الواقع هو نفسه، لكنّ مقارباته مختلفة. وقد اقتصرت مقاربتنا له - نحن اليساريين الماركسيين «الشباب» - على نظرية الصراع الطبقي التي أرساها كارل ماركس من خلال مفهومه المادي للتاريخ القائم على نظريته الاقتصادية السياسية. وهذا في حد ذاته شيء رائع. لكن المشكلة كانت - عند البعض - تتعلق في الفهم المحدود لهذه النظرية، إذ إن ماركس لم يكن ينفي وجود عوامل أخرى متفاعلة في ما بينها - سواء أكانت إيديولوجية أم سياسية - تؤثر في مسار التطور التاريخي، إنما هو كان يأخذ العامل الاقتصادي كعامل محدد في نهاية المطاف. وإلا لما كانت الجدلية أساس هذا الفكر. انطلاقاً من هذه المقولة، كنت أنظر إلى احتلال فلسطين وإلى وظيفة إسرائيل في المنطقة كنتاج لتطور النظام الرأسمالي ودخوله في مرحلة الإمبريالية. وهذا كان يولّد لديّ قناعة بأن «إشكالية» تحرير فلسطين من هذا الاحتلال الصهيوني الإمبريالي مرتبطة بشكل مباشر بالتحرر من الرأسمالية نفسها، خاصة أن سمة الانتقال إلى الاشتراكية في النصف الثاني من القرن الماضي كانت ظاهرة تعم العالم وتلهم حركات التحرر الوطني. لكنّ للتاريخ مساراً لا يتوافق بالضرورة مع مشيئة الأفراد. فكان لهزيمة نظام القطبين ولأزمة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي أثر كبير على بروز إيديولوجيات تحررية أخرى كانت آخذة في التبلور سابقاً، ومتأثرة أيضاً بالماركسية، مثل «لاهوت التحرير» في أميركا اللاتينية الذي يأخذ جذوره من المسيحية التحررية، وأيضاً «فقه التحرير» المستمد جذوره من التاريخ الإسلامي الذي أنتج الثورة الإسلامية في إيران. طبعاً، بالنسبة إلى قضايا التحرر الوطني العربي لم تكن الإيديولوجية الإسلامية لتأخذ مكانها في بداية النصف الثاني من القرن الماضي بسبب عدم تبلورها بشكل تقدمي أولاً، وثانياً، لأن الاستعمار هو الذي كان يحرك غالبية الحركات الإسلامية من أجل وضعها في مواجهة الحركات الاشتراكية خدمة لمصالحه.
ولكن مع انتصار المقاومة في عام 2006 فُتح مسار جديد في التاريخ. والمشكلة أصبحت الآن عند الذين لا يرون - أو لا يريدون أن يروا - النتائج التاريخية لهذا النصر على الصراع العربي الإسرائيلي وعلى قضية التحرر الوطني بشكل عام. نعم، نحن على عتبة إنجاز نصر تاريخي يتمثّل في القضاء على هذا الكيان الصهيوني وفي تحرير فلسطين، والقادرون اليوم على القيام بهذا الإنجاز هم - في الأساس - قوى هذا «الفقه التحرري» المتمثلة في المقاومة الإسلامية. وفي هذا إرادة التاريخ (أقله حتى الآن) وعلينا جميعاً التعامل مع هذا الواقع.
وللكثيرين من أمثالي، لا يشكل هذا الأمر أيّ معضلة. فلطالما كان التاريخ الإسلامي والمسيحي، وكذلك كل الأفكار والفلسفات التحررية التقدمية الثورية، جزءاً من ثقافتي الذاتية المختزنة لكل القيم التي راكمتها الإنسانية. إنّ المشكلة التي قد يواجهها البعض من مختلف الاتجاهات الفكرية الأخرى، سواء أكانت دينية أم علمانية أم يسارية، حين لا يتقبّل واحد منهم الآخر، تعود إلى ضيق الأفق الثقافي عند هؤلاء من جهة، ومن جهة ثانية في الموقف السياسي الطبقي المسبق الذي يحدد علاقة كل طرف منهم مع الواقع. فلا الطبقي كان غائباً في التاريخ الديني - مسيحياً كان أو إسلامياً - ولا الماركسية (إذا أردنا لها أن تختصر كل التيارات اليسارية غير الدينية) تنفي دور العامل الديني، خاصة إذا ما تحول إلى قوة محرّكة للتاريخ. وهذا ما نجده في الأدبيات الكلاسيكية للماركسية، وكذلك هو الأمر في ظروف التحرر الوطني حيث تستخدم الشعوب كل موروثاتها الثقافية بما فيها الدين للنضال ضد المستعمر الأجنبي. وبالرغم من أن صراعنا مع العدو الصهيوني ليس دينياً بل بسبب سياساته العدوانية واغتصابه للأرض وللحقوق العربية، إلا أن العقيدة الدينية المحفِّزة لمواجهة هذا العدوان أثبتت فعاليتها وأفضليتها على أشكال الوعي الأخرى، أقله في هذه المرحلة.
وذات يوم في سبعينيات القرن الماضي سمعت تصريحاً لسياسي إسرائيلي - لم أعد أذكر اسمه - قال فيه إن على إسرائيل أن تفعل المستحيل لكيلا يتحول الصراع العربي-الإسرائيلي إلى صراع ديني. يومها استغربت هذا القول ولم أفهم سبب قلقه هذا، خاصة أن على رأس قوى المقاومة في تلك الفترة لم يكن للقوى الإسلامية أي وجود يُذكر. لكن مع مرور الوقت وتطور الأحداث ومعرفتنا بهذا العدو ووظيفته، نجد أنه، برغم السمة والدور الاستعماري الناتج عن تطور الرأسمالية، هناك حرب دينية حقيقية موازية يقودها، ليس فقط على العرب بل على العالم أجمع، وذلك بسبب ارتباط العقيدة بتطور رأس المال. وبالرغم من أن مؤسّسي الصهيونية كانوا من البرجوازيين العلمانيين، فإنهم وجدوا ضرورة وجودية في التحالف مع المتدينين، لأن في ذلك ديمومة الكيان نفسه التي هي بحاجة دائمة إلى شد عصب «الشعب اليهودي» خوفاً من «الآخر الديني»، وأيضاً إلى طمس الصراع الطبقي في المجتمع اليهودي لأنه - في النهاية - سيصبح الشعب اليهودي نفسه ضحية هو أيضاً للبرجوازية اليهودية. لهذا الأمر تحتاج الصهيونية إلى العامل الديني في إيديولوجيتها، لكنها في المقابل لا تحبذ أن يُستخدم ضدها من جانب خصومها، لأنها تعلم أنها لا تستطيع منافسة الأديان الأخرى، فتلجأ إلى جر خصومها إلى ملعبها المفضّل الذي تشعر فيه بتفوقها وبقدرتها على المناورة، وهو ملعب السياسة والمال والأفكار المدمرة للمجتمعات وأدوات البروباغاندا الخبيثة والمفاوضات الطويلة الماكرة... وحتى مع أشد أعدائها الطبقيين والعقائديين تبقى مواجهتها لهم أسهل من مواجهة العقائديين المسلمين. وهذا ما شهدناه ونشهده في تجربة المقاومة الإسلامية في لبنان وفي فلسطين.
إنّ كل القيم التي يجري ترويجها اليوم في العالم الليبرالي تتناسب مع أهداف نخبة للسيطرة ولإدارة هذا العالم حسب مصالحها، تبدو وكأنها طائفة لها معتقداتها وطقوسها. وهي تسعى إلى احتكار المعرفة بيدها وإدارة العالم مثلما كان يفعل رجال الدين في العصور الوثنية القديمة وفي القرون الوسطى الأوروبية. وهي تطمح إلى طمس حقيقة أزمة نظام الرأسمالية الإمبريالية عن طريق تحويل الصراع الطبقي إلى صراع بين حضارات وصراع بين قيم أخلاقية: مثليين وطبيعيين، نسوية ورجولية، رجل أبيض وآخر أسود... وإذا كانت القوى الاجتماعية المناهضة للإمبريالية لم تتبلور بعد على مستوى الصراع السياسي - لأسباب متعددة - إلا أن القيم الليبرالية «الشيطانية» المدمرة للمجتمعات من داخلها تضرب بالقيم الدينية أيضاً، الأمر الذي يجعل قوى لاهوت التحرير وفقه التحرير معنية أيضاً بالتصدي الفعال للسياسات الليبرالية الإمبريالية. حتى إن هذه القوى في زمننا الراهن قد تكون أكثر فعالية من قوى اليسارية الماركسية التي تعاني في هذه المرحلة من فقدان النموذج والبديل الاشتراكي في التصدي لهذا العدو المشترك. هذا لا يعني أن القوى الماركسية ليس لها دورها، إنما تحالف هذه القوى، لاهوت التحرير وفقه التحرير والثورية الماركسية، يملك كل المكوّنات لكي يصبح قوة محرّكة للتاريخ، إذ إنه لم يعد جائزاً، بل لنقل ليس منطقياً، خاصة إذا أصبح ضرورياً، أن لا يُستخدم ضد هذا العدو السلاح نفسه - أي العامل الديني - الذي يستخدمه هو في حربه على البشرية جمعاء. وإذا قُدر لهذا التحالف العالمي أن يكون واقعياً لتغير العالم خلال فترة وجيزة.
ولكنّ الواقعية هنا، تجعلنا نقر أيضاً بأن الصهيونية العالمية نجحت إلى حد بعيد في إعادة حب المال إلى المسيحية - من خلال ربط مؤسساتها بالرأسمال العالمي - وفي إضفاء سمة التوحش على الإسلام - من خلال الإيديولوجية الداعشية - وأيضاً بتغذية التيارات التحريفية في الماركسية، الأمر الذي سيضع المجتمع البشري، في حال لم يتم تدارك الأمور، أمام سكة فنائه المحتوم. فهل من وسيلة لتستعيد قوى الخير قيادة العالم على درب الإنسانية الحقة؟

* كاتب لبناني