لا تولد القوانين على سرير من راحة، بل على صفيح ملتهب من تعب. ليست القوانين هِبة مبسوطة من يد السلطة أو الحكم، بل نتيجة طريق طويل من الأوجاع والتضحيات لأفراد وفئات ومجتمعات. وحدهم الضحايا يعبّدون الطريق الطويل نحو تأسيس القانون، صرير وجعهم وأنين شكواهم هو ما يقود إلى إمضائه، وإلى معاناتهم يعود فضل إرسائه لمن سيأتون بعدهم. هذا ما يقودنا إليه كتاب «بحارنة المحمرة... الآباء المؤسّسون للجنسية البحرينية» للدكتور علي الديري، الصادر حديثاً عن مركز «أوال» للدراسات والبحوث، وبمعاونة كلٍّ من دعاء إبراهيم، ورؤى شمس الدين، عبر البحث في أرشيف الوثائق البريطانية.

قانون الجنسية البحرينية أحد هذه القوانين، ولد في ظلّ إرهاصات مجلجلة ومعاناة عاشها البحرينيون في الداخل والخارج خلال الثلث الأول من القرن العشرين حتى صدور قانون الجنسية البحريني في 1937. كان كتاب الديري «من هو البحريني؟»، الصادر في 2017، قد ذهب لتتبّع الإجابة على هذا السؤال من خلال الصراعات الداخلية التي قادت إلى ولادة قانون الجنسية البحرينية، مستنداً إلى أرشيف الوثائق البريطانية خلال تلك الفترة. في كتابه الجديد، يوسّع الديري هذا السؤال من خلال البحرينيين في الخارج؛ البحارنة الذين هاجروا إلى المحمّرة والقصبة والبصرة لدواع أمنية أو اقتصادية أو غيرها، يروي لنا حكاية هؤلاء، العرائض التي كتبها البحرينيون في الخارج يروون فيها معاناتهم في إثبات قانونية بحرينيتهم، وكيف أن حراك هؤلاء المهاجرين ووجعهم، قاد إلى إصدار قانون الجنسية البحريني.
قبل 1929 كان البحرينيون يتنقلون بين موانئ الخليج عبر وثيقة تسمّى جوازاً، لكنها ليست وثيقة جنسية بالمعنى المعروف الآن، بل أقرب إلى ورقة مرور، تشير في الوقت ذاته إلى أن الشخص الحامل لها من رعايا الحاكم، لكن قانون الجنسية لم يكن قد صدر بعد، ولا توجد إدارة حديثة لإصدار تلك الجوازات.
المناطق التي هاجر لها البحارنة، كالمحمّرة والقصبة والبصرة وكربلاء، كانت خاضعة لسيطرة الدولتين الصفوية أو العثمانية المتصارعتين آنذاك، فالمحمّرة والقصبة خاضعتان للدولة الصفوية، والبصرة وكربلاء خاضعتان للدولة العثمانية، لهذا مارست هاتان الدولتان ضغوطهما على البحرينيين المهاجرين في تلك المناطق من أجل تجنيسهم، بل وإخضاعهم إلى التجنيد الإجباري.
فبعد صعود الشاه رضا بهلوي في إيران، عانى البحارنة من الإمعان في التضييق على هويتهم القانونية والثقافية والدينية، مُنع اللباس العربي وتم إجبارهم على أخذ الجنسية الإيرانية أو التعرّض للإهانة والتحقير والنفي من البلاد. كان الشاه بهلوي يعتبر البحرين تابعة لإيران، وبالتالي فإن البحرينيين تابعون لها، وهذا ما واجهه المهاجرون في المحمرة والقصبة وموانئ فارس.
أمّا في البصرة وكربلاء الواقعتين تحت سلطة الدولة العثمانية آنذاك، فقد نصّ قانون الجنسية العثماني الصادر في 1869 على أن كل شخص يسكن بلاد الدولة العثمانية يعتبر عثمانياً ويعامل كذلك، حتى يثبت انتماءه لدولة أخرى إثباتاً قانونياً. لهذا كان على البحرينيين إثبات بحرينيتهم قانونياً، وهو ما تحرّكوا من أجله عبر عشرات العرائض ومئات التواقيع التي رفعوها إلى حاكم البحرين وإلى القنصلية البريطانية، وكان وجودهم من دون هذه الوثيقة يعرّضهم للتجنيس والتجنيد الإجباري.
عانى البحرينيون السجن والإذلال والإهانة والنفي وحرمانهم من ممتلكاتهم، وأجبر البعض على القبول بالجنسية الأجنبية. تُظهر عشرات العرائض التي تم العثور عليها إصرار البحرينيين على التمسّك بهويتهم الثقافية والقانونية وتأكيدهم «إننا لا نقبل أن نأتمر إلى غير دولتنا»، كما في إحدى الوثائق الموقّعة من قبل 65 شخصية بحرينية في القصبة عام 1932.
لم يتوقّف البحارنة المهاجرون عن تدشين العرائض تلو العرائض، مطالبين بإقرار جنسيتهم البحرينية قانونياً، وتثبيت حقهم في التسجيل في القنصلية البريطانية كونهم رعايا تابعين لشيخ البحرين. بلور هؤلاء المهاجرون وضعهم الإشكالي المفهوم القانوني الدستوري لمفهوم البحريني الذي سيكون في 1929 على شكل جواز سفر تمنحه الدولة لمواطنيها، وفي عام 1937 سيصبح قانوناً رسمياً للجنسية البحرينية.
هكذا تأتي القوانين من اشتداد حاجة الناس، من صوت معاناتهم، من صلب أوجاعهم، لا من فيض كرم الحكام.

* كاتبة بحرينية