام ـــ المجتهد في الزمان والمكان المحددين. وهذه المسألة الأخيرة هي التي دعّمت عندنا، نهائياً، فكرة التقريب بين هذه الفلسفة وفلسفة «النموذج ـــ المثالي» عند ماكس فيبر. لكن، لنتوقّف قليلاً عند بعض المقتطفات والنقاط المهمة للسيد محمد باقر الصدر في اقتصادنا والتي تبيّن، إيجازاً، ما يتم طرحه في هذه الورقة (الصدر، ١٩٨٧، مصدر مذكور، «عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي»، ص.ص. ٣٥٥ وما يليها).
من البداية، يبدو السيد الصدر في موقع المشدّد على الأمانة العلمية في الفصل الراديكالي بين المذهب (الأيديولوجي) من جهة، المعني خصوصاً بمسائل العدل والأحكام القيَمية، وبين العلم بما هو علم الاقتصاد (أو الاجتماع أو غيره بطبيعة الحال). وهذا ما يؤكّد لنا عمق التفكير الأبستمولوجي الساند والسابق لعمل اقتصادنا. على أنه، أي الصدر، يشدّد على فكرة وجود بُعد مفاهيمي خلف أقوال وأحكام الفقهاء المتنوّعة والمتشعبة والمتفرقة، عبر المذاهب والعصور، وهي أطروحة أطروحات اقتصادنا بخلاف ما توقف عنده الأكثرون. «إن تعبيرَي (الحلال والحرام) في الإسلام تجسيدان للقيم والمُثل التي يؤمن بها الإسلام، فمن الطبيعي أن ننتهي من ذلك إلى اليقين بوجود اقتصاد مذهبي إسلامي»، (مصدر سابق، ٣٦٣). نكاد نظنّ من خلال هذه الكلمات أننا نقرأ باحثاً فيبرياً بامتياز (راجع حول «العلاقة مع القيم»: فيبر، مصدر سابق؛ آرون، مصدر سابق؛ فرويند، ١٩٦٦، [العلم الاجتماعي عند ماكس فيبر]، باريس: PUF). إن هذه الجملة الأخيرة عند الشهيد الصدر تختصر بشكل واضح طريقة الطوابق المذكورة مع فلسفتها المؤسِّسة. ومن هنا نشرف على جوهر الطريقة: «وكون المذهب قاعدة نظرية للقانون لا ينفي اعتبار المذهب بدوره بناء علوياً لقاعدة يرتكز إليها، فإن البناء النظري الكامل للمجتمع يقوم على أساس نظرة عامة، ويضمّ طوابق متعددة يرتكز بعضها إلى بعض، ويعتبر كل طابق متقدّم أساساً وقاعدة للطابق العلوي المشاد عليه. فالمذهب والقانون طابقان من البناء النظري، والقانون هو الطابق العلوي منهما الذي يتكيّف وفقاً للمذهب، ويتحدّد في ضوء النظريات والمفاهيم الأساسية التي يعبّر عنها ذلك المذهب»، (ص. ٣٦٥).
نحن، بالفعل، إذن، ضمن طريقة فَهمية بامتياز بالمعنى العلمي المعاصر، هدفها هو استقراء (أو بناء أو إعادة بناء) المفاهيم من خلال دراسة أحكام ونصوص فقهية (ذات طابع ديني أيضاً). غير أن الصدر يعتقد، أنطولوجياً، أن الباحث الإسلامي (وهو باحث غير محايد عقائدياً كما يمكن الاستنتاج من خلال خطابه) يستكشف مفاهيم هي موجودة وقائمة أصلاً، بعكس الباحث «الرأسمالي أو الاشتراكي» الذي يقوم عملياً بتكوين هذه المفاهيم (ص. ٣٦٨). مع احترام تموضع السيد الصدر، الإسلامي طبعاً، فإننا نعتبر أن الباحث المحايد، هو في صدد بناء هذه المفاهيم، من خلال بناء النماذج ـــ المثالية في كلّ موضوع ومجال، كما فعل الصدر نفسه، ضمنياً، في عملية استقراء المفاهيم الإسلامية. ومن الممكن أن نتبنى تموضعاً قريباً من التموضع الإسلامي هذا من خلال الحديث عن «محاولة إعادة بناء» هذه المفاهيم، لكن من الضروري برأينا أن نبقى ضمن عملية «بناء»، وذلك للحفاظ على الحياد الأكسيولوجي الذي سبق ذكره. غير أن المقاطع الأكثر بلاغة في ما يخص بحثنا هي المتعلقة بمنطقة الفراغ ونقاش الذاتيّة (ص. ٣٧٨ وما يلي): «وحيث جئنا على ذكر منطقة الفراغ في التشريع الاقتصادي، يجب أن نعطي هذا الفراغ أهمية كبيرة خلال عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي، لأنه يمثل جانباً من المذهب الاقتصادي في الإسلام (...). ونحن حين نقول (منطقة فراغ)، فإننا نعني ذلك بالنسبة إلى الشريعة الإسلامية ونصوصها التشريعية، لا بالنسبة إلى الواقع التطبيقي للإسلام، الذي عاشته الأمة في عهد النبوة». حيث أن النبي الأكرم (ص) هو الذي ملأ الفراغ في هذا العهد بوصفه ولي الأمر (أو الإمام والمجتهد معاً) لا النبي والرسول (وهي فكرة شديدة الجرأة صراحة): «غير أنه (ص) حين قام بعملية ملء هذا الفراغ لم يملأه بوصفه نبياً مبلغاً للشريعة الإلهية، الثابتة في كل مكان وزمان (...) وإنما ملأه بوصفه ولي الأمر، المكلف من قبل الشريعة بملء منطقة الفراغ وفقاً للظروف»، (ص. ٣٧٨). هل يمكن الادّعاء بعد مقطع كهذا أننا لسنا أمام عمل «خطير» بالمعنى العلمي، وخصوصاً بالمعنى الأبستمولوجي ـــ الميتودولوجي؟
بالطبع، الجواب عندنا هو بالنفي. وكثيرة هي المقتطفات التي يمكن استخراجها من كتاب اقتصادنا تأييداً لطرحنا في هذه الورقة. على أن المقاطع الأهم بلا أدنى شك هي المتعلقة بالنتائج المترتبة على فرضية منطقة الفراغ هذه. «إن الصورة التي نكوّنها عن المذهب الاقتصادي، لما كانت متوقفة على الأحكام والمفاهيم، فهي انعكاس لاجتهاد معين، لأن تلك الأحكام والمفاهيم التي تتوقف عليها الصورة [لاحظ تعبير «الصورة» المرتبط حميمياً بمفهوم «النموذج ـــ المثالي» الفيبيري] نتيجة لاجتهاد خاص في فهم النصوص [لاحظ تعبير «فهم» الجوهري في هذا الإطار]، وطريقة تنسيقها والجمع بينها. وما دامت الصورة التي نكوّنها عن المذهب الاقتصادي اجتهادية، فليس حتماً أن تكون هي الصورة الواقعية، لأن الخطأ في الاجتهاد ممكن». نحن، بكل وضوح، في منطقة لا شك بقربها الحميم جداً من منطقة بحث النموذج ـــ المثالي عند ماكس فيبر. «ولأجل ذلك كان من الممكن لمفكرين إسلاميين مختلفين أن يقدموا صوراً مختلفة للمذهب الاقتصادي في الإسلام، تبعاً لاختلاف اجتهاداتهم، وتعتبر كل هذه الصور صوراً إسلامية للمذهب الاقتصادي (...)»، (ص. ٣٨١). نتوقف عند هذا الحد، مقتنعين أننا، بلا شك، بالمعنى العلمي: في عالم النماذج ـــ المثالية الفيبرية، أي في عالم نظريته عن بناء المفاهيم.
(1) وردت أولى نتائج هذه الأعمال في أطروحتنا للدكتوراه من جامعة باريس ٢، والتي نالت الاعتراف الأكاديمي اللازم من وجهة نظر قيمتها العلمية:
Abou Hamdan, Malek, 2013, Produits Dérivés, Risques de Marché et “Gharar”: Recherche d’une Alternative Islamique, Université Paris II Panthéon-Assas (Thèse , Lauréat du Prix de l’Université en 2015, consultable sur www.theses.fr ).
* خبير اقتصادي ومالي ـــ باحث في المالية الإسلامية