من الصعب مقاربة أيّ حدثٍ، فلسطينياً، بغير عدسة الحرب. لا بل إنّ غياب هذه المقاربة يشي بقصورٍ في التحليل يجب الحذر منه عند أيّ متلقٍّ. وكأس العالم ليست استثناءً من هذه القاعدة. فمن منظورٍ فلسطيني، لطالما ارتبط الحدث الكروي الأكبر ببُعد سياسي أو اجتماعيّ مهم، ليس من باب المصادفة، بل لأنّ التجربة الفلسطينية في عمقها هي تجربة حرب. من كأس العالم عام 1982 والاجتياح، إلى كأس العالم 2002 والانتفاضة الثانية، وليس انتهاءً بكأس العالم 2006 وحرب تمّوز، تتشكّل الذاكرة الكروية عند محبّي اللعبة من أبناء شعبنا ضمن ذاكرةٍ سياسية مكثّفة. وعمليّة التشكّل هذه لا تقتصر على ربط الأحداث زمنيّاً، بل تمتدّ لتشمل جزءاً من التشجيع الكرويّ نفسه. كلّ منافسٍ لمنتخب الولايات المتحدة الأميركية يحظى بتشجيع تلقائي من المتابع الفلسطيني، والمعادلة نفسها تنطبق على منافسي المنتخب الإنكليزي. أمّا اللاعبون، فبعد المواهب، لا بدّ من استحضار المواقف السياسية، تحديداً تلك التي تتعلّق بقضيتنا، قبل تحديد القرار في تشجيع اللاعب الفلاني أو ذمّه.وكما سابقاتها، تحمل هذه النسخة من كأس العالم ارتباطاً زمنيّاً مع الحدث الأضخم الجاري في الضفة الغربية المحتلة، حيث سيل الدماء والمواجهات البطولية، يفرض كل ذلك نفسه في الوعي والذاكرة للحاضر والقادم من الأجيال. لكن، وخلافاً لسابقاتها، تشكّل نسخة 2022 في قطر بُعداً سياسياً جديداً في الساحتين العربية والعالمية، عنوانه: بيع الوهم.
تُقدّم هذه النسخة على أنّها «إنجازٌ عربي»، وتُسخّر لأجل هذا الترويج إمكاناتٌ هائلةٌ، سواء أكانت مادية أم إعلامية. لكن، وبعد انقضاء الضجيج، يحقّ لنا -كشعوب عربية- أن نسأل: أين هو الإنجاز؟ كرويّاً، يصعب استخراج أيّ «إيجابيات» من هذه الاستضافة على كرة القدم العربية. القاصي والداني يعلمان أنّ أزمات كرة القدم العربية هي فرعٌ من فروع أزمات الهيمنة على شعوبنا وما تنتجه من اختلالٍ إداريّ وفكريّ وماديّ لا يسمح لنا بالتطوّر طبيعياً بعيداً عن مركز الهيمنة في الغرب. ومن تجليات هذه الأزمة احتكار رأس المال الكروي -النفطي تحديداً- واستخدامه أداةً لتعزيز علاقات كياناته الدولية عبر البذخ في أوروبا على حساب حاجات شعوبنا العربية الأساسية. وإلا، ماذا يعني أن تصرف قطر على استضافة حدثٍ رياضي ما عشرات المليارات من دون أن يحمل لها هذا الحدث أيّ عائدٍ ماديٍّ مباشر؟ من هنا تظهر الشذرات الأولى لسياسة «بيع الوهم». وتكفي متابعة الإعلام القطري وتصريحات المنظّمين باللغة الإنكليزية ليدرك الجمهور العربي بأنّه «آخر همّ» المسؤولين عن هذا المشروع.
أمّا سياسياً، فيتكشّف الجزء السفلي من جبل الجليد في سياسة «بيع الوهم» عبر الخطاب الإعلامي السياسي الذي يوجهه النظام القطري. فمن المعروف أنّ حكّام قطر كانوا السابقين في التطبيع مع الكيان الصهيوني، وأنّ إمبراطوريتهم الإعلامية، «الجزيرة»، تشتهر بكونها أوّل قناة عربية أدخلت «الرأي الإسرائيلي» إلى كل بيت عربي. ومن المعروف أيضاً، أنّ الدوحة اليوم هي مركز الاستقطاب الأكبر لعدد كبير من الإعلاميين والكتّاب والمثقفين وحتى «المؤثرين» في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تُخصّص ميزانيات ضخمة لاحتضان جرائد ومنصّات وحتى قنوات إعلامية تدور جميعها في فلك المال القطري. والعجيب أنّ الفلك نفسه الذي تتمركز فيها «الجزيرة» وضيفها الدائم أفيخاي أدرعي، تدور فيه منصات وشخصياتٌ تدّعي «مجابهة التطبيع»، وهو ما يردّنا إلى سياسة «بيع الوهم». «محاربة التطبيع» في الأجندة القطرية هو عنوانٌ يتمّ من خلاله استقطاب الورقة الفلسطينية عبر مثقفين ومؤثرين وشعراء يُسمح لهم بانتقاد كلّ تطبيع - إلا تطبيع النظام القطري وحلفائه. وبالتالي تتحوّل قضية «التطبيع» إلى ورقة يسحبها حكّام الإمارة بوجه خصومهم السياسيين.
وفي ذلك الأمر تجسيدٌ لشكلٍ من أشكال قرصنة المبادئ. إن كنت عاجزاً عن إغراق السفينة، فبإمكانك الاستيلاء عليها وقيادتها حيثما تشاء. وهو تماماً ما يفعله القيّمون على المال السياسي-الإعلامي القطري في بلادنا.
على سبيل المثال، خرجت صفحاتٌ مموّلة قطرياً لتزفّ إلى الجمهور خبر «منع قطر حضور الإسرائيليين لمباريات كأس العالم»، عبر «تجميد خيار «إسرائيل» على موقع شراء التذاكر». بالطبع، عدا التأكد من صحة الموضوع، فإنّ سوريالية الكذب على الجمهور العربي مخيفة. بالتأكيد، لن تمنع قطر (ولا غيرها ممن يدور في الفلك الأميركي) حضور الصهاينة، ورئيس «الشاباك»، الذي يطير إلى الدوحة للتنسيق بشكلٍ غير منقطع، خير دليل. هذا ولا يجب علينا أن ننسى حسن الضيافة في الدوحة عبر احتضان آلاف الجنود الأميركيين ومئات الطائرات الحربية التي تفتك بشعوبنا من أفغانستان إلى ليبيا. هذه المحاولات البائسة لمسح صفة «التطبيع» عن النظام القطري أمام الجمهور العربي تتناقض مع الدور الوظيفي لهذا النظام، ومع الخطوات العمليّة التي عليه تنفيذها لتأمين عرشه ودوره. والعجيب في سياسة «بيع الوهم» هو أنّها ليست جديدة، بل تمّ تجريبها قبل عامٍ كامل في مسابقة «كأس العرب 2021».
تمّ تقديم هذه المسابقة على أنّها «إنجازٌ» عربي آخر، وتم صرف الملايين على اللوجستيات والتغطية الإعلامية وغيرها. وركّزت فروع الإعلام المموّل قطرياً (التقليدي منها والرقمي) على مشهدية الافتتاح التي شملت عزف أناشيد الدول العربية، ومنها نشيد «فدائي». وراوحت التعليقات بين التطبيل والاحتفاء والتأثّر بهذا الإنجاز العظيم. لتُختتم البطولة بحفلة تطبيعٍ كبرى شملت أكثر من عشرة لاعبين وصحافيين عرب حين لعبوا مباراة «وديّة» ضدّ فريق عالمي بقيادة المدرب الصهيوني الشهير أفرام غرانت. كلّ ذلك حدث في الدوحة، وفي الملعب نفسه الذي عُزف فيه النشيد الفلسطيني قبل أيام.
بالتأكيد، مرّ الموضوع مرور الكرام، وذلك دليلٌ على نجاح المال القطري في قرصنة مفهوم «التطبيع» بالتواطؤ مع مدّعي الوطنية من نخب ومثقفين. وما يغيب عن جزء كبير من الجمهور العربي هو أنّ استضافة أفرام غرانت والسماح للصهاينة بحضور مباريات كأس العالم على أرضٍ عربية، ليسا غريبين عن دور ووظيفة النظام القطري. المستغرب هو موقف النخب التي تتغطّى بعباءة المال السياسي القطري فتشارك في حملات كيّ الوعي وقرصنة المفاهيم.
لهذا وأكثر، إن كان من عبرةٍ نستقيها من هذه النسخة من كأس العالم، فهي الحاجة إلى خوض معركة تحرير المفاهيم من قراصنة المبادئ الوطنية لنضالنا العربي نحو التحرّر من الهيمنة الغربية، ومن مخفرها المركزي: إسرائيل.

* كاتب فلسطيني