أنهت حرب تموز نزعاتٍ إسرائيليّة عديدة ومحت شريط النجاح العسكري والاستراتيجي الذي ميّز تاريخها منذ 1948. ولولا احتمال سوء التقدير والانفعال الذي يعيشه الكيان الصهيوني والتخبّط الذي يمكن أن يؤدي إلى أخطاء، فتدحرج، لولا ذلك، لألفينا القول إنّ زمن الحروب الإسرائيلية قد انتهى. والحال هذه - أي سقوط نظرية القوة لفرض الاعتراف - فكيف لإسرائيل أن تحصّل قبولاً واعترافاً في بيئة أقلّ ما يقال فيها إنّها معادية للكيان الصهيوني ولمن يدعمه، بيئة دخلت عصر اليقظة والعزم؟ أم أنّ القوة مطلوبة بذاتها ولذاتها... وهو ما يخضع لنقد كبير حتى في الغرب؟ ربّما تكون هذه النتيجة خلاصة بسيطة للبعض، أو اختزالية من وجهة نظر آخرين، أو متسرعة لبعض آخر، لكنّها تبدو وجهة نظر تمتلك كل عناصرها إذا ما قاربنا إسرائيل من خلال سؤال الكينونة والكيانية وحركة التاريخ ونتائج استقراء العقود الأخيرة.
في 14 آب، توقّفت الأعمال القتالية لحرب اعتُبرت الأطول في تاريخ إسرائيل، والأمثل في ظروفها وتوقيتها والرعاية الدولية والإقليمية لها والتقرير الأميركي لها ضمن استراتيجيتها الكبرى لتقسيم المنطقة، فهي حرب امتلكت علمياً (بالمعنى الغربي للعلم) كامل عناصر النجاح لإسرائيل. انتهت العمليات القتالية بعدم تحقيق إسرائيل والإدارة الأميركية أيّاً من الأهداف التي أعلنوها، لا بل انتهت بإخفاق وصل إلى حد عجز إسرائيل عن تثبيت سيطرتها على مدينة بنت جبيل الحدودية وإخضاعها، بينما تمكّنت إسرائيل تاريخياً من احتلال ما يقرب من أربعة أضعاف لبنان من الأراضي العربية عام 1967 في زمن صراع القطبين واستقطابهما في ستة أيام، وعام 1982 اجتاحت لبنان واحتلت عاصمته وعيّنت رئيساً في بضعة أسابيع.
وإذ أمكن للباحثين أن يؤرّخوا لبداية مسار تراجع المشروع الصهيوني في المنطقة مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران، فيمكننا أن نؤرّخ أنّ حرب تموز كانت نقطة اللاعودة عن مسار إسرائيل الهبوطي الانحداري، والكشف الواقعي عن حقيقة هذا الكيان وهشاشة بنيته.
لقد استنفدت إسرائيل جهدها العسكري وقوتها في حرب تموز 2006. انكشفت حقائق مخفية؛ فإسرائيل التي نظروا إليها كنموذج عسكري ملهم (غزو العراق) تواجه تحدّي فاعلية القوة والعنف، رغم ما تراكمه على هذا الصعيد. إسرائيل صاحبة اليد الطويلة أصبحت مغلولة اليد، والخوف الحقيقي أنّ إسرائيل التي تشبههم (عقلاً وقلباً) أصبحت تعاني «الشرعية» التي يحتاج إليها أي مجتمع ليستمر، فضلاً عن المقبولية التي فرضتها نجاحاتها العسكرية على الآخرين. إسرائيل اليوم دولة فصل عنصري ودولة إرهاب ودولة استقطاب حاد وقد انزاح غشاء الديموقراطية وورقتها.
أُعييت أميركا لتأمين إسرائيل وتهيئة ظروف العيش الملائمة لتمددها. لم تترك باباً إلّا جرّبته. في العقود الثلاثة الماضية، جرّبت فرض الديموقراطية باعتبار الديموقراطيات لا تتحارب، فيحلّ السلام في الشرق الأوسط وفي قلبه إسرائيل! لكنّها وقعت بمفارقة الديموقراطية التي تأتي بأعدائها إلى السلطة، فتنبّهت إلى أنّ الديموقراطية مسار تغيير تحتاني، أي ثقافة مجتمعات تنتج مؤسسات وإلخ، فالتغيير يجب أن يكون من تحت وليس قسراً من فوق، فذهبت نحو إعادة تشكيل المجتمعات العربية - الإسلامية في محاكاة لمسارها التاريخي وتجربتها. احتاج ذلك إلى بناء الدولة والمجتمع بثقافة تكنوقراطية ومؤسسات حيادية وثقافة «مدنية، علمانية» لا دينية ولا أيديولوجية تؤدي بنهاية المطاف إلى القبول بإسرائيل، أي إنتاج دولة اللاسياسة في إقليمنا أو اللادولة أو دولة السلطة بمجتمع معطل.
لكنّ هذا المسار وجد عوائق كبيرة وقاتلة، أوّلها أنّ الديموقراطية الليبرالية أصبحت منتجاً مشكوكاً بجدوائيته في الغرب أولاً، فكيف لهم تصديره؟ فضلاً عن أنّه خلق هويات مناقضة هدّدت مصالحها وهدّدت سلطان حلفائها، وأيضاً لكونها عجولة جداً وتفتقد النفس الطويل والوقت الذي لا يبدو لمصلحتها. وليس آخراً أنّ الديموقراطية الليبرالية ولدت بالتوازي مع نهضة اقتصادية، فهل ستقوم هي إذاً بإطلاق دينامية نجاح اقتصادي تنقذ فيها مجتمعات أعدائها. ربّما آخر استراتيجياتها كان الصراع داخل الحضارة الإسلامية ولم تلاقِ منها النتائج المرجوّة وخرجت بنتائج عكسية عزّزت موقع ونفوذ أعدائها. ونكاد نقول: أميركا اليوم في حيرة وتردّد مستديم حيال المنطقة وخصوصاً مع تقدّم أولويات عالمية خطيرة وزحزحات تصيب القشرة السياسية للأرض لا تقدّر أميركا خواتيمها، وإسرائيل التي اعتادت على الحضور الأميركي المباشر تتبعها بقلق.
في الجهة المقابلة، لم يعد العرب والمسلمون أولئك الذين عرّفتهم مدرسة الاستشراق بأنّهم متخلّفون وبلداء لا يتطوّرون وأنّ عقلهم قاصر وأنّهم أقلّ من الغرب رتبة وأنّ المشكلة في الذهن العربي وأنّهم نفسيون عاطفيون خيلائيون انفعاليون لاعقلانيون مستغرقون في «اللماذا» دون «الكيف»، وأنّ أخذهم للدين ليس كونه رد فعل على انهيار الخلافة العثمانية واجتياح الحداثة وتكريس حكومات تابعة في دولهم وليس قراءة جوانية أجراها أكبر وأهمّ مجدد في تاريخهم القريب روح الله الخميني. لكن بعدما انجلى غبار الحرب، وقف الغرب أمام المفارقة، إذ في العرب والمسلمين حالة حيوية عقلانية غير منفعلة، تخطط، تمكر بعدوّها، توقع به، تمتلك القدرة وقوة الالتزام والنفَس الطويل وشمول النظرة، نموذج ارتدّ عن العصبية مهما كانت، وبحث في المشتركات أنّى وجدت، ورتّب الأولويات واجترح الكيفيات والوسائل والأدوات والطرائق، حتى قيل إنّ صراع إسرائيل مع المقاومة في لبنان هو «صراع أدمغة وعقول» وقيل «لقد هزمنا حزب الله».
عند هذه اللحظة، وبالتتبع والاستقراء، بدأ العالم كله يقيّم نظرته ويوسّع قراءته، واكتشف الغرب أنّه لم يصل بعد إلى فهم صحيح لمنطقتنا وشعوبها، ويبدو أنّه لن يصل.
إسرائيل اليوم تبحث عن أمنها الاستراتيجي في سراب ولايقين، وفي استجداء تطبيع مع السعودية يكون متنفساً لها إلى حين، وتبحث عن أمنها الاستراتيجي باستجداء أميركا المتحيّرة لوقف صعود إيران وقوى المقاومة، وتبحث عن أمنها الجاري في الداخل الفلسطيني الذي يكاد يكون كل شيء فيه قد تغيّر. وتسأل عن موقعها ومكانها في الاصطراع الدولي الجاري بين حلفاء الأمس ورعاة قوّتها (أميركا، روسيا، الصين) الذين تتجاذبهم غايات متناقضة، وتبحث عن رواية جديدة عن معناها. وبعد حين لن تعود إسرائيل مشروعاً رابحاً، بل مكلفاً تزداد أكلافه عند دافع الضرائب الأميركي بالذات، فنكون أمام التخلّي عنه أو استخدامه أميركياً لمرة واحدة وأخيرة.
نعود فنقول إنّ مجتمعاً طبيعياً إذا ما فقد فذلكة اجتماعه يتفتّت وينهار، فكيف بتجمع هجين مستورد متنابذ أن يستمر بعدما تراجعت فيه الروح وغاب عنه المعنى واتسعت إشكالية هوية أخفت عيوبها قصة «القوة والنجاح» التي عبّر عنها الجيش الإسرائيلي ذات يوم.
ما عرضناه ليس حرباً نفسية على الكيان الصهيوني، إنّما حقائق تقولها الوقائع تباعاً. إنّ تموز – آب 2006 هي لحظة اللاعودة في مسار إسرائيل ومكانتها ووجودها ولحظة الثقة بالذات المؤمنة الجديدة التي أعدنا اكتشافها، وبالآن ذاته هي لحظة الحجة البالغة للاعتبار والتأمل عند من لا يزال يراهن عليها في الإقليم أو العالم.
لا بأس أن نفكّر بمنطقة بلا إسرائيل، فهذا ليس تمنّياً ولا خيالاً، رغم ضرورة الخيال السياسي وأهميته، لكنه احتمال يقبله اليوم العلم والعقل والطبيعة.
قطار المقاومة انطلق في المنطقة والعالم ويتسارع، ولن يتوقّف. نهج المقاومة نهج جذاب للشعوب لحاجتها إلى التحرر والانفتاح على آفاق جديدة للمعنى، أمّا عقيدة المقاومة التي انتصرت في آب 2006 فهي نظرة إلى الحياة، والذات والآخر والطبيعة، هي روح وعقل واتصال وتكامل مع كل تاريخ أمتنا المقاوم وتضحياتها، وليست أيديولوجيا صراعية أو عصبية كتلكم العصبيات القاتلة التي ولّدتها العلمانية الغربية في التاريخ القريب واليوم، أو ولّدتها الأفهام الدينية المفخخة في منطقتنا وأرهقت الأرض وعمّارها.

* باحث لبناني