الذي يحدث هو كالتالي: يراهن ناشطون ومثقّفون عرب كسالى على الغربيّين في نشر قيم الديموقراطية وحقوق الإنسان. يقيمون منصّات مموّلة تجسّر نظريّة أنّ تبنّي هذه القيم هو الحل والخلاص للمأساة العربية. يجهدون بالرد والسخرية على السلطات العربية. وتردّ، بدورها، على محاولات فرض القيم في الخطاب الغربي، عبر تبنّي خطاب الخصوصية الثقافية. وهي لا تكون، بالنسبة إلى الحاكم العربي، إلا في الأبعاد السياسية التي يرى أنها تشكّل خطراً عليه. أمّا في مسائل السوق والاستهلاك والبنية الاقتصادية النيوليبرالية التي تصوغ المجتمع كلّه، فتنتفي هذه الخصوصية.أمّا الغرب، وبشكل صريح يراه الأعمى، فإنّه يستخدم خطاب القيم كرافعة للمصالح السياسية والاقتصادية. وحين يجري خلف مصالحه، يندّد المثقف العربي بـ«الواقعية السياسية الفجّة»، و«التسليم برفع المصالح فوق قيم الحقوق والحريات المعلنة في الخطاب السياسي»، ويستهجن النظرة بأن «القيم هذه تصحّ للغرب فقط!». ويصل الأمر في حالة نوستولجيا صريحة، على شاشة خليجية، إلى زمن المحافظين الجدد الذين، بمنظوره، دعموا الديموقراطية بشكل جادّ وحقيقي.
لكي نفهم علاقة الإنسان العربي بالقيم الغربيّة، علينا الانطلاق بناءً على أن الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الإنسان هي تعبيرٌ عن هذه العلاقة. يُطلَق على نموذج القيم هذه «الديموقراطية الليبرالية»، حيث يستعان بالضخ الإيديولوجي الغربي الذي جعل منها قيمة متعالية وسامية، لها حرميّة أشبه بالأديان. حين يتحدّث أحدهم عنها، فهو لا يحتاج إلى إثبات أو استعراض تفصيل، بل أصبحت مسلّمة أخلاقية، الوقوف ضدها صعب. درع البروباغاندا هذا هو ما يمتشقه المثقف العربي الكسول، وهو ما يجب تعريته. يجب فهم «الديموقراطية الليبرالية» كالغطاء الإيديولوجي للرأسمالية، حيث إن ديموقراطية المركز الغربي ما هي سوى الرأسمالية متنكّرة.
الغرب هو قيم الحرّية والديموقراطية وحقوق الإنسان، من جهة، ومن جهة أخرى هو النهب والتراكم الرأسمالي عبر الحروب واستغلال وجشع الشركات الرأسمالية. بمعنى، كيف يكون الغرب ممثّلاً الاستعمار ونموذجاً عن القيم الأخلاقية السامية في آن واحد؟ ولأن جمعَ النقيضين مستحيل، يجب تفكيك اللبس والغشاء على صورة الغرب. يستدعي الأمر هنا فهم العلاقة مع الغرب؛ فهم العلاقة الطبقية مع الرأسمالية. هنالك طبقة من البشر تنسج علاقتها مع الغرب عبر مستوى الرفاه والاستهلاك والحقوق المتمتّع بها غربياً. وهنالك طبقة أخرى تحكم علاقتها بالغرب الحربُ والدمار والحصار الاقتصادي الاستعماري للديموقراطيات الغربية. هذان المستويان النقيضان من العلاقة هما اختصار للشرخ السياسي العربي. موقعك السياسي من الغرب، ينطلق من حقيقة لأيّ الموقعين الطبقيين تنتمي وتروّج، مهما كان عنوان انتمائك السياسي (يساريّ، علماني، إسلامي، ليبرالي، محافظ، بديل،...). بعيداً من تعقيدات وصدامات الهويات والعناوين الإيديولوجية، إن الصراع السياسي العربي قائمٌ على هذا التناقض البيني، وأيّ من الغربَين ترى. وعليه، كيف ترسم علاقتك معه؟
بيد أن لتعقيد مصفوفة الوضع العربي، والجنوبي عموماً، مستوى آخر. على الرغم من الشرخ العربي-العربي على المستوى الطبقي/السياسي، فإن التباينين يقعان في سلة واحدة، ومصير مشترك. بمعنى أنه، ومهما كان نوع العلاقة التي تربطك بالغرب، فالغرب يرتبط بك بنوع علاقة واحد، وهي علاقة المستعمِر. وبالرجوع إلى «القيم هذه تصح للغرب فقط»، فهذه عبارة، رغم أنها تُلفظ باستنكار واستهجان، صائبة تماماً. سواء ربطتنا جميعاً علاقة قيميّة بالغرب، أم وقفنا كلنا موقف المستعمَرين وربطتنا به علاقة عداء، فستظل علاقته واحدة. يعود الأمر إلى سببين تاريخيين متداخلين، ينطلقان من ضرورة عدم فسخ الثقافة عن الإمبريالية. من ناحية ثقافية، لا يتطلب الأمر تعمّقاً في فهم الاستشراق، لمعرفة أن الثقافة الغربية قائمة على الاستثنائية، أي أن هذه القيم، كـ«الحرية» و«حقوق الانسان»، لا تصح سوى للغرب. وأن هذا الامتياز الثقافي، كما هو تعبير عن نرجسية المجتمعات البرجوازية، فهو كذلك وسيلة سياسة ناجعة لتبرير التدخلات السياسية والعسكرية تحت عناوين «العبء الأخلاقي». بل إن جوهر الأمر ينطلق من أن تعريف الغرب لذاته، كرمز للحضارة والتقدّم، يشترط بقاء وديمومة النموذج النقيض، وهو تخلّف مجتمعات الجنوب. وهنا، وبعيداً من زيف الخطاب الغربي، تمسي مسألة عولمة وتطبيق هذه القيم -بغضّ النظر عن رأينا فيها- أمراً مستحيلاً، ولو من الناحية الثقافية فحسب.
أمّا من ناحية اقتصادية، فرغم محاولة المثقفين العرب القفز وتغييب النظر وتعريف الغرب كمركز للشكل التاريخي الراهن للرأسمالية، وذلك عبر حصر تعريفه بفلسفات التنوير الأوروبي ودساتيرها وخطابها. فإنه وبحسابات اقتصادية بحتة، يستحيل تعميم نموذج الديموقراطية الغربية على كل الكوكب. فأبعاد الرفاه الاجتماعي، ومساحة حرية التعبير، والبنية التحتية، هي نتاج تاريخي لفائض القوة الذي مكّنه التراكم التاريخي لرأس المال. بمعنى، أن تمازج مسألة الديموقراطية الغربية مع الرأسمالية، يقتضي أن ظهور الديموقراطية الغربية هو آلية تراكم رأسمالي، أي ليكون لبلد ما ديموقراطية ليبرالية فعليه مراكمة فائض قوة عبر استغلال بلد آخر. دول الشمال العالمي راكمت رفاهها الاجتماعي الاقتصادي والثقافي عبر استغلال دول الجنوب واستعماره -النموذج الصيني هو الوحيد تاريخياً الذي نجح في اختلاق آلية تراكم رأس مالي بدون استعمار بلد آخر. بلدان العالم كلها لا يمكن أن تكون رأسمالية في آن واحد، سوى بالشكل الذي تقوم عليه العولمة اليوم.
يعود ذلك، وببساطة، إلى حقيقة أن موارد كوكب الأرض لا تكفي ليعيش سكانه بأجمعهم مستوى الرفاه والترف الأوروبي. والترف هنا ليس اقتصادياً فحسب، بل ثقافي واجتماعي. حرية التعبير في الغرب ليست تجسّداً لاحترام قيمة مقدّسة ومجردة، بل تعبير عن ترف قوة. ولذلك، تقلّ وتنتفي هذه المساحة مع الأزمات، كأوكرانيا، أو في قضايانا العربية، كفلسطين، لأنها قضايا تهدّد آلية مراكمة رأس المال الغربي. حين يتحدّث مثقف عربي عن حرية التعبير في الغرب، هو يتحدّث عن حريته في إعادة تكرير السرديات الغربية، التي تكرّس استمرارية امتيازه المالي والطبقي. بتعبير علي شريعتي، فإن النظام الليبرالي، وبسبب احتكار رؤوس الأموال للإعلام والسلطة، في ديكتاتورية برجوازية، «تنتخبك قبل أن تنتخبها». وفي ظل هذا الاحتكار يُسمح بالأصوات التي لن تهدّد ديمومته، كنوع من زيف تعدّد الآراء.
في الأخير، فإن مصدر علاقة المثقفين العرب بسردية القيم الغربية هو موقعهم الطبقي نسبة إلى المركز الغربي، لا أكثر. وإن كان علينا تعلّم شيء من تاريخنا العربي الراهن، فهو وإن كذب المثقفون فإن الطبقة لا تكذب.

* كاتب عربي