جونجين لي وديفيد كوتز[هذا النص ترجمة مختصرة بتصرف لمقال منشور في فصلية «Review of Radical Political Economics»]

ما هي الإمبريالية؟
استخدم لينين كلمة «الإمبريالية» بمعنيين: الأول يعني به فترة الإمبريالية الرأسمالية، أما الثاني فيعني أن الإمبريالية ليست مرحلة معينة من الرأسمالية، وإنما تشير إلى معنى أكثر عمومية يمكن تطبيقه على الأشكال الاجتماعية المختلفة وليس على المرحلة الاحتكارية للرأسمالية وحسب. وفقاً للينين، تنطوي الإمبريالية على علاقة بين الدول – حيث تنهب الدول ذات النفوذ العالم بأسره – وتنطوي العلائق الإمبريالية على «الهيمنة» بأشكال مختلفة تشمل «الضم» و«الخنق المالي» و«القمع الاستعماري»، وتشمل المكاسب التي تعود على القوى الإمبريالية، «النهب» و«الربح الفائق» و«قص الكوبونات»، وتشمل وسائل الحصول على هذه المكاسب القضاء على المنافسة، وبناء القوة الاحتكارية، وإقامة الهيمنة المالية، وتأمين السيطرة على المواد الخام.
اليوم، لدى الصين نمط إنتاج مختلط: بنية اقتصادية رأسمالية، ولكن أيضاً، في الوقت نفسه، دولة ليست رأسمالية. وبالتالي فنحن بحاجة إلى مفهوم للإمبريالية يمكن تطبيقه على نمط إنتاج مختلط في زماننا المعاصر.
الإمبريالية، من وجهة نظرنا، هي الهيمنة الاقتصادية والسياسية على بلدٍ ما من قِبل طبقة حاكمة في بلدٍ آخر بهدف انتزاع منافع اقتصادية لتلك الطبقة الحاكمة. نحن نُدرج الهيمنة السياسية لأن الدولة هي أداة الإكراه في العصر الحديث، فلا يمكن للشركات التجارية أن تحتل موقعاً مهيمناً في بلدان أخرى بمفردها، وإنما القوة الإمبريالية للدولة هي التي تمارس سلطتها في بلدٍ آخر لضمان تحقيق ذلك: يمكن لرأسمالي من بلد ما أن يعمل في بلدٍ آخر مع حماية مصالحه من قِبل الدولة في البلد الآخر نتيجة للعلاقات الطبقية هناك؛ هذه علاقة استغلال رأسمالي، وليست إمبريالية. إنها تصبح إمبريالية حصراً عندما تمارس الدولة الراعية للرأسمالية الهيمنة بشكلٍ ما عبر الحدود الوطنية.

البُعد الاقتصادي لنمط الإنتاج الصيني
كيف نُشخِّص القاعدة الاقتصادية للصين اليوم؟ علينا عندما نحاول تحليل نمط الإنتاج في زمان ومكان معينين أن نأخذ في الاعتبار تنوع الأشكال الاقتصادية، فالنظم الرأسمالية تشمل بعض عناصر التخطيط الاقتصادي وبعض الشركات المملوكة للدولة، وكان لدى النظم الاشتراكية بعض الشركات الخاصة وبعض عناصر السوق.
توضّح الأرقام انخفاض حصة الأصول في القطاع الصناعي الصيني التي تحوزها الشركات العامة من 68.8% عام 1998 إلى 38.8% عام 2018، في حين ارتفعت حصة الشركات الخاصة من 31.2% إلى 61.2% خلال الفترة نفسها.
وتوضّح الأرقام انخفاض حصة العمالة في الشركات العامة بالقطاع الصناعي الصيني من 60.5% عام 1998 إلى 17.9% عام 2018، في حين ارتفعت حصة العمالة في الشركات الخاصة من 39.5% إلى 82.1% خلال الفترة نفسها. ونظراً إلى أن أكثر من 80% من القوى العاملة الصناعية تعمل في شركاتٍ خاصة، فذلك يعني أن بنية الملكية في الصين تتوافق مع تعريف القاعدة الاقتصادية الرأسمالية.
كان للصين اقتصاد مخطّط منذ نجاح الثورة وحتى عام 1978 حين تحولت إلى اقتصاد السوق. اليوم، لا تستخدم الدولة الصينية السياسة المالية والنقدية الكينزيَّة وحسب، بل أيضاً تستثمر بمستوى عالٍ في البنية التحتية العامة، وتمارس السيطرة على استثمارات الشركات العامة، فضلاً عن أنها تُصدر – في بعض الأحيان – أوامر إلى الشركات الخاصة بشأن الإنتاجية والاستثمار، ومع ذلك تظل النتيجة هي اقتصاد السوق على الرغم من الدور المحوريّ للدولة في توجيه وتنظيم النشاط الاقتصادي.
في الصين، يعمل القطاع الخاص الضخم من أجل الربح، فيما يمكن لعناصر من القطاع العام الكبير أن تُنتج بهدف الاستعمال لا الربح. ومع ذلك، دَعَت سياسة الحزب الشيوعي الصيني الأخيرة معظم الشركات العامة إلى استهداف تعظيم الربح دون تدخل مسؤولي الدولة في قراراتها، وأقلية فقط من الشركات العامة في مجالات مثل الأمن القومي والصحة العامة من المفترض أنها تخدم الأغراض العامة بدلاً من السعي وراء تحقيق الربح.
إجمالاً، إذا ما أخذنا في الاعتبار أبعاد القاعدة الاقتصادية الرأسمالية، فيمكننا إذاً استنتاج أن القاعدة الاقتصادية اليوم في الصين رأسمالية، وإن كانت للدولة حصة كبيرة من الشركات العامة ودور نَشِط – غير معتاد – في توجيه الاقتصاد، فإن هذه الميِّزات لا تتعارض مع القاعدة الاقتصادية الرأسمالية.

القاعدة الاقتصادية والدولة والإمبريالية
من المعروف أن الطبقة الرأسمالية تُسيطر، في ظل نمط الإنتاج الرأسمالي، على الدولة. لكن في الصين، ولِدَ الاقتصاد الرأسمالي في كَنَف الحزب الشيوعي الصيني وتغذى على سياساته؛ إنه حزب سياسي ذو قاعدة عريضة من العمال والفلاحين الذين استولوا على السلطة في خِضَمّ حربٍ أهليَّة. ومع ذلك يضم الحزب – منذ عام 2001 – مجموعة من الرأسماليين، لكن لا يوجد أيُّ دليل على أن الرأسماليين يسيطرون الآن على الحزب الشيوعي الصيني أو ما إذا كان يمكنهم تحديد سياسة الدولة.
يسيطر على الحزب الشيوعي الصيني قيادة تروج لمجموعة من الأهداف الاقتصادية – تختلف عن أهداف الطبقة الرأسمالية – هي كالآتي:
1- تعزيز التنمية الاقتصادية للصين من أجل أن تصبح دولة مزدهرة ذات مستوى معيشي مرتفع؛ الأمر الذي يتطلب استمرار النمو الاقتصادي السريع.
2- تعزيز التقدّم التكنولوجي نحو الحدود التكنولوجية العالمية.
3- توجيه الصين لتصبح لاعباً أساسياً في الشؤون الاقتصادية والسياسية العالمية.
4- تعزيز الحركة، في الآونة الأخيرة، نحو اقتصاد مستدام بيئياً.
ولتحقيق الأهداف المذكورة أعلاه – في نظام عالمي تهيمن عليه الرأسمالية، واقتصاد محليّ رأسماليّ – آثار عديدة فيما يخص سياسة الصين – وخاصة للحفاظ على النمو الاقتصادي السريع – تنتهي إلى عدة مشكلات يكمن حلُّها، في التحليل الأخير، في أن تُشجِّع الدولة الصادرات وتضطلع باستثمارات عامة متزايدة؛ ولا تولِّد تلك الأهداف دافعاً صينياً للسعي إلى الهيمنة على البلدان الأخرى، فالطريقة الأرخص والأكثر فعالية لتحقيقها هي تقديم صفقات متبادلة المنفعة في بلدان أخرى.
بالطبع، لدى الرأسماليين الصينيين الدافع نفسه نحو الإمبريالية، لكنهم إن لم يسيطروا على الحزب الشيوعي الصيني والدولة، فإننا لا نتوقع أن تنشط الصين كقوّة إمبريالية. والطبقة الرأسمالية في الصين ليست عاجزة لأن تحقيق أهداف قيادة الحزب – تعزيز الاقتصاد الرأسمالي في الصين – يستوجب على الدولة حماية مصالح الطبقة الرأسمالية محلياً. إجمالاً، لا يحتاج الحزب الشيوعي الصيني إلى الهيمنة الإمبريالية لتحقيق أهدافه الاقتصادية، فضلاً عن أن الطبقة الرأسمالية الصينية تفتقر إلى القدرة على إجبار الحزب على السعي نحو الهيمنة الإمبريالية.

انخراط الصين خارج حدودها
يتهم الخطاب المهيمن على الساحة الصين بأنها تمارس الاستعمار الجديد أو الإمبريالية؛ تُعبِّر هذه الرواية السائدة حول توسُّع الصين عن مخاوف الغرب وقلقه تجاهها أكثر مما تُعبِّر عن الطبيعة الحقيقية لانخراط الصين مع الدول الأخرى.
أوضحت بعض دراسات الحالة أن انخراط الصين في الخارج يعكس التحوّل في القاعدة الاقتصادية المحليَّة لها، فالشركات الخاصة التي تتخذ من الصين مقراً لها تبحث عن الربح خارجها؛ ولا يوجد هنا أي سعيٍ نحو هيمنة الدولة.
وتوضِّح مراجعة الإقراض الصيني في الخارج منذ عام 1949 أن الصين كانت دائماً مُقرضاً دولياً نشطاً، بداية من الدول الشيوعية الأخرى في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، إلى البلدان النامية في العقدين الأخيرين. شكَّل الإقراض الصيني الرسمي دائماً عنصراً استراتيجياً، وكما توضِّح الأرقام، زاد إقراض الصين في الخارج نسبة إلى ناتجها المحليّ الإجماليّ – المتنامي – بعد انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001. وأصبحت الصين دائناً عالمياً مهيمناً؛ لكنّ الأهم من ذلك أن معظم الإقراض الخارجي واستثمارات الحافظة في الصين تقوم به – على عكس الاقتصادات الكبرى الأخرى – الحكومة الصينية أو الشركات المملوكة للدولة أو البنك المركزي الذي تسيطر عليه الدولة، وليس مستثمرو القطاع الخاص الذين يتبعون منطق القرارات الموجهة نحو الربح.
تهدف العديد من الاستثمارات الصينية في الخارج إلى استخراج الموارد الطبيعية والوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة البالغة الأهمية لاقتصادها المحليّ؛ وهذا يُعبر عن السعي إلى الحفاظ على النموّ والاستقرار المحليين: الأمر الذي يشكل أهمية محوريَّة لشرعية الحزب. تعمل برامج الإقراض الصينية الرسمية – وأبرزها مبادرة الحزام والطريق – كوسيلة للتعاون الدوليّ بدلاً من الهيمنة. وتوجَّه قرارات الاستثمار والقروض بشكل رئيسي من خلال بنك التنمية الصيني وبنك الصين للاستيراد والتصدير اللذين تسيطر عليهما الدولة والموجهين نحو تحقيق أهداف سياسات الحزب والدولة، بدلاً من أن تقام من قِبل رأسماليّي القطاع الخاص الباحثين عن الربح. وغالبية الاستثمارات الصينية في الخارج موجهة نحو مشاريع البنية التحتية للنقل والاتصالات وإمدادات الطاقة، وعادة ما تُقدَّم قروضها بفائدة صفريَّة أو قريبة من الصفر، وغالباً ما تُسدَّد من خلال مقايضتها بالموارد الطبيعية، هذا إن لم يتم إلغاؤها بالكامل.
من خلال الاستثمار في البلدان النامية وإقراضها – خاصة البلدان المنخفضة الدخل – وتعزيز التصنيع في الجنوب العالمي، يُنظر إلى الصين على أنها داعم للمبادرات الهادفة إلى معالجة مشاكل التنمية التي لم تحلها مبادرات الشركات الليبرالية الجديدة. ورغم أن النهج الذي تتبنّاه الصين حالياً تجاريّ أكثر من سابقه، فإنها تواصل دعم المشاريع التي تديرها الدولة في قطاعي الصناعة والزراعة، وهو ما يتناقض مع إصرار إجماع واشنطن على شروط برامج التكيُّف الهيكلي.
كشفت الدراسات أن الرأسماليين الصينيين يعاملون العمّال المحليين معاملة مماثلة لمعاملة المستثمرين الرأسماليين من البلدان الأخرى لهم، بينما كانت الشركات المملوكة للدولة الصينية أكثر استجابة لمتطلبات الحكومة المضيفة بخصوص خلق فرص العمل وتحسين ظروفه. وكشفت الدراسات أيضاً أن مصالح الشركات الصينية في مبادرة الحزام والطريق لا تتوافق بالضرورة مع مصالح الدولة، وأن الاستثمار الخاص لا يزال لا يشكّل حصة كبيرة من الاستثمار في الخارج، وأن رأسماليي القطاع الخاص لا يملكون نفوذاً بما يكفي للضغط على الدولة الصينية لفرض مصالحهم في البلدان الأخرى، وأن معظم الاستثمار الرسمي والإقراض يتبع السياسة العامة للحزب والدولة. إجمالاً، تشير جميع الأدلة إلى أن انخراط الصين خارج حدودها لا يتبع في أي حال ديناميكية الإمبريالية الرأسمالية.

خاتمة
اقتصاد الصين ـــ السريع النمو ـــ هو الأكبر في العالم وفقاً لعدة مقاييس، كما أن لديه الآن بنية اقتصادية رأسمالية. هذا يثير التساؤلات حول ما إذا كانت – أو ستصبح – الصين قوّة إمبريالية؛ المسار المعتاد لدولة رأسمالية كبيرة. ومع ذلك، يشير تحليلنا إلى أنه من المتوقع أن يؤدي نمط الإنتاج المختلط في الصين – الاقتصاد الرأسمالي والدولة التي تختلف عن الدولة الرأسمالية المعتادة – إلى تفاعلات عالمية ليست إمبريالية.

ترجمة إبراهيم يونس