مع تفاقم ظاهرة تصحّر العراق، وخروج أكثر من نصف أراضيه الزراعية من الخطة السنوية بقرار حكومي بسبب نقص المياه الواردة من دولتي المنبع، تركيا وإيران، وأيضاً بسبب الجفاف الحاد الذي يضرب المنطقة، انقسمت غالبية الساسة العراقيين والمهتمين بالشأن العام إلى فريقين: «أصدقاء» تركيا ركّزوا على مسؤولية إيران في هذه المأساة وأهملوا مسؤولية تركيا. أمّا «أصدقاء» إيران، ففعلوا العكس، ركّزوا على مسؤولية تركيا عمّا يحدث وأهملوا أو أنكروا أي دور لإيران. إذا كانت هذه المواقف تكشف عن واقع الاستقطاب الطائفي السياسي، فهي لا تحتكم منطقاً إلى مصالح العراق وشعبه وثوابته الوطنية.
أدرج هنا بعض المعطيات الموثّقة لتسهيل عملية تقييم مسؤولية البلدين الجارين، تركيا وإيران، وقبل ذلك مسؤولية الدولة العراقية وتخبّطها وتهاونها في إدارة هذا الملف، منذ سبعينيات القرن الماضي حين بدأت تركيا بتنفيذ مشاريع سدودها، مستمدّاً الكثير من معلوماتي من كتابين مهمّين للباحثين العراقيين، فؤاد قاسم الأمير في كتابه «الموازنة المائية العراقية»، ود. سليمان عبدالله إسماعيل في كتابه «السياسة المائية لدول حوضي دجلة والفرات»، وكانا من المصادر الرئيسة لكتابي «القامة العراقية الآن - كي لا تكون بلاد الرافدين بلا رافدين» الصادر في بغداد سنة 2012:
-تدخل العراق كميات من المياه عبر نهري دجلة والفرات وروافد دجلة بنسبة 85% تقريباً من كل مياه النهرين، وتنبع النسبة المتبقية من داخل العراق.
-نسبة كمية المياه الواردة من إيران هي بين 10 و15%. وقد قطعت إيران هذا العام هذه النسبة من المياه بشكل كامل تقريباً، كما قال مستشار وزير الموارد المائية عون ذياب في مقابلة تلفزيونية قبل أسابيع.
-أي أن نسبة 60 إلى 65% من مياه العراق، تأتي من تركيا عبر نهري الفرات ودجلة.
- وفق بيان لرئيس الوزراء العراقي الأسبق إياد علاوي، على موقعه الشخصي على النت، فإنّ «إيراد العراق من المياه لغاية عام 1990 وصل إلى قرابة 45 مليار متر مكعب لكلا النهرين، دجلة والفرات، وما إن استكملت تركيا بناء ستة سدود، أكبرها سد أتاتورك، حتى انخفضت إيرادات النهرين إلى 28 مليار مكعب سنوياً»، ولكن علاوي لم يخبر قارئه ماذا فعل في مواجهة هذه الكارثة!
- وفق مذكّرة بعثتها الخارجية العراقية إلى السفارة التركية في بغداد سنة 1996، فقد أصبح مجموع الإيرادات المائية السنوية لنهر الفرات، فقط عند الحدود التركية -السورية، بحدود 15.7 مليار متر مكعب، في حين كان معدل تلك الإيرادات قبل إنشاء المشاريع التركية أكثر من 30 مليار متر مكعب أي أنها انخفضت إلى النصف تقريباً.
-في العام الجاري، ووفق الأرقام التي أعلنتها السيدة جانين بلاسخارت، رئيسة بعثة الأمم المتحدة في العراق «يونامي»، انخفض الوارد المائي في العراق بنسبة 73%.
-عدد السدود التركية على الفرات فاق 720 سداً كبيراً ومتوسطاً وصغيراً، غالبيتها ضمن مشروع «GAP»، وعلى دجلة أقامت تركيا سداً عملاقاً واحداً هو سد أليصو وسعته 10 مليارات متر مكعب، وتخطط لسد عملاق آخر هو سد «الجزرة» على دجلة وعلى مسافة 35 كلم من الحدود العراقية.
-قياساً على نسبة المياه الواردة التي خسرها العراق، فمسؤولية تركيا أثقل بكثير من مسؤولية إيران، التي أقامت سدوداً صغيرة بالعشرات، وحولت مجاري أكثر من أربعين رافداً، بينها أربعة أنهار كبيرة، إلى داخل أراضيها. ولكن تأثير النسبة القادمة من إيران كان قاسياً ومدمراً على محافظة ديالى العراقية خصوصاً، لأن هذه المحافظة الزراعية المحاذية لإيران تعتمد بنسبة تصل إلى أكثر من 80% على المياه الواردة من إيران. وكذلك أثّرت على محافظة البصرة، حين قطعت إيران مياه نهر كارون بشكل كامل، وهو الذي كان يزود شط العرب بـ 30% من المياه، ما أدى إلى صعود اللسان الملحي من الخليج نحو الشمال، وحُرمت البصرة من بعض المياه العذبة، ودُمِّرت غابات النخيل والمزارع على جانبي الشط.
مسؤولية الحكومات العراقية
تتحمّل الحكومات العراقية المتعاقبة منذ سبعينيات القرن الماضي، وحتى قبل ذلك، مسؤولية السكوت على المشاريع المائية التركية التي شرعت بها تركيا والتهاون معها مذاك. إن تهاون نظام الحكم في العراق قبل الاحتلال الأميركي إزاء بناء السدود التركية طوال فترة السبعينيات حتى سقوطه سنة 2003، يمكن اعتباره جذر وبداية الكارثة التي يعيشها العراق اليوم. لقد طالب النظام السابق فعلاً تركيا بتوقيع اتفاقية لتقاسم المياه ولكن تركيا رفضت، واكتفى بمذكّرات الاحتجاج منشغلاً بحروبه ضد شعبه في الداخل ودول الجوار في الخارج، حتى خسر العراق ثلاثة أرباع مياهه تقريباً.
-أمّا مسؤولية نظام المحاصصة الطائفية الحالي، الذي جاء به الاحتلال الأميركي، فهي مكمّلة ومعمّقة للكارثة التي أسّس لها النظام السابق، بل وزادتها خطورة وكارثية، بامتناع النظام عن تدويل المشكلة والاحتكام إلى المحاكم والهيئات الدولية ضد تركيا وإيران ورفضه استعمال السلاح التجاري المؤثر للدفاع عن حقوق شعبه في مياه أنهاره الدولية. وأوقف تنفيذ المشاريع الإروائية الضخمة التي بُدئَ بها قبل عقود، كسد «بخمة» وقدرته الاستيعابية 17 مليار متر مكعب سنوياً، لأن طرفاً سياسياً كردياً رفضها لأسباب مصلحية ذاتية تتعلق بملكية أسرة بارزاني لأراضٍ بمنطقة السد رغم أنها تسلّمت تعويضاً مالياً عنها من الحكومة في عهد النظام السابق.
الاتفاقيات والمعاهدات المائية بين العراق وتركيا
في سنة 1946، أي في العهد الملكي، وقّع العراق ما يمكن وصفه بأغرب اتفاقية مائية في التاريخ، تنص على أنْ يقوم العراق بتمويل بناء مجموعة من السدود التركية على نهري دجلة والفرات وروافدهما على الأراضي التركية، بهدف «إدامة مورد منتظم من المياه، وتنظيم سيلها أثناء الفيضانات لإزالة خطر الغرق، وحيث قد يظهر أثناء التحريات، أن المواقع الأكثر ملاءمة لإنشاء الخزانات والأعمال المماثلة التي سيقوم بها العراق على نفقته تماماً، كائنة في الأراضي التركية»، كانت الحكومة العراقية الخاضعة تماماً لبريطانيا قد شكّلت وفدها للتفاوض مع السلطات التركية برئاسة وزير الخارجية عهد ذاك نوري السعيد، وكان رئيس الحكومة حينها حمدي الباجه جي، وضمَّ الوفد العراقي المسؤول البريطاني أتكنسن مدير الري العام! وحين اطّلعت الحكومة العراقية على مسوّدة المعاهدة رفضتها، وأمرت نوري السعيد بعدم التوقيع عليها والعودة إلى بغداد، ولكنه خالف أوامر حكومته وواصل التفاوض ثم وقّع عليها، فالسعيد كان يأخذ أوامره من المستشار البريطاني أتكنسن وليس من رئيسه العراقي حمدي الباجه جي. وأخيراً، وافق عليها مجلس الوزراء بضغط بريطاني.
في عام 1987، وبعد أن أكملت تركيا عدة سدود عملاقة وبدأت مياه الفرات الواردة إلى سوريا والعراق تقلُّ عن السابق بنسبة كبيرة طالب العراق وسوريا تركيا بعقد اتفاقية لتقاسم المياه ولكن تركيا رفضت الطلب، لأن العراق ليس دولة مجاورة لها - فراتياً - وعقد اتفاقية معه يعني أن الفرات نهر دولي وليس نهراً تركياً عابراً للحدود كما تزعم تركيا، وعقدت تركيا اتفاقية مع سوريا فقط سنة 1987، مع تصاعد الحركة الكردية المسلحة التي بدأت سنة 1984 ووجود زعيمها أوجلان في سوريا آنذاك. تنص الاتفاقية على أنها مؤقتة تمتد إلى خمس سنوات لتقاسم مياه الفرات، وأبرمت في 17 تموز 1987 ونصت على تعهد الجانب التركي بأن يوفر معدلاً سنوياً مقداره 500 متر مكعب في الثانية عند الحدود التركية السورية، واحتُسبت ضمن هذه الكمية حصة العراق.
تتحمّل الحكومات العراقية المتعاقبة منذ سبعينيات القرن الماضي، وحتى قبل ذلك، مسؤولية السكوت على المشاريع المائية التركية التي شرعت بها تركيا والتهاون معها مذّاك
وفي 17 نيسان 1989 وقّعت سوريا اتفاقية مع العراق نصَّت على أن تكون حصة العراق 58% من مياه الفرات، في حين تكون حصة سوريا 42%. وبذلك تكون حصة سوريا السنوية ستة مليارات و627 ألف متر مكعب، وحصة العراق تسعة مليارات و106 آلاف، وحصة تركيا 15 ملياراً و700 ألف متر مكعب سنوياً، وقد وافق العراق على هذه القسمة رغم إجحافها بحقوقه بحساب نسبة طول النهر المار في العراق، إذْ كان ينبغي أن تكون حصته مقاربة لحصة تركيا، أي 15 مليار متر مكعب، فطول الفرات كاملاً 2940 كلم، منها 1176 كم تمر في تركيا، و610 كلم في سوريا، و1160 كلم في العراق، فكيف تكون حصة العراق تسعة مليارات وهو بلد المصبّ وينبغي أن تكون حصته أكبر حتى من حصة تركيا لتعويض نسبة المياه الملوّثة التي تصل إليه؟
وفي عام 1994، سجّلت سوريا اتفاقيتها مع تركيا لدى الأمم المتحدة لضمان الحد الأدنى من حقوق سوريا والعراق. ورغم انقضاء فترة الخمس سنوات على توقيعها منذ ربع قرن، لكنّ الاتفاقية لا تزال فاعلة، يدافع عنها العراق وسوريا، فيما تحاول تركيا التملّص منها، ولم تعد تلتزم بها عملياً، فلم يعد يمر إلى العراق إلا أقل من نصف النسبة المقرّرة.
مماطلة تركية مستمرّة
في سنة 2009، بدأت تركيا التفاوض مع العراق على مذكّرة تفاهم حول مياه الرافدين، ووقّعت المذكرة في سنة 2914، وصادق عليها البرلمان التركي وأقرها الرئيس في العام الجاري. غير أن هذه المذكرة التي تنص على فقرة تقول: «تتعهد تركيا وتلتزم بتأمين حصة معقولة وعادلة للعراق من مياه دجلة والفرات»، لم يبدأ تطبيقها بعد، ولم توضع لها التفاصيل والإجراءات الفنية والتقنية التنفيذية من قبيل كميات المياه المقررة وطرق المراقبة، وهو ما رفضته تركيا على لسان عدد من المسؤولين فيها، والذين قالوا إن «أنقرة لن توقّع اتفاقاً ملزماً بشأن هذه القضية، ويرجع ذلك جزئياً إلى ما وصفوه بالتجربة السيئة مع سوريا بشأن اتفاق لتقاسم المياه في ثمانينيات القرن الماضي» ولأن «التوصل إلى اتفاق قائم على الأرقام مع العراق بشأن تقاسم المياه سينطوي على العمل بمعايير مجهولة، وبالتالي فهو غير واقعي». وهذا منطق مقلوب، فالمعايير المجهولة هي التي تخلو من الأرقام والتفاصيل العملية المحددة والمتفق عليها بين الجانبين وليس العكس.
وفيما تفاقمت مشكلة نقص المياه، وخرج أكثر من نصف أراضي العراق الزراعية من الإنتاج، فإن تركيا تواصل المماطلة في تنفيذها مثلما ماطلت وسوَّفت طوال 13 سنة - من سنة 2009 إلى سنة 2022 - قبل توقيعها.
إن مذكرة التفاهم المذكورة، لا ترقى في نظر القانون الدولي إلى مستوى الاتفاقية الدولية، ولكنها تبقى كحد أدنى مفيدة للعراق إذا قرّر تدويل المشكلة وإقامة دعوى ضد تركيا في المحاكم والمحافل الدولية. أمّا الفقرة التي تنص على «التزام تركيا بتأمين حصة عادلة ومعقولة»، التي احتفل بها المسؤولون العراقيون أيما احتفال، فهي ليست تنازلاً تركياً، بل هي اعتراف تركي غير مباشر بفقرة من القانون الدولي «اتفاقية قانون الاستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية لسنة 1997» (The Convention on the Law of Non-Navigational Uses of International Watercourses)، الذي يقول في الفقرة الأولى من مادته الخامسة: «تنتفع دول المجرى المائي، كل في إقليمها، بالمجرى المائي الدولي بطريقة عادلة ومعقولة». ولكن جذر المشكلة يبقى قائماً في أن تركيا التي لم تصادق على هذه الاتفاقية الدولية لا تعتبر دجلة والفرات نهرين دوليين، بل هما، في نظرها، نهران «تركيان عابران للحدود»، وقد وافقت تركيا على صيغة «تأمين حصص معقولة وعادلة» منذ ثمانينيات القرن الماضي ولكنها رفضت تحديد كميات هذه الحصص واعتبرت أنها هي مَن يقرر هذه الحصص!
كما وردت عبارة «حصص عادلة ومعقولة» أيضاً في الاتفاقية العراقية السورية لسنة 1980 التي تقول: «واقتراح الطرق التي تؤدي إلى تحديد كمية المياه المعقولة العادلة التي يحتاج إليها كل من البلدان الثلاثة». ولكن تركيا قالت إن هذه الاتفاقية لا تعنيها لأنها لم توقّع عليها بل هي بين العراق وسوريا!
الرفض الإيراني يصحّر محافظة البرتقال
إن مسؤولية تركيا، كما قلنا، أثقل من مسؤولية إيران، ولكن تأثير النسبة القادمة من إيران أقسى وأكثر إضراراً بمحافظة ديالى العراقية المعروفة بمحافظة البرتقال وبساتين الفاكهة، لأن هذه المحافظة تعتمد بنسبة تصل إلى أكثر من 80% على المياه الواردة من إيران، ولها تأثير ضار أيضاً على محافظة البصرة حيث قطعت إيران مياه نهر كارون بشكل كامل. المؤسف والمثير للغضب أن إيران لا تبدي أي تجاوب أو تعاون مع الجانب العراقي، وترفض أي تفاوض معه على اتفاقيات سابقة أو جديدة وتكتفي بقطع المياه وإقامة السدود وتحوّل مجرى روافد دجلة وشط العرب من طرف واحد.
يرتبط العراق وإيران باتفاقية «الجزائر 1975» التي وقّع عليها صدام حسين وشاه إيران في الجزائر، وتنازل بموجبها العراق عن الجانب الشرقي من شط العرب العراقي لإيران مقابل أن توقف إيران دعمها العسكري للتمرّد المسلح الكردي في العراق. وفي هذه الاتفاقية ثمّة بروتوكول ملحق يؤكد على عدة مبادئ، منها «ضمان حصص عادلة من المياه للعراق في روافد نهر دجلة»، والعراق يطالب منذ سنوات بتفعيل هذا البروتوكول، ولكن إيران ترفض ذلك، وتطالب بالمقابل بتجديد الموافقة العراقية على «اتفاقية صدام والشاه سنة 1975»، والعراق متردّد في تجديد الموافقة عليها بسبب تحفظ قوى سياسية عراقية مهمة عليها بسبب الإجحاف الذي ألحقته بالعراق وحقوقه في نهر عراقي تاريخياً وجغرافياً.
في هذا الصدد، أدلى السيد عون ذياب، مستشار وزير الموارد المائية العراقي، بالمعلومة التالية للتلفزيون العراقي الرسمي: «خلال آخر زيارة لرئيس الحكومة العراقية إلى إيران خلال العام الجاري رافقه فيها وزير الموارد المائية مهدي رشيد الحمداني، وطلب الوزير العراقي أن يجتمع بنظيره الإيراني، فوافقت إيران على أن يجتمع بنائب وزيرها للطاقة والمسؤول عن ملف المياه، وصارح الوزير العراقي مضيفه بحقائق الوضع السيئ والقاسي في العراق، وضرورة أن يبحث الجانبان هذه المشكلة وفق المبدأ الدولي المسمى "تقاسم الضرر"، لأن إيران نفسها تعاني من الجفاف المناخي كسائر دول المنطقة، وتم الاتفاق على البدء بمفاوضات، ولكن إيران لم تحدد تاريخاً معيناً، وحين وعدت طهران بحضور وفد عنها في مؤتمر للمياه عُقد في بغداد لم يحضر وفدها». ولا تزال إيران توافق على التفاوض وتقدم معسول الكلام في الإعلام، ولكنها تستمر عملياً بقطع المياه عن العراق وتنفذ مشاريعها الضارة به الأمر الذي دفع الوزير العراقي إلى التصريح بأن العراق بدأ فعلاً الإجراءات القانونية والديبلوماسية الهادفة إلى تدويل المشكلة مع إيران.
حلول عراقية ممكنة
إذا اعتبرنا التهديد بتدمير أحد السدود التركية حلاً خطراً وصعب التنفيذ، وهو كذلك فعلاً لسببين: الأوّل، أن العراق بلا سيادة أو استقلال ولا جيش حقيقياً لديه. والثاني، لأن كميات المياه خلف السدود التركية العملاقة هائلة - خلف سد أتاتورك فقط هناك 48 مليار متر مكعب - وسوف يتسبب انهيارها بسبب زلزال أو عمل عسكري بطوفان كارثي قد يصل إلى دول الخليج بحسب الخبراء ويدمّر كل شيء في طريقه، إنما يمكن التهديد به كحل أخير في حال خروج الوضع عن السيطرة وتحوّل الوضع في العراق إلى كارثة شاملة تؤدي إلى موت مئات الآلاف من العراقيين عطشاً وجوعاً، وبدء هجرة جماعية للسكان على ضفاف النهرين عند جفافهما، وبعد اتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة ضد الفيضان المحتمل.
بخلاف الحل السابق، هناك وسائل سلمية ومشروعة أخرى بيد العراق يمكنه استعمالها، وهي أقل خطورة من ضرب السدود، ومنها مثلاً:
-تدويل هذه المشكلة المأساوية قبل فوات الأوان، وتقديم شكوى إلى المحاكم والهيئات والمحافل الدولية ضد تركيا وإيران.
-أن تبدأ الجهات العراقية الرسمية والشعبية وبأسرع وقت ممكن بمقاطعة شاملة للبضائع التركية والإيرانية وإيقاف التعامل التجاري مع البلدين، حيث هذا التعامل مع تركيا يقترب من 30 مليار دولار سنوياً، ومع إيران يقترب الرقم من 20 مليار دولار، حسب الأرقام التي أعلنها رئيس غرفة التجارة المشتركة بين إيران والعراق يحيى آل إسحاق قبل أسابيع. وهو تبادل تجاري مختلّ أصلاً ومن طرف واحد، فالعراق يستورد كل شيء وفي المقدمة الطعام من الدولتين ولا يصدر إليهما شيئاً تقريباً. فعلى سبيل المثال، أعلن «مجلس المصدّرين في تركيا»، في تقرير نُشر خلال شهر تموز الجاري، أن «صادرات قطاع الزراعة التركية حطّمت رقماً قياسياً خلال النصف الأول من عام 2022، مسجّلة 16 ملياراً و462 مليون دولار، وهذا الواقع يعني بكل صراحة أن تركيا وإيران تحتجزان مياه العراق وتستخدمانها للزراعة ثم تصدران منتجاتهما الزراعية إلى العراق بالعملة الصعبة، فأي سلوك هذا الذي لا يمت إلى حسن الجوار والأخوّة الإسلامية المفترض أنهما يربطان البلدان الثلاثة؟
- من نقاط القوة التي يحوزها العراق، عبور أنابيب تصدير النفط العراقية الأراضي التركية، والتي تحصل منها تركيا على نسبة مهمة من حاجتها إلى النفط، إضافة إلى أرباح ضخمة كرسوم عبور وتصدير. إن على العراق الرسمي التفكير جدياً بخطة للتقليل تدريجياً من تصدير النفط العراقي عبر خط الشمال «كركوك - جيهان» وتفعيل الخطوط الأخرى وإعطاء اهتمام أكبر لمشروع ميناء الفاو الكبير وإنجاز تنفيذه في أسرع مدة ممكنة. وإعادة تأهيل خط أنابيب «البصرة - ينبع» المار عبر السعودية. أمّا المرحلة الثانية، فتكون بتأهيل وتفعيل خط أنابيب «كركوك – بانياس» المار عبر الأراضي السورية، أمّا خط البصرة العقبة، الذي تلحّ على تنفيذه حكومات المحاصصة الطائفية بضغط من واشنطن، فهو مشروع عبثي لا يؤدي إلى أي أسواق نفطية مهمة ويفوح برائحة التطبيع ودعم نظم التطبيع العربية الموشكة على الإفلاس.
-ضرورة إقامة مراكز مراقبة نهرية دائمة عند الحدود الدولية للعراق مع تركيا وإيران، تحت إشراف دولي رسمي مناسب من الأمم المتحدة وهيئاتها أو منظمات دولية متخصصة بالمياه والبيئة والتغذية والزراعة، مهمتها تسجيل وتوثيق كميات الوارد المائي الداخل إلى العراق فعلاً عند نقطة الحدود وتحليل نوعية تلك المياه، وتزويد الهيئات الأممية بنسخ من تقارير تلك المراكز. إن هذا الاقتراح سيقوي من مطالبة العراق بحقوقه المائية أمام العالم ومنه شعوب إيران وتركيا، والهيئات الدولية المتخصّصة، ويجعل من الصعب على تركيا الاستمرار في إنكارها وترديد مقولاتها وسوف يتم تفنيد ودحض تحميلها مسؤولية التلوث أو الاستيلاء على حصة العراق لسوريا، لأنَّ هذه الأخيرة ستجد نفسها مضطرة لتطبيق الفكرة العراقية وتقيم مراكز مشابهة لفحص وتحديد كميات ونوعية المياه الواردة لها عند حدودها الدولية مع تركيا.
- البدء ببحث إمكانية استكمال تنفيذ مشروعي سد «بخمة»، ومشروع تحلية مياه منخفض وبحيرة الثرثار الذي يستوعب 37 مليار متر مكعب كطاقة تخزين حية و85 مليار كطاقة تخزين ميتة عند إنجازهما. إن قضية هذين المشروعين، هي قضية حياة أو موت بالنسبة إلى العراق وشعبه، وقد أوقف العمل بهما لأسباب واهية وغير صحيحة.
- إنشاء نظام حديث للإرواء على أنقاض النظام الإروائي «السيحي» البدائي القديم الذي يتسبب بالهدر المائي وتلويث التربة وتسبيخها، نظام حديث يقوم على إشاعة الري بالتنقيط والرش وغيرهما، كان العراق سباقاً في الشرق الأوسط للبدء باستعماله قبل الحرب العراقية الإيرانية وتم إهماله لاحقاً بسبب تلك الحرب، والعناية بمصادر المياه الجوفية والحد من استهلاكها العشوائي وغير المرخّص حيث تقول تقارير حكومية إن أكثر من 50 ألف بئر حُفرت منذ سنة الاحتلال الأميركي وحتى الآن.
- القيام بعمليات مسح جيولوجي وطوبوغرافي وهايدروليكي لحوضي دجلة والفرات وجميع روافدهما ورواضعهما ولجميع البحيرات والمسطحات المائية والمياه الجوفية داخل الأراضي العراقية وجمع النتائج في مؤسسة موسوعية بهذا الخصوص كبنك معلومات الخاص بالثروة المائية العراقية ضمن أكاديمية علمية متخصّصة تؤسس لهذا الغرض. والاستعانة بالرسم والتصوير الرقمي بالأقمار الاصطناعية لرسم وتصوير خرائط علمية دقيقة للأضرار التي ألحقها الجفاف وإنقاص مياه الرافدين بالعراق، وتحديد تلك التي جفّت وخرجت من النشاط الإروائي.
- القيام بعمليات كري وتبطين لمجاري الأنهار والروافد والرواضع في عموم العراق، واعتماد نظام القنوات المغلقة لنقل المياه لتخفيف الهدر بسبب التبخر والذي يفوق الـ 10%. ومنح الأولوية لإنقاذ شط العرب لأنه أكثر الأنهار العراقية حاجة إلى القيام بعمليات الكري والتبطين وانتشال الغوارق، وبناء سد متحرك عليه للاستفادة من الكميات القليلة التي تصل إليه وصد اللسان الملحي الطالع من الخليج العربي.
- معالجة التلوث الداخلي بالمياه الثقيلة والذي تقول الإحصاءات والدراسات إن مصدره وبنسبة تفوق الـ 90% مؤسسات حكومية.
*كاتب عراقي