لم يكن مولده في مطلع آذار إلا بالزمن. أمّا مولده بالنهضة فكان في الدفْق، وفي زخْم الزوابع... كأنّ أبهى شراعٍ شَقّ الطريق وانبسط عند الأفق هو الشراع الذي اغتسَلَ بنبض الأرجوان واصطبَغَ بحُمرة الجراح، فأمسَتْ جراحه كأنها أجنحته.هوذا الفذ أنطون سعاده، الذي قاوَمَ الغموضَ بالوضوح، والغريزة بالوعي، والعتمة بالإشعاع، والاجترارَ بالإبداع، والحرفَ بالروح، والجبنَ بالثقة، والشك باليقين، والعارَ بالشرف، والجفافَ بالعطاء، والانسدادَ بالانفتاح، والفردية بالوجدان القومي، والعصبية بالعقلنة، والاستلابَ بالانتماء، والتعايشَ المصطَنَع بوحدة الحياة، والولاءاتِ المبعثرة بالمُواطَنة الجامعة، وضياعَ القِيَم بحقيقة معرفتها، وعِلمَ الكلام بِعِلم التفكير، وصغائر النفوس بِعَظَمة المقاصد، ومصلحة المذهب الغَرّارة بمصلحة الأمّة العليا.
نَبَذَ الذلّ المُطاوِع آخِذاً بالعِزّ المقاوِم. قاومَ الانتداب والاحتلال والأمرَ المفعول، رَفَضَ الانسياق والإذعان والتحجُّر والعادات القاصرة، مُتبنّياً المبادرة والإنشاءَ والفِعلَ والإنجاز. مِنْ هنا ربْطُه الإنسانَ بالمجتمع، والوعيَ بالصراع، والانهدامَ التربوي بالبناء النفسي، والأصالة بالتجدد، والاقتصادَ بالإنتاج، والعملَ بالأخلاق، والنهوضَ بالتحرر، وألقَ الدعوة بألق الاستشهاد، ومشروع الوحدة بتوفير عواملها التي يتصدّرها فصلُ الدِّين عن الدولة.

لقد آمنَ سعاده بأن الثقافة، في شتّى تَمَظهُرَاتها، مرتبطة قَطْعاً بالإبداع، والإبداع المقصود مهارةُ تجذيرٍ وابتكارٍ وإغناء. لذلك لا معنى لثقافة أو لعقيدة إذا لم تختزن خميرة الثقافة التغييرية، ولم تُترجمِ تلك الخميرة في داخلها أو لم تُخصبه في مسارها. وما من ريب في أن الخوف من الحرية الفكرية المسؤولة يقتل الإبداع ويشُلّ محركاته. لذلك يَنسُب المتزمتون إلى كل فكرة جديدة صفة «البِدعة»، وهي تهمة متوارَثة منذ سقراط حتى اليوم. وقد عَبّرَ الشاعر العراقي المعاصر محمد مهدي الجواهري، عن تلك المأساة المتواصلة، ببيتٍ واحد في حفلٍ تكريمي أقيم في مدينة الموصِل لأحد فطاحل التراث الشعري السوري، عنيْتُ أبا العلاء المعري. وكان وزير المعارف المصري الأسبق الأديب طه حسين حاضراً، فلم يتمالك نفسَه حين وصل الجواهري إلى قوله: «لِثورة الفكر تأريخٌ يُذَكّرنا/ بأنّ ألْفَ مسيحٍ دُونَها صُلبا».
إن التُّهَم المُحزنة، بالزندقة والهرطقة والتجديف، هي عُدّة العاجزين عن مواجهة الحقيقة الصّادعة، خصوصاً أولئك الذين لا يفقهون أن السكون عكْسُ الحركة، وأن الجمود على المألوف هو صفةُ المستنقَع لا صفةُ الشلال. أليست الثقافة، بتكثيف المفهوم، تعزيلاً للداخل المتراكم في الذاكرة وفي بُنْيَة الذهن التقليدية؟ ثم كيف يصبح المثقف خلاقاً، كما يليق بالمثقفين التغييريين، ما لم يتحرر من القوالب النمطية، الخشبية، المجافية لدوره ومبرر وجوده ؟
بعضهم يحاول التنحية الجانبية لأسئلة العقل بالرغم من كونه الشرع الأعلى المطلوب اعتماده. وعليه، يهوى ذلك البعضُ الظنَّ و»التبصير» فَيَرفل في أثواب المقدَّس التي خاطَها لنفسه، ومبتغاه إسقاطُها حتى على الآخَرين. لعله نسي أن مؤسسة سعادة للثقافة صرحٌ للعقل الباحث أولاً، وأنّ المؤسسات الحزبية نفسها هي، في المبدأ المعياري البديهي، أُطُر دستورية لتنفيذ الخطط الرؤيوية كما أنها مُحَفّزات للعقل النقدي المستنير. من هنا ضرورةُ قبولِ المراجعة السديدة، ورفضُ التشبث التعسُّفي بأحاديث مزعومة نقَلها فلانٌ عن فلان لكنها لم تكن راجحة في ميزان المنطق. أما صحة الأحاديث وموثوقيتها فمقياسهما أن يطمئن إليهما العقل، لا أن يتنافيا والنهج الذي أرساه المؤسِّس، في مُجمل أعماله التطبيقية والكتابية. ولنا في الخطاب المنهاجي الأول، ثم في مؤلَّفه العِلمي «نشوء الأمم» بفصوله جميعها لا بالفصل الأخير فقط، خيرُ دليليْن على ذلك النهج وخيرُ مرجعيْن إليه.
لذلك، يؤلمنا حتى الأعماق، أن هناك مَنْ لا يزال يُعرِض عن المياه الجوفية التي فَجَّرَها نبْعُ سعاده، ليدافع- بالباطل الفئوي- عن عناوين جوفاء... إلّا من الرنين الإعلاميّ السقيم الذي جعل «بَطَل» بعضِ تلك الشعارات المضمحلّة كالبخار- يُرسل إلى ليبيا في الثمانينيات فصائلَ مقاتِلة للذوْد عن جماهيرية القذافي ضد دولة أفريقية أخرى هي تشاد!!! ونكتفي حالياً بذِكْر تلك الصفحة السوداء فقط إسهاماً في العِبرة النَّصوح.
ثمّة أفراد من تلاميذ سعاده يترضّضون من عواصفه الفكرية فتُطربهم عيّنات من المرويات المزعومة تاريخيةً، والمزروعة في اللاوعي الأسطوري. لكنّ إِسباغ صفة «التابو» على تلك المرويات المحدودة والكليشيهات الضعيفة يتنافى وحركة العقل الطامحة إلى تغيير مجرى التاريخ، فهما إذْ ذاك لا يلتقيان لأنهما متى التقيا تَقَزَّمَ العقل وصارت زوبعةُ الفكر طقساً صوفياً في فنجان الدراويش الذي يدور حول نفسه، وكفى عندئذٍ بالفولكلور شكلياتٍ ومظاهر.
في حديث صحافي منشور في باريس عام 1984، سُئل الفيلسوف ميشال فوكو الذي كتب منهجياً عن نظام الأشياء، إذا كان بالإمكان معالجة الأمور بشكلٍ مختلف، وبالتحديد في السجون الفرنسية، فأجاب أنه فَكّرَ على الدوام بأن الوضعيات يمكنها أن تلد استراتيجيات جديدة، وأن الإنسان ليس حبيسَ التاريخ بل على العكس، إذْ سعى فوكو إلى إثبات أن التاريخ تَعبُره علاقات استراتيجية متحركة، أي قابلة للتغيير. لكنَّ لذلك شرطاً هو أن يمتلك القائمون على هذه المسارات الجرأة السياسية اللازمة لتغيير الأمور.
لقد سُقنا هذا المثل للتأكيد على كيفية انتصار المذهب الوضعي في الفلسفة. لقد انتصر هذا المذهب الفكري في أوروبا أولاً والغرب ثانياً بالاعتماد على أطروحته الجوهرية، وهي أن كل ما هو غير قابل للمراقبة ليس من مضمار العِلم. ولما كانت الحركة السورية القومية الاجتماعية منظومة وضعية نهضوية، فهذا يعني لمُعتنقيها، حتى في اليافطات المتعددة، أن التمسك بالخطأ لا يعدو كونه دعوة ديماغوجية إلى نُصرة افتراضٍ على تجربة، وباطلٍ على حق، بالمعنى العِلمي والمناقبي والإنساني على حد سواء... ولنا عِبرة في خطورة السموم التي بثها زئيف جابوتنسكي، صاحب نظرية «الجدار الحديدي» في المشروع الصهيوني الذي كتب، بمنتهى الصفاقة، ما يجب أن ننقضه بالكلية في حياتنا القومية: «كل إنسان آخَر على خطأ، وأنتَ وحدك على صواب. لا تحاول أن تجد أعذاراً من أجل ذلك، فهي غير ضرورية وغير صحيحة... ليس بوسعك أن تعتقد بأي شيء في العالم إذا اعترفتَ، ولو لمرة واحدة، أن خصومك يمكن أن يكونوا على صواب. ليس في العالَم سوى حقيقة واحدة، وهي بكاملها مُلْكُك أنت»!!!
إن العمل السياسي، بالمنظور الاستراتيجي، شأن مشروع وحيويّ. لكنْ بهدف إِحداث اختراق نوعي في معالجة الأمراض الفاتكة بالمجتمع. وربما يكون الأهمّ من الانخراط في الاستحقاق النيابي العتيد في لبنان، مثلاً، هو الانخراط في الحرب الجادّة على الفساد، وفي الإعداد الاستشرافي لآفاق المرحلة المقبلة وأخطارها، مرحلة الأولويات المعكوسة بالنسبة لدولٍ ومجموعاتٍ وأفراد، حيث الكفاح من أجل الكرامة سيكون مرفوضاً ومُداناً في حين أن الالتحاق بقطار التطبيع لن يكون تفريطاً بالقضية ولا خيانةً لشهدائها بقدر ما سيكون حِكمةً براغماتية مرادفة للاستقرار والازدهار، ومَنْ يعِشْ يرَ.
*أستاذ جامعي وباحث في الحضارات