لا يبالغ من يقول إنّ الأمّة الإيرانية أمّةٌ يصعب فهمها وتحليل طريقة تفكيرها وتوقّع سلوكها. تحتاج إلى متبصّر لا إلى أدوات معرفية تقليدية أو كلاسيكية. لا يني أصحاب هذا الرأي يستظهرون، بالنظر إلى: طبيعة فنونها، نموذج عمارتها، موسيقاها وأغنيتها، مكانة الطبيعة والخضرة، تمجيد البطل والبطولة، الأسطورة وقوة الخيال، الترميز الذي يتعشقه المجتمع. ليس كل شيء هناك يدرك بالعقل الماكس - فيبري أو الأرسطي أو الديكارتي. قوّة العاطفة وألحان العشق لا يخلو منها شيء، تعظيم «الحكيم» و«الفيلسوف» و«أهل الرياضة»، كل ذلك يكوّن الشخصية الجمعية. يتوقّفون أيضاً عند خصائص اللغة وقواعدها وتصريف الجملة وتقدّم الفاعل على الفعل. والمفارقة تطلّ عندما يلحظ المنظّرون الاجتماعيون كيف تجتمع الشخصية العاطفية إلى العقل البارد وبعد المدى والجلَد والصبر وشمول النظر. لا شّك أنّ إيران أمّةٌ بكل ما تعنيه الكلمة، وليس بإمكان أحد إنكار ذلك. هي مجتمع له هويّته وملامحه وميزته وتميّزه، يصعب على كثيرين فهمه، ربّما لأنّ بعضنا، أو بعض الغربيين كأميركا، لم نعش فكرة الأمّة، وأنّ دولنا لم تنتُج من أمّة ولا استطاعت إنتاج أمّة.
وفي الملاحظة العملية، يساورك الشكّ حين تتتبّع أعمالهم لجهة جدوائيّتها، تخالها متعارضة متنافرة لكنك بمزيد من الصبر والتحمّل تفاجأ بنتيجة مختلفة؛ عملهم يشبه العمل بالأحجار والزجاج المرصّع وقطعه الصغيرة جداً وألوانه المتنافرة عادة. هم أشبه بالنمل، يحبّون العمل بصمت وبجلَد حتى بلوغ النتيجة الكبيرة ومفاجأة من حولهم بها. بين محمد جواد ظريف وقاسم سليماني، أو بين إصلاحيين ومحافظين، أو ما شابه من المتقابلات، قد يقول أحدنا، نحن المراقبين عن بعد، إنّه توزيع أدوار، لكنّ الحقيقة أبعد من ذلك وأدقّ؛ إنّ هذا التمايز الظاهري ليس قراراً خارجياً، بل هو تعبير عميق عن طبيعة العقل والعقلية ومداراتها ونموذج اشتغالاتها وتفاعلاتها. انظر في السجادة عندما تنتهي ستجد أنّ الألوان المختلفة هي بأصلها كذلك وأنّ الحائك يتحمّل التفاوتات والتناقضات والتعقيد، بل هي أصل في جمالية المشهد النهائي الذي تطلّب جهوداً صامتة وطويلة دونما ضجيج. الأهمّ من العناصر المرئية هو كيفية توليفها.
نعم، ترى في هذا المجتمع/ الأمّة قوّة الخيال والرمز والبطل والأسطورة إلى جانب العقلائية المصلحية الدقيقة والانضباط العالي في القضايا الكلية. وترى إلى جنبهما الثورية بأبعد مدياتها وأقواها تحفزاً. فعلاً، إنّها خليط يخيّل لك فيه التضاد معرفياً ومنهجياً، فإذا بك تراه متصلاً في عمقه وطبقات عقله ونفَسه. يختلفون بحدة تظنّهم على أبواب الصدام، لكن سرعان ما تراهم ملايين تشيّع البطل الذي يمثّلهم ويلهمهم قاسم سليماني.
قد يقترب المراقب والمستظهر من فك الأحجية أكثر إذا ما تنبّه إلى ما يمكن أن نسمّيه «مسار التراكم التاريخي والحضاري» الذي تقلّبت به هذه الأمة وهذا المجتمع. كأنّك إزاء عقل جمعي يتنقّل بين عدة طبقات أو أطوار؛ هو الثوري الذي يحب الملاحم ويعشق التحدي والطموح بلا حدود، وهو الذي يخطط بعقلانية المؤسسات والبيروقراطية «المزعجة أحياناً كثيرة» بأناة وينظر بدقة في المصالح والأساليب، وهو قبل ذلك امتداد لحضارة قديمة تميّزت بفن إدارة التنوع. كل ذلك يصعّب عليك الفهم والتوقّع لنمط السلوك وردات الفعل.
رأى كيسنجر، خلال عمله لعقود في سياسات المنطقة وفي مواجهة إيران الثورة، أنّ مكمن التعقيد في التعاطي مع إيران هو أنّ عقل الأخيرة يتحرّك بين طبقات ثلاث: الإمبراطوري والدولتي والثوري، «وهذا ما يصّعِب فهم كيف يفكر ويجعلها أشبه بمعضلة». إنّ إيران أمّةٌ امتزجت في بنائها دوافع وسياقات متعدّدة، الإمبراطورية فالدولة والثورة، والأخيرة لا تنفكّ تستفيد من كل ما تراه إيجابياً وصحيحاً من الطورين الأوّلين لتعيد إنتاج الهوية وتعريف الدور والقيم والرسالة والبرادايم العام لهذه الأمّة، بعدما كان العقل الإمبراطوري التسلطي هو المهيمن والموجّه لسياستها في المنطقة من خليجها إلى المتوسط بالتعاون مع الغرب والإمبراطوريات الأخرى.
كُثرٌ هم من ادّعوا فهمه وفشلوا. ليس آخرهم الدول الغربية وحلفاؤهم الذين ما انفكّوا لأكثر من أربعة عقود يتحدّثون عن استحالة استمرار هذا النظام، وأظّن أنّهم سينتظرون كثيراً ويستمر الرهان مفتوحاً بين طرفَي الصراع: الأوّل يتحدّث بعدم قابلية إيران والخطاب الإسلامي وفق الفهم الخميني للاستمرار، بينما يرى الثاني أنّ التجربة الليبرالية الغربية تفلس ويقترب زمن الحصاد.
رغم اعترافنا بوجود مشكلات في إيران تحتاج إلى معالجات فعلية، نظنّ أنّ البعض يخطئ التقدير ويستعجل بناء المقولات. هم، بتصوّراتهم هذه، يزيدون المنطقة وهناً على وهن، ويحولون دون أيّة فرصة لتفاهمات وتفاوض ممكن. كأن تأخذ الحماسة بعض الأقلام للحديث عن سقوط إيران وانتهاء التجربة الإسلامية الدينية بنسختها الخمينية. قد يكون الواقع شيئاً مغايراً تماماً: أن تعبر التجربة إلى الفضاء الأوسع في هذه اللحظة الدولية الانتقالية، وتستعد لتحجز المكانة الخاصة في العالم الجديد، وتجدّ لحيازة موقع «الحاجة» والملبّي لأخطر تحدّيات المستقبل بترسيخ ما يميّزها عن مختلف القوى الصاعدة. فإذا كانت الصين تحجز دورها المقبل من بوابة الجيو - اقتصادي وروسيا من بوابة الطاقة والجيو - أمني، فإنّها تجذّر دورها من خلال ميزة «مشروعية المقاومة» كفكر وخطاب وثقافة وحاجة بشرية أصيلة في عالم يتّجه إلى التغيير، ليس فقط في السياسة. هي تزيد من انخراطها وانغماسها في الفعل المقاوم والفكر التحرري وتعوّل أكثر فأكثر عليه، منطلقة من أرضية متينة للبناء: حيث كانت أوّل من نجح في إنتاج ثقافة الهدفية والعودة إلى الذات والثقة بها في عالمنا العربي - الإسلامي، وهي أكبر مساهم في صناعة وعي جديد وقصص نجاح غير محدودة ألحق الهزائم المتتالية بأميركا وإسرائيل وشركائهما في المنطقة وطعن في دعاوى شرعيّتهم ومبانيها.
يبدو أنّ غيمة الاستعلاء، المشبعة في الشخصية الغربية عموماً، ومن يقلّدهم، تحول دون فهم حقيقة هذا الشعب، فيستمرّون في مقاربات قشرية أو رغبوية لا تصل إلى العمق، تخلط الواقع بالمنى والهوى، وربّما يكون هذا أحد أسباب فشل الغرب خلال 44 عاماً في مواجهة هذه التجربة المتميّزة في عالم اليوم، باعتبارها التجربة الدينية الوحيدة في عالمٍ خلِعٍ يحارب بشراسة أنظومة الدين والقيم الروحية والإنسانية السامية.

*باحث لبناني