مطالبة بعض السياسيين بـ«اللامركزية الإدارية» يفترض وجود دولة قائمة على «المركزية» (central government)، بينما الواقع اللبناني يؤكد غياب هذا النمط من الحكم. فهذا الأخير نظام طوائف دينية تتقاسم السلطة والحصص في ما بينها تحت مسمى «الميثاقية»، ويرفض مؤدلجوها الدينيون التخلي عنها تحت أي عذر أو سبب.

الميثاقية نقيض المواطنة لأنها تنطلق من مبدأ اللامساواة بين المواطنين بحسب دينهم وملتهم، فتعطي القرار والتمثيل للطائفة لا للمواطن، وتعيّن حجم التمثيل بحسب العدد الأكبر لرعايا الطائفة منذ نشوء هذا الكيان عام 1920، فيرفض «المسيحيون» أي مساس في الأحجام بالرغم من التغيرات الديموغرافية عبر قرن من الزمن. والميثاقية نظام يشدد على التباين بين المواطنين على كل الأصعدة: النفسية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقضائية، لأن علة وجود الميثاقية التشديد على الاختلاف، لا على ما يوحّد ويجمع.
«الدولة المركزية» هي الدولة الممثلة للمواطنين بمعزل عن دينهم وإثنيتهم ومعتقدهم، وتُبنى على مبدأ أن الشعب هو مصدر السلطات، من دون تفرقة بينهم، أقله نظرياً، فلا تعزل المكونات بعضها عن البعض الآخر عبر التقوقع الطائفي في مناطق جغرافية محددة، فيتحول الوطن إلى خطوط تماس بين منطقة وأخرى، وبين مكون وآخر، كما حصل أخيراً في بيروت حين مرت تظاهرة عُدّت من طائفة مغايرة لسكان منطقة الطيونة، فهاجموها.
وبدلاً من أن نطالب بدولة مركزية تلغي هذه الحواجز، وتعامل المواطنين على قدم المساواة، وتفصل بين شؤون الدين ومصالح الدولة، وتلغي الميثاقية الطائفية، وتتجه نحو نظام الدولة الحديثة، نرى بعض الأصوات تطالب بالإيغال في الميثاقية الدينية، وتطبيق «اللامركزية الإدارية» التي ستلغي ضمناً كل مؤسسات الدولة الإدارية، وتفضي إلى انحلالها النهائي، ذلك أن من أهم مهام السلطة المركزية إدارة اقتصاد الوطن ككل، وبشكل يساوي بين الجميع. وليس صحيحاً أن «اللامركزية» ستلغي الفساد، بل سينتقل الفساد من دائرة إلى دائرة أخرى، لأن ما يلغي الفساد هو ترسيخ مفهوم العمل من أجل المجموع، لا الفرد أو الطائفة، والعمل من أجل الشأن الوطني العام، لا فرق بين مسيحي ومسلم، بينما تمثّل «اللامركزية» عنواناً للتفرقة لأن المناطق الجغرافية مقسمة طائفياً، ما يؤدي إلى تفاقم النزاع لا إلغائه.

يتعلق المسيحيون بالميثاقية وكأنها خشبة خلاصهم فيما هي تقود إلى حتفهم وإفنائهم


إحلال «اللامركزية» وكأنها الحل السحري لإلغاء الفساد، وهمٌ كبير، لأن أسس الفساد هي في النظام الميثاقي الطائفي، وليس في أي شيء آخر. ففي إدارة الدولة الولاء هو للطائفة لا للدولة أو الوطن، وولاء الموظف والقاضي والوزير ليس لرئيسه الإداري، بل للقيادة الطائفية التي أوصلته إلى مركزه الحالي، بالتالي استحالة المساءلة والمحاسبة، لأن القرارات في يد موظفي الطوائف، لا في يد مؤسسة إدارية وطنية مستقلة، وهذا سبب أساسي يشلّ القضاء، ويدخل هذا الأخير ضمن منظومة الفساد لأسباب ميثاقية دينية! والأمر نفسه سينسحب على الإدارة اللامركزية، لا بل يصبح أكثر وضوحاً ونفوراً.
«اللامركزية الإدارية» هي حلقة في سلسلة الميثاقية التي ترفض العودة إلى العلم والمعرفة وتتجاهلهما كلما اشتبكا مع نظام الميثاقية الديني، فيمنع مثلاً إحصاء تعداد السكان اللبنانيين، حماية لمبدأ لا يريد البناء على الحقائق. والميثاقية تضرب مؤسسات الدولة لأنها تعلي الشأن الديني فوق كل اعتبار. فهي فوق الدستور، وفوق المؤسسات، كالقضاء ومجلس الوزراء والمجلس النيابي. كما أنها ترذل المواطن المؤمن بوطنه بمعزل عن دينه وملته، وتحفزه على الهجرة لأن لا مكان له ضمن منظومة ثيوقراطية.
من الواضح معارضة الميثاقية إقامة دولة وطنية مركزية تمثل المواطنين، لأن قياداتها الدينية ستخسر مراكزها ونفوذها في السلطة. ولهذا السبب أيضاً، ترفض الدولة الديموقراطية الممثلة للشعب، وتعتبر نفسها، وهي نخبة من «الخاصة»، أنها «ديموقراطية توافقية»، أي توافق المسيحي مع المسلم، وليس توافق المواطن مع أخيه الذي يشاركه الوطن.
يتعلق المسيحيون بالميثاقية وكأنها خشبة خلاصهم فيما هي تقود إلى حتفهم وإفنائهم. فهل أدامت لهم الميثاقية وجودهم أم تراهم يهاجرون زرافات وفرادى هرباً من هذا النظام القائم على المحسوبية، لا على الكفاءة، وعلى القديم البالي، لا على التحديث والتطور. فالمسيحي المتعلم هو أول من يرفض نظاماً من هذا النوع. رهان المسيحيين على الميثاقية رهان خاسر، وكل التغيرات التي حصلت منذ قرن شاهد على أنها لم تكن لمصلحتهم، بالتالي خلاصهم لا يكون إلا بإلغاء نظام من هذا النوع، والمناداة ببناء دولة المواطن، وليس دولة «اللامركزية».
* أستاذة جامعية