كأس العالم هو أضخم حدثٍ عالمي، فبحسب الاتحاد الدوليّ لكرة القدم (FIFA)، فإن ثلاثة مليارات ونصف المليار شخصٍ قد شاهد نهائي البطولة عام 2018. وهي تضم العديد من الدول التي استحقت التأهل، وتتابَع من أغلب سكان العالم، منهم من هو متمرّسٌ، ومنهم المتابعون الموسميون، منهم من يشجّع بلده، ومنهم من يشجّع بلد غيره، وكلّهم في مكان واحد، حتى ادّعت «فيفا» أنّ «كرة القدم توحّد العالم». لكن، ما صحة هذه المقولة؟للرياضة الدّولية عموماً، دورٌ قويٌ في تشكيل وتثبيت الهويات القومية. يشير البروفيسور مايكل بيليغ في كتابه «القومية المبتذلة» إلى أن القومية ليست حركة عنيفة تقبع في زوايا الجماعات المتعصبة وأعمال الشغب والعنف، بل هي حركة عفوية تطفو على سطح الحياة الاجتماعية، فتسيطر على الجوّ العام، من خلال عدة رموز وطقوس وأعراف سمّاها «القومية المبتذلة» (Banal Nationalism) كالأناشيد و الأعلام والرموز الثقافية والسّياسية الخاصة وكل ما يُحتك به بشكلٍ يوميٍ وروتيني. لكن لا يخدعنّكم التوصيف اللطيف، فالقومية المبتذلة هي أساس الأيديولوجيات القومية الخطرة وأساس معظم العنف السياسي في العالم، وتكمن خطورتها، كما يشير بيليغ، في طبيعتها «الخفية»، فهي تعمل غير مفحوصة وبلا منازع. بحسب بيليغ أيضاً، فإن القومية تحتاج إطاراً أممياً لكي تبرز، فالأممية لا تلغي القومية، لأن القومية تفترض وجود «دولٍ قومية» أخرى، فلا يمكن تعريف «نحن» من دون تعريف «هم».
هنا نرى أن الرياضة الدولية، بكونها مسرحاً أممياً لعرض رموز القومية المبتذلة وأيضاً القومية القوية، تساعد الجماعات على تشكيل هوياتهم القومية والالتفاف حولها. كما أنها تلعب دوراً في تشكيل الشعور بالاستمرارية وهي عاملٌ مهمٌ في بناء الهوية القومية، لأنّ تاريخ الرياضة مرتبطٌ بتاريخ الأمّة. فالأحداث والقصص والأساطير في عالم الرياضة تساعد بشكلٍ أساسيٍ في تشكيل هذا الشعور، ويرى باحثون أن كرة القدم تحديداً هي الأكثر تأثيراً في هذا المجال.
إذاً، فبتسهيلها بناء وتثبيت الهويات القومية، تكون الرياضة الدولية سبباً غير مباشرٍ في ما تسببه هذه الأفكار القومية اللاعقلانية من حروبٍ ومجازر وصراعاتٍ وظلمٍ وعنصريةٍ وازدياد الانقسامات بين البشر.

ساحة صراع أكثر من كونها ساحة تلاق
يقول الروائي جورج أورويل إن «[المنافسات الرياضية] هي حربٌ لكن من دون إطلاق النّار»، ويعتبر أن الرياضة التنافسية تختلف عن الرياضة، فالحقيقة أنه في الرياضة التنافسية التركيز ليس على الصحة البدنية أو الروح الرياضية أو الرياضة كرياضة، بل هي عرضٌ عنيفٌ لا غاية منه سوى «الانتصار» ورؤية الآخر «ذليلاً». وهذا صحيحٌ خاصةً في الرياضة الدولية، بحيث إنها تتحول في عقول الجماهير لبعض الثواني إلى اختبارٍ بالوطنيّة، أو اختبارٍ في التفوّق العرقي أو العقائدي أو القومي وما إلى هنالك، مما لا يفيد إلا بنشر المزيد من الكراهية والعنصرية والغضب، وشد العصب القومي.
وفي دراسةٍ للبروفيسور أندرو بيرتولي من جامعة داموث، يستقصي الرابط بين بطولة كأس العالم لكرة القدم والعدوان بين الدول، لاحظ أنه بسبب ارتباط كأس العالم بالقومية، هناك علاقةٌ سببيةٌ بين كأس العالم والعنف العسكري. فالأحداث التي تقع في المنافسة تنعكس على الروح القومية للشعوب فتحدث فيها موجاتٍ من الحماسة القومية، تتم ترجمتها إلى عمليات عسكريةٍ أو ديبلوماسيةٍ عدائيةٍ تجاه دولٍ أخرى ليست بالضرورة مشاركة في البطولة، لكن فرصة حصول نزاعٍ عسكري بين دولتين تزداد إذا تواجهت الدولتان في المنافسة.
تحدث أقوى هذه الموجات بشكلٍ واضحٍ لحظة تأهل الدولة إلى كأس العالم، وتستمر من سنة إلى ثلاثٍ من بعد انتهاء البطولة، وإنّ هذا الأثر الذي تحدثه موجات الحماسة القومية الناتجة من التأهل يوازي خمسيّ أثر حدوث ثورةٍ، إلا أنه بارزٌ أكثر في الدول التي تشتهر فيها رياضة كرة القدم بعكس الدول التي لا تشتهر فيها مثل الولايات المتحدة وأستراليا وغيرها.
لكن بحسب بيرتولي، فإنه يمكن للرياضة الدولية أن تكون وسيلةً يستغلها الدكتاتور لحشد الدعم من شعبه عبر ترويض هذه النزعة القومية الناتجة من المنافسات الرياضية الدولية لمصلحته، بالتالي تهيئة الجوّ لشن عملياتٍ عسكرية ودخول حروب. للتأكيد على ذلك، فهو يستشهد بما حصل خلال كأس العالم 1934 وأولمبياد 1936 (من الجدير بالملاحظة أن روسيا التي استضافت كأس العالم 2018 شنّت حملة عسكرية على جارتها بعد ثلاث سنوات ونصف من انتهاء البطولة).
استخدم موسوليني الرياضة كأداة لتجييش الشباب، عبر تنظيمها من قبل لجان معيّنة من قبل الحزب الفاشي وربطها بالمؤسسات العسكرية. كذلك هتلر، حيث إن الاثنين استغلا الرياضة لنشر البروباغندا عن تفوّق الأيديولوجية الفاشية أو عن تفوّق العرق الآري وكسب محبة الشعوب وتأييدهم. وكلّ هذا التجييش والدعاية كان سبباً مهماً لنشوب الحرب العالمية الثانية، (وأثّر بشكلٍ قويٍ على بيار الجميّل الذي عاد إلى لبنان بعد حضوره أولمبياد 1936 وأسس حزب الكتائب ليكون على نسق الأحزاب الفاشية الأوروبية).
ليس الأمر أن الرياضة كانت السبب في الحرب، لكن هذا المثال يوضح لنا قدرة الرياضة الدولية على شحذ وشد العصب القومي، وإذا ما أدركته وعملت عليه الأنظمة الاستبدادية، وصحيح أنه كان لتلك الفترة ظروفها الخاصة، لكن قدرة الرياضية الدولية على نشر البروباغندا وكسب الجماهير والمحبة والدعم، ما زالت فعالة، لذلك مثلاً كانت استضافة النظام القطري لكأس العالم 2022، فهي فرصة لتبيض صفحة أنظمة الخليج المستبدة والمجرمة وشدّ العرب إلى الأيديولوجية العربية القومية.

تاريخ استعماري
في كتاب «أنثروبولوجيا الرياضة» يتحدّث الكاتب نيكو بيسنييه عن مفهوم الرياضة الحديثة وهي الرياضة التي تتميّز بالتنظيم المؤسساتي والقوانين الموحّدة. تأسست هذه الفكرة في بريطانيا منتصف القرن التاسع عشر خلال عصر التنوير، وذلك بعد أن أُدخلت «التربية البدنية» في مناهج المدارس في بريطانيا، ذلك لإيمانهم بأن الرياضة الجسدية هي عملٌ في سبيل الإله والوطن و الإمبراطورية ككل. من هذا المنطلق، أخذت النخب البريطانية -التي اعتبرت نفسها أكثر حضارةً و تفوّقاً من بقية الشعوب «الهمجية» و«المتخلفة»- على عاتقها مهمة القيام بحملاتٍ تبشيريةٍ لإنقاذ هذه الشعوب عبر نشر رياضتهم إلى جانب مبادئها الحديثة.
يشرح الكاتب عن الدور الذي لعبته الرياضة في المستعمرات، فقد عملت على برهنة التفوق الأوروبي من خلال إظهار القدرة الجسدية للأوروبيين إضافة إلى تنظيمهم و«تحضرهم»، كما عملت كأداة لدمج السكان الأصليين مع المستعمرين من الناحية الثقافية طبعاً، بحيث امتنع الأوروبيون عن اللعب إلى جانب من هم أقل منهم شأناً، كما سهّلت السيطرة عليهم، ووفّرت لهم طريقةً سلميّةً «للمقاومة» لكن «تحت نظر الأسياد الأوروبيين». لذلك أجبر السكان الأصليون على المشاركة في هذه الرياضة كنوع من أنواع المقاومة الجسدية الرمزية وكتحدٍّ للأفكار العنصرية للمستعمر، وذلك على حساب الرياضات والعادات التقليدية، مما أدى إلى طمسها وطمس الأثر والثقافات المتعلقة بها.
من الجدير بالذكر أن عامّة الشعب البريطاني، والأوروبي بشكلٍ عام، عانوا أيضاً من أفكار وتصرفات هذه النخب، بحيث فُرضت عليهم ثقافات ومنعوا من اتخاذ قراراتهم وعاشوا رهينة الأفكار الطبقية التي لم تكن تختلف كثيراً عن الأفكار العنصرية، وهذا ما يعبّر عنه بـ«الاستعمار المحليّ».
بعد الاستعمار، عمل هذا النظام الرياضي على الحفاظ على سلسلة المراتب والطبقات التي كانت في فترة الاستعمار، بحيث استبدل المستعمر جنوده وضباطه ومسؤوليه بمن يحفظ مصالحه من نخب السكان الأصليين، وعمل كأداة للتأكيد على الهوية التي رسمها له المستعمر بالطريقة التي تحدّثنا فيها في المقطع الأوّل، وفي النهاية اتبعت الاتحادات الرياضية للدول المستقلة قوانين ومبادئ الاتحادات «الدولية» وهي نتيجة للاستعمار وإحدى أدوات القوى الغربية للسيطرة، لذلك أحد أهم خطوات إنهاء الاستعمار، هي إعادة النظر في النظام الرياضي العالمي الحالي.

مساندة النيوكولونيالية
في عصرنا الحالي، لا يختلف دور الرياضة الدولية عن ما كان عليه فترة الاستعمار وخلال أولى مراحل إنهائه. ذلك بأن الاستعمار لم ينته، وما زالت الرياضة الدولية تلعب دوراً مهماً كأداة من أدواته. يعرّف إدوارد سعيد الاستعمار على أنه عملية فرض هيمنة وسيطرة من قبل دولةٍ ما [أو مجموعة دول] على مجتمعٍ آخر، وذلك إمّا بالقوة أو بالتعاون السياسي أو بالتبعية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويعتبر أن زمن الاستعمار المباشر قد انتهى لكنه ما زال مستمراً في مناخٍ ثقافي عام وفي بعض الممارسات السّياسية والعقائدية والاقتصادية.
يشير نيكو بيسنييه في الكتاب نفسه إلى أن الرياضة الدولية تعزّز النظام «الويستافيلي» المعتمد حالياً، وهو النظام الذي يفترض أنّ لكل أمةٍ حقاً في إنشاء دولةٍ قومية منفصلة وعلى بقية الدول احترامها والإقرار بسيادتها. هذا النظام، بشكله الحاليّ، ليس إلا حصيلة الاستعمار القديم، فمعظم هذه الدول أنشئت ورسمت حدودها بما يفيد مصلحة المستعمر ويثبت به هيمنته، غالباً من دون الأخذ في الاعتبار المكونات الإثنية والثقافية والدينية واللغوية لهذه الدول، مما سبب خلافاتٍ وحروباً أهلية ومجازر. معظم هذه الدول تصبح «دولاً فاشلة» ذلك أن نظام «الدول القومية»، ولأنه أوروبي المنشأ، يفترض التجانس، وهو عكس واقع الشعوب خارج أوروبا. كما أن الاعتراف به هو شرعنة للعديد من الأنظمة التي قامت وتقوم على المجازر والاستعمار والاستغلال.
تقوم الرياضة الدولية أيضاً، وتحديداً في شكلها الحالي، بلعب دورٍ مهمٍ في نشر العولمة الرأسمالية، فهي تشكّل فرصة كبيرةً للشركات المتعددة الجنسيات لبسط انتشارها من خلال توفيرها مساحة ضخمة لعرض الإعلانات وبيع المنتجات المتعلقة بهذه البطولات، فتسهم في نشر ثقافة الاستهلاك وتقويّة السوق العالمية المُسيطر عليها من قبل الغرب وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية. تشكّل العولمة الرأسمالية، كما يعتقد البعض، «تهديداً وجودياً» للبشرية، إذ من الممكن الاستدلال على ذلك من خلال ملاحظة أثر هذا النظام على مستوى الكوكب من التغير المناخي والتلوث والاحتباس الحراري، وأيضاً على مستوى الدول بحيث يسبب في تدمير الاقتصادات المحلية ويضر بسيادتها واستقرارها ومصالح مجتمعاتها، فهي أحد ولعلها أهم أداة عند الغرب، وبالأخص أميركا، لفرض السيطرة والتبعية الاقتصادية والثقافية على الشعوب.
إذاً، فهي تثبّت نظام الدول المقسمة وتنشر العولمة. للوهلة الأولى يبدو أن هناك تناقضاً، لكن على العكس، العولمة وهذا النظام يكمّلان بعضهما البعض؛ فالهدف هو نشر النيوليبرالية الاقتصادية مع الحفاظ على التسلسل الهرمي للسيطرة والقوى، فهذه «العُمْحُليّة» أو العولمة المحليّة (Glocalization)، تشكّل وهماً بالحرية والمساواة والوحدة مع الحفاظ على واقع السيطرة و الاستغلال، يحل مكان الأفكار و المشاريع الإنسانية العابرة للشعوب الحقيقة.

خاتمة
بعكس ما تدّعي «فيفا» والمدافعون عن الرياضة الدولية، خاصةً «كأس عالم فيفا للرجال»، للرياضة الدولية دورٌ فعّال في نشر الانقسامات وتضخيمها، وزيادة انعدام المساواة اقتصادياً واجتماعياً. هي ليست أداةً للتطوّر والتغيير والمقاومة بل أداة للحفاظ على «الستاتوس كو»، وبالتأكيد ليست «مجرد تسلية بريئة» إنّما هي مشرّبة ومشبّعة بالأيديولوجيات والبروباغندا، وحتماً، لن تكون لها فائدة أو نتيجة إيجابية، حتى وإن ربح منتخبٌ عربيٌ أو أفريقيٌ، أو هزم منتخبٌ عربيٌ آخر أوروبي، أو العكس، أو استضافته دولةٌ آسيويةٌ أم من إحدى القارتين الأميركيتين. وإن كانت هناك شبه فائدة، فإن الآثار الطويلة الأمد تلغيها.
المطلوب هو إعادة النظر في أنظمة ومؤسسات الرياضات الدولية، وإعادة هيكلتها في ما يتناسب مع النظام العالمي الحالي، حتى تكون حقاً أداةً للتغيير ونشر ثقافة الوحدة الإنسانية.

* طالب جامعي