حصلت معظم دول الشرق «الإسلامي» على استقلالها «الرسمي» (الشكلي) في النصف الأول من القرن الماضي. إلا أن ذلك الاستقلال لم يوقف محاولات القوى الإمبريالية للإبقاء على هيمنتها على تلك الدول والتأثير في شعوبها، ليس فقط من خلال إظهار القوة الخشنة وإقامة القواعد العسكرية إنّما أيضاً من خلال القوى الناعمة التي تستخدمها تلك الدول وتتمثل في السياسة والاقتصاد، وكذلك الثقافة، في ما يسمى بالإمبريالية الثقافية.الإمبريالية الثقافية هي سعي الدول الاستعمارية إلى فرض هيمنتها الأيديولوجية على الدول والشعوب المستضعفة، تعيد من خلالها إنتاج تبعية تلك الدول والشعوب لها، وتسهل عملية التحكم بها وبمقدراتها، وتستطيع من خلالها توجيهها لخدمة أهدافها وبالشكل الذي تريد.
يتم ذلك بالمجمل خلال استخدام كل ما يؤثر في قناعات الناس وقيمهم عند الشعوب المستضعفة، وأحياناً غير المستضعفة أيضاً، بحيث يتم إبهار هذه الشعوب بكل ما لدى المستعمر من «منجزات» مادية وفكرية. وبقدر ما يكون ذلك، يكون جلدُ تلك الشعوب لذاتها واستصغارها لدورها ويأسها من الخروج من تخلفها، حيث تصل إلى قناعة باستحالة الخروج من الأزمة التي تعيشها، وتصل في الوقت نفسه إلى قناعة بأنها شعوب قاصرة وأنها بحاجة إلى رعاية من تلك الدول «القوية والمتطورة». وتسلّم تلك الشعوب أن قصورها هو أمر طبيعي ومعطى سلفاً وأن حاجتها للرعاية ضرورية وبديهية، حيث تصاب تلك الشعوب بعقدة نقص، لن تجد لها حلاً إلا باللجوء إلى تلك البلدان «المتقدمة».
تعمل الإمبريالية الثقافية على الإعلاء من شأن قيم شعوبها وثقافتها واحتقار قيم وثقافة الآخرين. هي عنصرية مشهودة يسعى الغرب الإمبريالي لفرضها على العالم، ويريد من ذلك العالم أن يكون سعيداً بها، بل وممتنّاً كذلك. والغرب لا يرى عنصريته شيئاً خارجاً عن المألوف، أو أنها إساءة للإنسانية، بل يراها شيئاً طبيعياً، لذلك يسعى للحفاظ على «تفوقه» بكل ثمن، ولذلك يستغرب عندما تتحدث الشعوب المستضعفة عن ازدواجية المعايير لديه، فالطبيعي عنده أن يختلف القتل في فلسطين عنه في أوكرانيا، ويختلف اللاجئ الأفغاني عن اللاجئ الأوكراني. وطبيعي أيضاً، ولا تناقض البتة، أن يؤسس هنري دونان الصليب الأحمر الدولي وأن يقوم في الوقت نفسه بتمويل إنشاء مستوطنات صهيونية في فلسطين.
من هذا التفوق «العنصري» يأخذ الغرب الإمبريالي الحق، ليس فقط في فرض «إنجازاته» الثقافية على الآخرين، بل وفي فرض «جنونه» وعقده أيضاً. إن الكثير من المواضيع التي تفرض على منظمات المجتمع المدني في بلادنا تندرج تحت هذا التصنيف. المشكلة أنه عند درجة من العنصرية يصبح كذب العنصري هو الصدق، وأخطاؤه هي الحقيقة، ونقائصه مزايا، وإشكالاته هي الحلول، وهو لا يقتنع بهذه «المعطيات» فقط إنما يفرضها على الآخرين على «شكل» عقلانية وحداثة وحرية وديموقراطية وحقوق إنسان.
وحتى لا نقع في مربع العنصرية «المقابلة»، فإنه يجب الاعتراف بالأزمة العميقة التي يعيشها الشرق علمياً وحضارياً، وأن ما نقوله عن الغرب من سلبيات لا يعني التنكر لدوره الإيجابي الكبير في الحضارة العالمية منذ دخول عصر الرأسمالية وحتى يومنا هذا، بخاصة في مجال التقدم العلمي والتكنولوجي. كما لا ينبغي أن يقودنا ذلك أبداً إلى استنتاج أن الشرق يعيش أجمل أيامه، وأن من حقه أن «يفتخر» بهذا الوضع لدرجة أن نادى بعضنا بأحقيتنا في «أستاذية العالم».
إنّ مشكلة الغرب الإمبريالي الحالية تكمن في رغبته في توقيف الزمن، واعتبار نفسه في قمة التطور الإنساني الذي لا تطور بعده (نهاية التاريخ). هو يريد أن يقتنع أنه الأفضل ليس فقط الآن ولكن للأبد، ويريد أن يقتنع الآخرون بذلك وأن يتصرفوا على هذا الأساس.
يستخدم الغرب كل وسائله الناعمة (وغير الناعمة إذا تطلب الأمر) للتأثير في شعوب العالم وبخاصة في الشرق وجعلها تتبنى قيمه وثقافته ومعاييره في الحكم على الأشياء. وهو من أجل ذلك يحاول التأثير على الدولة المستهدفة بكل أركانها، النظام والمجتمع المدني بما فيه المنظمات غير الحكومية، ومختلف طبقات الشعب وفئاته.
هذا النوع من المثقفين المستسلمين للراهن، والمبررين لكل ما هو موجود، والفاقدين حتى للحلم بأي تغيير، هم فئة نموذجية للإمبريالية الثقافية


وهو يستخدم كل الوسائل المؤثرة في بناء القيم، والتي تتشكل أساساً من التعليم حيث تتدخل الدول الإمبريالية في مناهج التعليم في البلدان الضعيفة بشكل مباشر، وتملي عليها تغيير ما لا تراه مناسباً في تلك المناهج، وكذلك الدين والمؤسسة الدينية التي يجري تدجينها وإفراغها من كل ما هو وطني، ثم الإعلام الذي يلعب دوراً استثنائياً في توجيه الناس والتأثير في عقولهم وإيصال لهم الصورة والخبر بالشكل الذي تريده الدول الاستعمارية.
من خلال هذه الوسائل تدخل الإمبريالية الثقافية من أجل خلخلة البنية الفكرية للشعوب المستضعفة، وتحديد أطر لتفكيرها، وتوجيهها نحو أجندات ليست لها علاقة بالمشكلات الحقيقية التي تواجهها تلك الشعوب، وتنشر بينها قيم الفردانية المتحللة من كل التزام يتعلق بالشعب وبالوطن.
أكثر الفئات الاجتماعية التي تستهدفها الإمبريالية الثقافية هم مثقفو الشعوب المستضعفة لما لهم من أهمية في التأثير على بقية الطبقات والفئات الشعبية، ولكونهم الفئة المرشحة لحمل مشروع الأمة التي يمثلونها، وكذلك للاحتكاك القائم بين هذه الفئة والغرب. فالمثقفون هم حملة مشروع الأمّة، من جهة، وهم الأقدر على وأد ذلك المشروع وإحباطه من الجهة الأخرى، والأمّة بلا مشروع هي ليست أكثر من «لا شيء»، هي ليست أمّة، فالفرق بين الأمّة والدهماء هو وجود المشروع. إن أي اختراق لفئة المثقفين سيسهّل على الإمبريالية الثقافية عملها.
تعاني فئة المثقفين في البلدان العربية، وفي الشرق عموماً، من كثير من المشكلات تجعلها «صيداً» سهلاً للإمبريالية، وتبعدهم عن رسالتهم المفترضة التي تتمثل أساساً في التنظير لمشروع الأمّة في التحرر والوحدة والتنمية والتقدم.
بسبب نظام الإنتاج الموروث من حقبة الاستعمار المباشر، يشكّل جهاز الدولة البيروقراطي المتضخم عادة، المستوعب الأكبر للقوى العاملة في دول المنطقة، ومن ضمن هؤلاء نسبة كبيرة من المثقفين. كما أن نسبة لا بأس بها من هؤلاء المثقفين، وبسبب تعقيدات الوضع المعيشي في هذه البلدان، دخلت بشكل مباشر أو غير مباشر في عالم البزنس أو في منظمات المجتمع المدني. هذا الوضع، أي الارتباط المباشر بالدولة أو بمنظمات المجتمع المدني وبأنواع معينة من البزنس، يفترض علاقة «حميدة» بالغرب ويجعلها أقرب إلى القيم الغربية والفكر الاستهلاكي بصورة عامة.
هذه التعقيدات، وغيرها بالطبع، تخلق تبايناً واضحاً يتراوح بين فئات المثقفين المختلفة تجاه الهيمنة الثقافية للغرب على شعوب المنطقة، يتراوح بين القبول المطلق والرفض المطلق. فهناك المثقف «المعجب» بالقيم الغربية من دون تحفظ، يحتقر الشرق «الإسلامي» ولا يعتبره متخلّفاً فقط بل التخلّف نفسه. هذا النوع من المثقفين لا يرى غضاضة في «التبعية» للغرب بل يراها مقياساً للتقدّم وإنجازاً كبيراً ويدعو للتشبث بها. وهو بذلك لا يرى ضرورة أن يكون للمنطقة مشروعها الخاص، وإن كان لا بد من ذلك فليكن بتعميق التواصل مع الغرب وبمزيد من «الغربنة».
يقابل ذلك، ويدعمه عملياً، ذلك المثقف الشرقي الذي يرى الغرب الشر المطلق الذي تجب إدارة الظهر لكل ما عمل ويعمل، ويرى في الشرق «نموذجاً» يجب على الغرب وغيره الاحتذاء بكل ما جاء به، وأن بعض المشكلات الموجودة في الشرق ما هي إلا بسبب ابتعاد الشرقي عن شرقيته الأصلية. هذا النوع من المثقفين قد يكون حاملاً لمشروع للأمّة لكنه مشروع أصولي انعزالي معلن للحرب سلفاً على كل الآخرين، وهو صورة شرقية لفوكوياما ونهاية التاريخ الغربية.
إلى جانب المثقف المتأثر مباشرة بالغرب الإمبريالي والمندمج معه والمعجب به والمتبني لمشروعه، توجد شرائح من المثقفين الشرقيين الذين «يسهلون» (وإن كان ذلك بتقديري من دون أن يدركوا ذلك) الاختراق الثقافي الغربي لشعوبهم. من هؤلاء المثقف المنعزل وغير الشاعر بأية مسؤولية تجاه وطنه وأمّته وليس لديه مشروع إلا مشروعه الخاص. والمثقف المحبط واليائس والمهزوم الذي يرى الهزيمة قدراً فيتماهى معها بل ويصل درجة الاستثمار بها أحياناً (مثقفو التطبيع على سبيل المثال)، هذا النوع من المثقفين المستسلمين للراهن، والمبررين لكل ما هو موجود، والفاقدين حتى للحلم بأي تغيير، هم فئة نموذجية للإمبريالية الثقافية.
وإذا ما أضفنا إلى هؤلاء الناقد السلبي للأوضاع؛ ذلك النوع من المثقفين الذين يتحوّل نقدهم بمرور الوقت إلى «نق» من دون الإبقاء على أي فسحة للتغيير الإيجابي، إضافة إلى أولئك المثقفين الذين لا يرون كامل المشهد، ويذهبون إلى التفاصيل، ويغوصون في اليومي على حساب الاستراتيجي، ويخلطون بين الأهداف السامية الثابتة والوسائل المتغيرة، كل هؤلاء، إضافة إلى المثقفين المتعصبين لكل الهويات التي تحول دون تقارب مكونات الأمّة من بعضها، يشكّلون القاعدة الأكبر لدخول الإمبريالية الثقافية إلى بلدان الشرق.
ما تحتاجه شعوب الشرق، وبخاصة شعوب العالم العربي، من أجل رفع حصانتها تجاه الإمبريالية الغربية الثقافية هو ذلك المثقف الذي يحمل مشروع الأمّة لأنه بذلك يعطي للشرق معناه، وهو المثقف المسؤول الذي لديه المعرفة والإحساس بالمسؤولية تجاه قضايا أمّته الكبرى، وهو الذي يدعو إلى حوار لممثلي مكونات الأمّة من أجل تقاربها ويبعث فيها الأمل بإمكانية نجاح مشروعها، وفي الوقت نفسه يعمل على عقلنة وعي الأمة الجمعي تجاه مصيرها المشترك وضرورة تحررها.
* أكاديمي فلسطيني مقيم في رام الله