لستُ من أنصار التفاؤل المُفرِط، مثل بعض أصدقائي، ولا ممن يسوقون أن «الحرب القادمة هي آخر الحروب وستحمل نهاية حتمية للكيان الصهيوني العنصري وإزالته من الوجود». ربما لأن الرؤية الثورية الواقعية المتفحّصة تكفي لكي نعرف أن كياناً نووياً يتمتع بقدرات اقتصادية وعسكرية وتقنية كبيرة، ومدعوماً من أعتى الإمبرياليات العالمية عبر قرنٍ من الزمن، ومحمياً من «المجتمع الدولي»، وقد أصبح مصيره مرتبطاً عضوياً بالأنظمة الرجعية في المنطقة والعالم، لا يمكن أن يكون زواله بحرب عابرة، أو بقرار من معسكر المقاومة. بل إن انهياره يشبه أسباب وجوده، ويرتبط بتغيرات نوعية في موازين القوى في الساحتين الفلسطينية والعربية، وموازين القوى الدولية أيضاً، خاصة هذه الأخيرة، نقصد تغييرات تشبه تلك التي وقعت بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية والتي وفّرت الأرضية لتأسيس ووجود الكيان وقطفت الإمبريالية والصهيونية ثمارها ونتائجها. القول أعلاه لا يعني أن وجود الكيان الصهيوني قدر محتوم على أمّتنا ومنطقتنا، فالكيان الصهيوني يسير عكس منطق التاريخ والعدالة ويقف سدّاً أمام حقوق وطموحات أمّة عربية كبرى من المحيط إلى الخليج. ولا مستقبل له في وطننا العربي، فضلاً عن تصميم الشعب الفلسطيني على القتال حتى النصر، غير أنه من المفيد في هذا السياق أن نلقي نظرة على وضع العدو الصهيوني، إذ برغم قوته، يعاني الكيان من صراعات وأزمات داخلية، ويشتد الخلاف بين «القوى العلمانية المدنية» والتيارات اليمينية المتطرفة التي استحكمت على جزء رئيس في مفاصل الحكم والقرار.

أزمة الكيان
بن غفير، مثلاً، المنحدر من تنظيم «كاخ» الذي اعتبره الكيان الصهيوني ومن خلفه الولايات المتحدة تنظيماً إرهابياً، وسيموريتش الذي دعا أخيراً لإزالة قرية حوارة الفلسطينية من الوجود، مثل هذه الشخصيات والسياسات تضع حلفاء «إسرائيل» في موقع حرج. ويبرز الصراع بين «المستوطنين-المستعمرين القدامى» وسكان المستعمرات الصهيونية «الجديدة» في الضفة الغربية المحتلة. حيث أصبح هؤلاء يعتبرون المستوطنات وسلوك «المستعمرين الجدد» خطراً حقيقياً على وجود واستمرارية نظامهم كله. نتج عنه شعور متعاظم لدى الكتلة العلمانية التي أسّست الكيان الصهيوني وسوّقته للعالم كواحة للديموقراطية في المنطقة، واليوم تجد نفسها محاصرة بمجموعات تهدّد كيانها كله، تكشفه وتشكّل تهديداً لصورته ومستقبله.
رأينا كيف برز «تناقض داخلي» في قلب الكيان أخطر تجسّد في «أحداث الشيخ جراح» في القدس المحتلة، ومعركة «سيف القدس». فكل محاولات الأسرلة التي قامت بها مؤسسات «الدولة» وسياسات «تدجين العرب» الفلسطينيين في الداخل المحتل منذ 48 ذهبت أدراج الرياح. حيث شكّلت جماهير الشعب الفلسطيني في عمق الوطن المحتل رأس حربة وأثارت انتفاضتهم الشعبية مخاوف كبيرة لدى أجهزة الأمن الصهيونية التي رأت بعينيها الجمر الساكن تحت الرماد.

تصاعُد المقاومة
انتشار ظاهرة بؤر المقاومة المسلحة في جنين ونابلس وطولكرم وأريحا وغيرها في الضفة يشكّل حالة عصيان عسكري ضد الاحتلال والسلطة في آن. لقد أصاب رصاص فدائييها قلب الكيان الصهيوني في سلسلة عمليات بطولية أدّت إلى مقتل أكثر من عشرين صهيونياً منذ بداية العام الحالي، ناهيك عن تعاظم قوة حركات المقاومة في قطاع غزة واشتداد عودها وقوتها رغم الحصار المفروض عليها، دون أن ننسى أن الكيان شنّ خمس حروب طاحنة وعشرات الحملات العسكرية دون أن يستطيع هزيمتها أو حتى إضعافها.
هذه العوامل وغيرها تأتي في ظل سقوط مدوٍّ لنهج التسوية الذي أصاب تيار «أوسلو» في مقتل، حيث نجد السلطة الفلسطينية تعيش مأزقاً مركّباً يصعب الفكاك منه، فيما يزداد الالتفاف الشعبي حول خيار ونهج الكفاح المسلح – الانتفاضة – ورأينا ذلك واضحاً في نتائج الانتخابات الطالبية والنقابية في الضفة المحتلة على نحو خاص، إذ حتى القوى الطالبية والنقابية التي لم تنجح في الانتخابات ليست خارج إطار المقاومة تماماً، ولا تعبّر عن موقف سلبي تجاه الفعل الكفاحي والأسرى والنضال المسلح.
وبنظرة سريعة إلى ما يحدث من تطورات في قارتي أوروبا وأميركا الشمالية اللتين شكّلتا تاريخياً الحاضن والداعم الرئيس للكيان وكان لهما الدور الأساسي في نشوئه واستمراريته، نجد تغيّراً متزايداً لصالح النضال التحرّري الفلسطيني في الرأي العام الأوروبي والأميركي، ومناهضة شعبية أكثر لطبيعة «إسرائيل» العنصرية. وتزداد قوة حركة مقاطعة الاحتلال باعتباره كياناً عنصرياً، وتنضم العديد من اتحادات العمّال والجامعات والنقابات إلى حركة المقاطعة الشعبية في قلب المركز الإمبريالي. نرى كيف يعلو صوت الفنانين والفنانات والمثقفين دعماً لفلسطين، وصولاً إلى الأصوات الداعية لفضح الطبيعة العنصرية الاستيطانية للكيان الصهيوني والدعوة لوقف جرائمه وكشف وظيفته الاستعمارية.
أرادت قوى الإمبريالية والصهيونية والرجعيات العربية توظيف الانتفاضات الشعبية وما يسمى «الربيع العربي» واستخدامها لتفتيت المجتمعات والدول العربية، وإضعاف حركات المقاومة في المنطقة وترحيل الفلسطينيين إلى أوروبا وأميركا «بعيداً عن حدود فلسطين». غير أن هذه السياسة أتت بنتائج عكسية، حيث يتصاعد دور أنصار حركات المقاومة ويستعيد الشباب الفلسطيني دوره الاستراتيجي ويؤسس حركات شعبية داعمة لفلسطين والأسرى، باتت تؤرق الاحتلال وداعميه، ونرى كيف تستنفر سفارات الكيان في أوروبا ضد قوى مثل «شبكة صامدون للدفاع عن الأسرى الفلسطينيين» وغيرها من قوى جذرية ناشطة ومؤثّرة.
لقد عبّرت السفيرة الصهيونية في بروكسل في تشرين الأول الماضي عن خيبة أملها حين طلبت من رئيس بلدية بروكسل إلغاء «مسيرات العودة والتحرير» التي نظّمتها «حركة المسار الثوري البديل» وشارك فيها الآلاف رافعين صور الشهداء ولافتات الدعم للمقاومة الفلسطينية. الأمر ذاته تكرر مع السفير الصهيوني في برلين الذي يهاجم «شبكة صامدون» داعياً إلى اعتبارها «منظمة خارجة عن القانون». ويمكن أن نسرد عشرات الأمثلة على حالة التخبط والقلق التي تعيشها منظمات الحركة الصهيونية وسفارات الكيان في الغرب.

العقبة الفلسطينية
تشكّل السلطة الفلسطينية العقبة الداخلية أمام تطور المقاومة – الانتفاضة – وقد لعبت الطغمة الحاكمة في رام الله دوراً كبيراً في تشويه جوهر النضال الوطني الفلسطيني وسوّقت للكيان وكانت شريكاً حقيقياً وفعالاً في الهبوط بمواقف الدول العربية والقوى المؤيدة للشعب الفلسطيني في المحافل الدولية.
لقد حوّلت سفاراتها إلى أوكار للاسترزاق وللتجسس على الفلسطينيين المقيمين في الخارج، تماماً كما تفعل أجهزتها الأمنية عبر «التنسيق الأمني المقدّس». وأصبحت مواقفها المعلنة تتماهى مع مواقف الكيان الصهيوني خوفاً على مناصبها ومصالحها وامتيازاتها التي تحصل عليها من «إسرائيل»، وقامت السلطة بتسليم المقاومين، بل وتصفيتهم جسدياً كما فعلت مع الشهيد نزار بنات.
ولم تخجل من إعلان عمالتها وتبعيتها متمسكة بشرعية كاذبة استمدتها من نظام عربي متهالك وما يسمى «المجتمع الدولي»، وهذا هو الاسم الرديف للولايات المتحدة والغرب. وعليه، تصبح مهمة إزالة السلطة مقدّمة لا بد منها في طريق إزالة الكيان نفسه. فالسلطة الموجودة في رام الله هي في الجوهر امتداد لسلطة الاحتلال.

خلاصة عامّة
بعد أكثر من 75 عاماً من الصراع مع العدو الصهيوني، وبعد كل ما تعرّضت له حركة التحرّر الفلسطينية من محاولات تصفية عبر الحروب والقتل والتدمير والتهجير، تارة، وعبر المؤتمرات والاتفاقيات التي كانت في جوهرها مؤامرات تصفية، تارة أخرى، أصبحنا اليوم نقف على عتبة جديدة تدفعنا إلى ضرورة تأسيس مسار ثوري عربي وأممي جديد، مستفيدين من الدروس السابقة السلبية ومن الإرث المشرّف الذي قدّمه عشرات آلاف من الشهداء والجرحى والأسرى.
هذا المسار الثوري العربي الجديد الذي ندعو إليه يجب أن يكون عماده مقاومة عسكرية وحاضنة جماهيرية عربية كبرى في مواجهة الكيان وداعميه، ويكون داخل وخارج المركز الإمبريالي العالمي نفسه. فالصراع مع هذا العدو صراع تناحري وجودي، ونعيد ما قاله ذات مرة الحكيم جورج حبش يوماً: «النضال ضد المشروع الصهيوني قد يمتد لمئة عام وأكثر، فعلى قصيري النفس التنحي جانباً».

* كاتب فلسطيني