حرب بيد الغير، على أرض الغير، وضحاياها كلّ سكان الأرض. حروب عبر المحيط، للسيطرة والنهب وفرْض الإرادة. حروب لها مسارها الخاص - ولها مداها، ومساحة فعْلها، تندلع بحسب الخطط المقرّرة بدوافع تبدو نبيلة، لكنه نزاع مفتعل يُستعاد فيه التاريخ والجغرافيا ونزاعات الحدود واللغة والثقافة والعرق. إنها الحروب الأميركية التي انطلقت منذ قرنَين في القارة الأميركية وفي أوروبا.وكانت لاحقاً الحرب الأوكرانية، وحقوق الأقلية الروسية، والناطقين بهذه اللغة في أوكرانيا. ولكن سرعان ما ظهر أنها حرب أميركية على روسيا، بأيدٍ أوكرانية، وأدوات أوروبية، فيما أوروبا نفسها هي المستهدفة ضمناً لإخضاعها، إذ تدفعها السياسة الأميركية مرّة أخرى إلى أتون حرب جديدة من أجل السيطرة الكاملة أو شطْب أيّ دور لها على الساحة العالمية مهما كان هامشيّاً. إنها حربٌ لضرب أيّ محاولة للمساس بالأحادية القطبية الأميركية بعد انتهاء الحرب الباردة، بعدما باتت الولايات المتحدة تشعر بخطر اهتزاز هيمنتها في مواجهة عاملَين بدءا في التبلور في العقدَين الماضيَين، في روسيا التي التقطت أنفاسها، بعد الانهيار الكبير وتفكُّك الدولة ومؤسّساتها، واستباحة ثرواتها. وبدأ بوتين بمحاولة إعادة بناء الدولة الوطنية، منطلقاً من ثابتَين: قناعة بأن العودة إلى إعادة ما كان قائماً/ التجربة السوفياتية هو ضرب من اللاعقلانية، وقناعة أخرى وهي الشعور بالألم للإهانة الكبيرة التي تعرّضت لها روسيا والشعب الروسي، عبّر عنهما في قوله: «مَن لم يحزن لطريقة انهيار الاتحاد السوفياتي هو بلا قلْب، ومَن يفكّر بإعادة بنائه هو بلا عقل». وإعادة بناء الدولة الوطنية في روسيا لم تكن بالمهمّة السهلة، لأن الإرث كان ثقيلاً، والمهمّات أكثر صعوبة. وانطلَق بوتين من إعادة لملمة أشلاء الدولة الروسية، فأنهى الجرح المفتوح في الشيشان، واستعاد المؤسّسات الوطنية الكبرى التي كانت قد نُهبت وسيطرت عليها بالكامل الأوليغارشية الجديدة، ومنها شركة النفط العملاقة «غازبروم». وكذلك، بدأ بإعادة بناء الجيش الذي كان مخلّعاً. وعزّز الصناعات الحربيّة، وقلّص دور الأوليغارشية في مؤسسات ودوائر الدولة الروسية. وأَنجز توحيد المجتمع الروسي بأقلياته المتنوعة إثنياً ودينياً، وكذلك المصالحة مع الكنيسة الأرثوذكسية التي هُمّشت في ظلّ الحكم البلشفي، وهي كانت دائماً العمود الفقري للوطنية الروسية.
كلّ هذه التحوّلات أدّت إلى انتعاش دور الاتحاد الروسي على الساحة الدولية، عبر التقارب الذي حصل مع الصين والهند ودول «البريكس» لاحقاً، وكرّس هذه العودة بالتدخل العسكري الروسي في سوريا.
أمّا على المسار الآخر، فكانت الصين قد بدأت، ومنذ عقدين من الزمن، تشكّل هاجساً كبيراً للولايات المتحدة، وتثير قلق الدولة العميقة، هي نفسها التي استعانت بالصين في ظلّ الحرب الباردة التي خاضتها الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفياتي، وحاولت استخدام كل الأوراق المتوافرة لمحاصرته. وفي استثمار علني للخلاف الصيني - السوفياتي بعد وفاة ستالين (1953) وتسلُّم خروتشوف للسلطة، كانت الزيارة الأولى التي أجراها الرئيس الأميركي نيكسون للصين، في عام 1971، تاريخية، إذ أثمرت تعاوناً وانفتاحاً بين البلدين بعد وفاة ماو تسي تونغ (1976) - وانطلاق السياسة الاقتصادية الجديدة للصين في انفتاح كبير على الاستثمارات الأميركية والغربية - في ما أُطلق عليه «اشتراكية السوق».
وبدأ هذا التعاون ضمن مسار إنشاء «الشركات المتعدّدة الجنسية»، وجرى تأسيس شركات صناعية في البلدان النامية حيث المواد الأولية متوافرة، واليد العاملة رخيصة، وأسواق هذه البلدان جاهزة. وأضحت الصين، إلى جانب البرازيل والهند وكوريا الجنوبية، قواعد لأهم هذه الاستثمارات. وانطلقت مسيرة هذه البلدان في نهضة صناعية وتقنية كبيرة جعلت من اقتصاداتها تتخطّى مجمل الاقتصادات الأوروبية، لتبرز الصين كثاني اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية.
وعلى رغم هذه التحوّلات الاقتصادية الكبرى في الصين، بقيت البنية السياسية للنظام الشيوعي صامدة في قيادة الدولة، ما أشعر الأميركيين بتهديد ليس ببعيد للأحادية القطبية الأميركية على مستوى إدارة العالم وعلى استراتيجية العالم الأميركي «Pax America» تماثلاً بالـ«باكس رومانيا»، والذي أظهرته الولايات المتحدة في بداية تسعينيات القرن الماضي، تحت عنوان «نهاية التاريخ» وانتصار الليبرالية الأميركية، وصراع الحضارات كمقدّمة لتعميم الثقافة الأميركية على العالم بأسْره.
في ظلّ هذا الواقع المستجدّ، استمر الضغط على روسيا لإبقائها تحت السيطرة عبر تحفيز النزاعات المسلّحة على الحدود معها: في جورجيا، وأوكرانيا؛ وعبر توسيع حلف «الناتو» في أوروبا ليرتفع تعداد أعضائه من تسعة دول إلى ثلاثين دولة، وهو إلى زيادة، وذلك لاستكمال الحصار وبناء حزام على طول الحدود الغربية وجزء من الحدود الجنوبية.
والأطماع البريطانية بالأرض الروسية، انتقلت لتكون أطماعاً أميركية - بريطانية منذ لحظة خروج أميركا عن حيادها تجاه أوروبا عام 1913، ومشاركتها في الحرب الأولى على رغم «مبدأ مونرو» الداعي إلى الحياد، حيث أعلن «الكاردينال الرمادي»، وهو لقب لمستشار الرئيس الأميركي، وودرو ولسون، هاوس، عن ضرورة إسقاط القيصرية الروسية حتى تدخل أميركا الحرب، وتصريحات اللاحقين تأكيداً على منهجية هذه السياسة على امتداد القرن الماضي وحتى اليوم. بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، وفي كتابه «رقعة الشطرنج»، أعلن بوضوح أنه لا بدّ من تقسيم روسيا إلى أربعة بلدان، دولة في الشرق - سيبيريا، وثلاثة بلدان في أوروبا. وكانت تصريحات كونداليسا رايس، وزيرة الخارجية في عهد بوش، أكثر وضوحاً؛ وهنا أقتبس: «سيبيريا كبيرة جداً ولا يمكن أن تكون جزءاً من بلد واحد، ومسألة ثروات سيبيريا، وغناها ستُطرح عاجلاً أم آجلاً للنقاش، لأن الاتحاد الروسي الذي تبلغ نسبة سكانه 2% من سكان العالم، يحوز على 15% من مساحة الأرض. وكذلك يمتلك 30% من الثروة الطبيعية للكوكب. هذا الوضع ليس من المناسب أن يبقى قائماً».
وإذا كانت روسيا القيصرية تُعتبر عدوّة لأميركا والغرب، وروسيا البلشفية عدوّة أيضاً، وروسيا الرأسمالية عدوة كذلك. فالمسألة إذن ليست أيديولوجية، وإنّما وجودية بما هي وجود الاتحاد الروسي موحّداً وذي سيادة. وبهذه الحالة، تصبح العلاقة الصينية - الروسية أمراً واقعاً وضرورياً للبلدَين، والتي وصلت إلى مستوى التحالف غير المعلن. وهذا ما يشكّل عقبة إضافية تعيق المواجهة مع الصين لضبط اندفاعتها.
ومن هنا، برزت استراتيجيتان على مستوى السياسة العالمية الأميركية، كلتيهما اتفقتا على مواجهة صعود الصين، واختلفتا حول التعاطي مع روسيا. الاستراتيجية الأولى التي تبنّتها الدولة العميقة: تحالف «البنك الفيدرالي» والكارتيل الصناعي العسكري، وهي استراتيجية صاغها بريجنسكي منذ الثمانينيات وتقضي بضرورة ضرب روسيا لمحاصرة الصين ونقل المواجهة إلى الحدود الصينية - الروسية. أمّا الاستراتيجية الثانية والتي كان قد وضعها المستشار كيسنجر وتقول بضرورة العمل على احتواء روسيا لتكون حيادية في حال لم تكن حليفة. وقد عبّر عن هذه الوجهة هو نفسه في منتدى «دافوس» الأخير، حين كانت الحرب قد بدأت في أوكرانيا، إذ قال: «اذهبوا وأعطوا القرم والدونباس لروسيا، وأنهوا الحرب». وهي سياسة تبنّاها ترامب والمجتمع الصناعي النفطي في أميركا، والذي عانى ما عاناه جرّاء تراجع الصناعة الأميركية، وهي التي انتقلت إلى الخارج وحصصها من الإنتاج العالمي قد تراجعت، خصوصاً أن البنية التحتية الصناعية لم تتطوّر منذ أواخر الثمانينيات.
هذان المساران شكّلا أرضية لصراع داخلي أميركي حادّ بين الديموقراطية والجمهورية. فترامب بدأ ولايته الرئاسية بإعلان الصين خصماً بل «الخطر الأكبر» على الكيان الأميركي، لأنه، بحسب قناعته، فإن الصين، خلال عشر سنوات (2017)، لن تعود تقبل بالتفاوض مع الأميركيين حول مسائل يعتبرها استراتيجية، وهو حاول، في الوقت نفسه، فتح حوار مع روسيا، فمُنع عن تحقيقه، بحملات مركّزة في الإعلام، وهي المؤسسات التشريعية الأميركية. وجاء بايدن ليضرب كل سياسات ترامب، لاستكمال ما عملت عليه الإدارة الأميركية في عهد أوباما، ما دفع أوكرانيا أكثر فأكثر إلى الصدام مع روسيا، واستدراجها ضمن خيارَين: إمّا الخضوع أو الحرب. وبدأ بايدن استئناف وتكثيف التسليح لأوكرانيا وتدريجيّاً جرّ الاتحاد الأوروبي ليكون أداة وحصان طروادة مرّة إضافية للسياسة الأميركية عبر الضغط لإيقاف استيراد الغاز الروسي. وإدارة أوباما نفسها التي دفعت في اتجاه الانقلاب على «اتفاقية مينسك» (2014) - وما تصريحات المستشارة الألمانية السابقة ميركل الأخيرة إلّا تأكيداً أن الحرب ضدّ روسيا عبر أوكرانيا كانت قد اتّخذت: «عملنا على اتفاق مينسك في عام 2014 ليس بنيّة حلّ الأزمة الأوكرانية مع روسيا، ولكن لكسْب الوقت الضروري لاستكمال أوكرانيا تسلُّحها واستعداداتها للحرب». وما لم تشر إليه ميركل هو الدور الأميركي الأكثر تطرّفاً والذي لم يَقبل حتى باتفاق كهذا لإبقاء الوضع الأوكراني متوتّراً ونازفاً.
وعليه، فإن التحضيرات للحرب كانت قد بدأت منذ عام 2008، وتسارعت بعد الانقلاب الأميركي - البريطاني على الاتفاق والذي يعني بالضرورة الحرب على روسيا، ولكن مجيء ترامب إلى السلطة أخّر الحرب أربعة أعوام، مع استمرار الجيش الأوكراني والكتائب الفاشية عمليات تنكيل وإرهاب ضدّ الأقلية الروسية. واستمرّت التوتّرات إلى أن جاءت ساعة الصفر بعد قدوم بايدن إلى البيت الأبيض، ولم تنفع كل محاولات روسيا لتفاديها من دون أيّ تعاون مع الأميركيين والغرب. بل ووجهت كل المبادرات من قِبَل بوتين لحلّ النزاع رسمياً، بعدم الاكتراث ومزيد من الاستفزاز، وهذا ما جعل العملية الروسية العسكرية قدراً لا مفرّ منه.
وفي هذه الحرب، جاءت التوقّعات المتفائلة من الطرفَين؛ فالولايات المتحدة اعتقدت أن استدراج الاتحاد الروسي إلى الفخّ الأوكراني مع جملة العقوبات ودفْع أوروبا إلى المشاركة المباشرة في الدعم المادي، فالسياسي والاقتصادي كفيل بإسقاط روسيا، وإنهاء آمالها بالعودة بقوّة إلى الساحة الدولية. ولكن الوقائع أَظهرت، حتى الآن، أن روسيا لديها القدرة على الصمود في الميدان، وبمواجهة آلاف العقوبات التي فُرضت عليها.
من جهتها، اعتقدت روسيا أن عمليتها العسكرية بسرعتها وحجْم القوات المشارِكة وحصار العاصمة كييف وثاني المدن خاركوف، مع التقدم في الدونباس، كفيلة بإسقاط نظام زيلينسكي. وهذا ما لم يحصل. وراحت الحرب الأوكرانية تأخذ أبعادها الحقيقية كتجلٍ لصراع دولي، وانقسم العالم إلى معسكر معلن وواضح، ومعسكر قيد اكتمال التشكيل. وتوسعت التحرشات الأميركية الأطلسية إلى بحر الصين، وتقدّم موضوع تايوان إلى الواجهة كورقة ضغط إضافية على الصين. وبات واضحاً أن هذه الحرب، على رغم حصر ساحة العمليات العسكرية ضمن الحدود الأوكرانية، تشمل العالم بأسره، وهي لن تختلف بتداعياتها عن الحربَين العالميتَين الأولى والثانية، واللتين أفرزتا، في كل مرة، قوى جديدة لقيادة العالم.
وهذه الحرب القائمة اليوم، والتي مضى على اندلاعها ما يقارب العشرة أشهر، أرادتها الولايات المتحدة لحماية وإعادة تثبيت قطبيتها الأحادية وبتوقيت أصبح ملحّاً ومحرجاً بالنسبة إلى إدارة بايدن ضمن مشروعها أمام صعود الصين السريع كقوّة اقتصادية منافِسة، وقوّة عسكرية آخذة في البناء والتطوير؛ وكذلك أمام تعاظم النفوذ الروسي الذي انطلق عبر الحدود من روسيا إلى فنزيلا، وأفريقيا مع جملة التحوّلات السياسية في البلدان النامية، حيث برزت حركة تمرّد لكثير من هذه الدول بوجه الوجود الكولونيالي الغربي - الأميركي - الاقتصادي والعسكري والسياسي.
وكما في كل حرب تخوضها أميركا، وتحضّر لها، تكون الأثمان أوروبية، وتكون أوروبا هدفاً متضمّناً في أيّ حرب. وما لم تحصل عليه أميركا بعد الحرب العالمية الثانية بسبب حاجتها إلى دور أوروبي في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، يبدو أنه، وفي ظل الغطرسة الكولونيالية الأميركية الجديدة وبغياب قوّة موازية، لن تكون أوروبا بمنأى عن الإرادة الأميركية في إطباق السيطرة الكاملة عليها اقتصادياً وسياسيّاً، تحت السقف العسكري لـ«الحلف الأطلسي». وبدأت ملامح هذا الاستهداف بالظهور في نتائج جملة القوتين - لألمانيا وفرنسا - وتراجع الإنتاج، وفرض أتاوات مالية على شراء مصادر الطاقة بأثمان تصل كلفتها إلى ثمانية أضعاف، وتراجع الإنتاج الصناعي لألمانيا بنسبة 20% والآتي تأثيره كما يبدو سيكون أكثر سلبية.
ويكاد المراقب يعتقد بأن الحرب والعقوبات موجّهة ضدّ أوروبا، وتالياً ضدّ روسيا.
أوروبا نفسها هي المستهدفة ضمناً لإخضاعها، إذ تدفعها السياسة الأميركية مرّة أخرى إلى أتون حرب جديدة من أجل السيطرة الكاملة أو شطْب أيّ دور لها على الساحة العالمية


وهل تكون الخطة الأميركية بعد نشوء الوضع القائم في الحرب الأوكرانية، واستمرار وطول أمدها، إنهاك أوروبا بالكامل، للانطلاق في حصْد نتائج الصراع الدائر على قيادة جديدة للعالم؟ وهل هناك مشروع «مارشال» جديد ببرامج مختلفة لأوروبا لتكون ملحقة من دون أن يكون لها أيّ مكان في التسوية المقبلة؟ هل تكون هذه الحرب التي اختارتها الولايات المتحدة، كخيار وحيد لتجديد سيطرتها، آخر الحروب على أرض الغير التي ألِفتها أميركا طوال القرنَين الماضيَين؟
إن التداعيات الميدانية للحرب الأميركية على روسيا، لتصل إلى حلّ مع الصين، تشي بأن التوقعات الأميركية كانت متفائلة، وتبيّن أن روسيا التي استشعرت بالخطر الذي يهدّدها كانت أمام خيارين: الأوّل هو الاتجاه نحو تطوير صناعاتها، لخلْق بنية أكثر ثباتاً لاقتصادها وأكثر تنافسيّة ليتكامل مع قوّتها العسكرية. وهذا ما يتطلّب الكثير من الاستثمارات والكثير من الوقت، وهما عاملان غير متاحين في فترة المواجهة الداهمة، والخيار الآخر هو التطوير النوعي لترسانتها العسكرية الاستراتيجية، وهذا الخيار كان أكثر ملاءمة، وإمكانية إنجازه متاحة، فاستطاعت روسيا أن تطوّر أسلحة جديدة، وأكثرها تأثيراً الأسلحة الفرط صوتية، وهذه الأسلحة كانت مفاجأة الحرب، وشكّلت مظلّة واقية للقوات الروسية؛ فحتى الآن، لم تخرق سماء أوكرانيا أيّ طائرة أطلسية.
وعلى المستوى الاقتصادي، تبيّن أن التحضيرات الروسية استطاعت أن تتعامل مع العقوبات المالية، والاقتصادية، فالروبل الذي انخفضت قيمته مقابل الدولار إلى النصف، في الأيام الأولى للحرب، عاد ليستقر على ما كان عليه قبل الحرب. وبقيت روسيا وحيدة في الميدان، وأَثبتت أنها قادرة على المواجهة، فيما ليس في مستطاع الصين أكثر من دعمها سياسياً، واقتصاديّاً بشكل محدود. والصعوبات التي تحول دون انخراط الصين أكثر في هذه الحرب، هي ذاتها مقوّمات قوّتها الاقتصادية القائمة على الأسواق، وإذا ما أَقفلت هذه الأسواق ستؤدّي إلى انهيارات مأساوية.
ولا بد من الإشارة إلى أن النظام الصيني الشيوعي، ومن خلال نظامه الاقتصادي الهجين «اشتراكية السوق»، يُنتج نقيضه وهي الطبقة الرأسمالية الناهضة والتي تنحصر كل ثرواتها في يد 999 عائلة واستثماراتها الصناعية، والعقارية وشراكتها مع المؤسسات المالية الأميركية بشكل أساسي تشكل نقطة ضعف كبيرة للنظام كما للاقتصاد. وليس أمام الصين المستهدَفة إلّا خيار دعم الاتحاد الروسي، والوقوف إلى جانبه في هذه الحرب بالواسطة لمحاصرتها وإخضاعها، فيما تطوّر الموقف الصيني مرتبط بحجم زيادة الضغط الأميركي على هذا البلد.
إن هذه الحرب وتداعياتها وما نشهده من رفض لسياسة الهيمنة الأميركية هذه، وكأن العالم قد ضاق ذرعاً بفرض الإرادة على كل المستويات، تشير إلى أن العالم يتّجه إلى نظام جديد متعدّد الأقطاب، وإلى تراجع الهيمنة الأميركية في أحاديتها.

* باحث