لا تكتمل حكاية السودان من دون التوقّف عند الأيدي الصهيونية. كان دخول إسرائيل إلى القارة السمراء متلعثماً وصعباً، فقد تزامن فرض وجود هذا الكيان كمستعمرة أوروبية بيضاء مع صعود حركات التحرر الأفريقية من الاستعمار الأوروبي ذاته، والتي وجدت في عدو الصهيونية اللدود موئلاً لها، فكانت القاهرة الناصرية حاضنةً ثورية جامعة للهموم الأفريقية ودافعة باتجاه قوى التحرر. كانت الرهانات الصهيونية المبكرة على الأقليات البيضاء المستعمرة نتيجة للمصالح الاقتصادية للاستعمار فضلاً عن التماهي الثقافي، إذ يتحدّث الصحافي كيث سنو مراراً عن أهمية الألماس الأفريقي في تأسيس كيان العدو اقتصادياً، كما في جنوب أفريقيا أو روديسيا (الآن زيمبابوي) أو الاستعمار الفرنسي في القارة. يذكر الكاتب بيار بيان، في كتابه «المذابح»، حول جرائم الترويكا في شرق أفريقيا، أن بن غوريون حاول ثني ديغول عن التخلي عن الجزائر وطرح عليه فكرة أن يبقي على أقلية أوروبية محصورة قبالة المتوسط بينما يضمن لها قدرة على الوصول إلى عمق الصحراء وثرواتها، وكان رد ديغول هنا لافتاً: أتريد مني خلق إسرائيل أخرى على المتوسط؟
مع خروج الاستعمار تدريجياً من القارة، كان على الصهيونية بناء سردية جديدة تؤاخي بينها وبين الشعوب الأفريقية وتخفي به وجهها الاستعماري الأبيض، وبدأت باستهداف ما يسمى بالأقليات القابلة للتلاعب كتلك الموجودة في جنوب السودان والتي كان الاستعمار البريطاني قد جهّزها لتكون عدوّة محيطها.
بُنيت السردية الصهيونية على أذرع ثلاث؛ أولاها أخوّة الأمم الحديثة العهد التي تجعل من «إسرائيل» مثالاً براقاً للنجاح في بناء دولة متقدّمة بالرغم من صغر السن واستعداد العدو لنقل خبراته في هذا المجال إلى الدول الوليدة. ثانيتها، نقل الخبرات التقنية والعلمية التي تحتاج إليها القارة بشدة. أمّا أهمّها، فهو أخوّة الشعوب المستعبدة. اتّكأت الصهيونية على الروايات التوراتية عن استعباد اليهود في مصر الفرعونية وأضافت إليها اضطهادهم في أوروبا لتستدرّ عطف الأفارقة وتقول لهم نحن مثلكم مضطهدون تاريخياً مستعبدون وعدونا واحد، إنهم العرب، هم تجار الرقيق وهم من دمّروا القارة وحضاراتها وها نحن أتينا لنتحرر معاً منهم.
هذه السردية تحديداً كانت أساسية في السودان حيث استكملت الترويكا (أميركا وبريطانيا والنرويج وفي الخلفية الكيان الصهيوني) عملاً كان قد بدأ به البريطانيون برسم خطوط هوياتية فاصلة بين مكوّنات المجتمع السوداني (في هذا الشأن يمكن الرجوع لكتاب محمود مامداني «لا مستوطن ولا أصلاني» Neither native nor settler)، لتأصيل الفرق بين العربي والأفريقي كأصل عرقي، لا لغوي ثقافي، فالعربية في السودان انتشرت كلغة بلاط Lingua Franca وكثير من القبائل التي تقول بعروبتها هي أفريقية من الناحية العرقية، كما أن العربية لليوم هي لغة التواصل بين مكوّنات جنوب السودان الذي يقول الغرب إنه انفصل بسبب اضطهاد الشمال العربي لهم.
هذا التفصيل مهم جداً لفهم تاريخ الصراعات في السودان ومآلاتها اليوم، خصوصاً أن غالبية وسائل الإعلام - وحتى تلك المناوئة للاستعمار- لا تزال تنسخ التشوّهات التي يروّج لها الغرب في تعريف أطراف الصراع، وبالتالي هو ينجح في قبولنا الصورة النمطية العنصرية الأوروبية تجاه المآسي الأفريقية بأنها شعوب لا تعرف الاستقرار ولا تعرف الدولة ومحكومة بالصراعات القبلية والإثنية، والأهم من ذلك أن هناك مكوّناً أصلانياً أفريقياً يباد من قبل مكوّن عربي مستعمر في حالة السودان. وقبولنا هذه الصورة يلهينا عن البحث عن الأيدي المحرّكة عن هذه الصراعات والمستفيدة منها، لا بل يبرر لها المزيد من التدخل تحت راية «الإنقاذ». ربما سبق لي الاستشهاد بالاقتباس التالي ولكنه يستحق التكرار: «إن الفصل الأخير لأي إبادة ناجحة، هو حين يرفع القاتل يديه ويقول انظروا إلى هؤلاء الوحوش كيف يقتلون بعضهم».
ومرة أخرى نعود إلى حملة «أنقذوا دارفور» ومتفرعاتها والشعارات التي رفعتها مثل «كفاية»، و«ليس تحت رقابتي»، و«ليس مجدداً» وغيرها، وفي كل منها كوميديا سوداء هي السر وراء ابتسامة المعتصمين المذكورة في بداية السلسلة.
«ليس مجدداً»، مثلاً، هو شعار يردد صدى الناجين من الهولوكوست، ولكنه أساساً كان يردد لإدانة التلكؤ الدولي والأميركي في التدخل في مجازر رواندا حيث بُرّر ذلك بأن أميركا أرادت إفساح المجال للأفريقيين ليحلوا مشاكلهم ذاتياً، مع أن أميركا كانت تستعرض عضلاتها في البلقان، وحقيقة الأمر أنها أرادت لرجلها روجر وينتر وصبيانه أن يتموا جريمتهم بأقل ضوضاء ممكنة، هناك صحافيون ونشطاء غربيون كثر حاولوا نشر الحقيقة حينها، بعضهم قُتل من قبل قوات كاغامي وآخرون هُمّشوا أو أُسكتوا.
أمّا إذا أردنا الحديث عن مصلحة العدو الصهيوني في استدامة الصراعات في السودان تحديداً، فلذلك طبقات متعددة أهمها ما يلي: أولاً، الأجندة البديهية بإضعاف وتقسيم أي دولة عربية تمتلك مقوّمات النهوض وتشكيل قوة إقليمية وازنة. ثانياً، موقعه الاستراتيجي على خط التجارة العالمي على البحر الأحمر، من جهة، وقابلية الوصول العالية إلى عمق أفريقيا الشرقي من هذا الممر (هو أهم من جيبوتي التي تحتضن عدداً من القواعد العسكرية الدولية المتناحرة نظراً إلى أن الطوبوغرافيا هناك تشكّل عائقاً)، كما أن سواحل السودان على البحر الأحمر استراتيجية للسيطرة على الملاحة ولتهديد أمن دول الجوار. ثالثاً، الوجود الأمني وزعزعة محيط مصر على عدة مستويات منها الفوضى والنزاعات واللجوء والمياه أيضاً (تحدّث جون براندرغاست برفقة جورج كلوني كيف أنه، وبودّية، ألمح إلى سوزان مبارك أن على مصر القبول بانفصال جنوب السودان إن كانت مهتمة بأمنها المائي). رابعاً، الدافع الاقتصادي في ما يتعلق بالمعادن والزراعة، وأيضاً تصدير الأسلحة. خامساً، قطع خط الإمداد للمقاومة الفلسطينية في غزة. سادساً، التعاون الأمني والاستخباري الذي بدأه البشير مع الأميركيين في زمن إدارة بوش وانتهى مطافه بانضمام السودان إلى الاتفاقات الإبراهيمية.
كان التطبيع هو الممحاة السحرية التي رفعت اسم السودان عن قائمة الإرهاب، ومسحت دموع الغرب على الضحايا السودانيين، وأضفت مسحة ملائكية على من كانت تعدّهم واشنطن مجرمي حرب، إلا أن رضى الأميركيين عنهم كان قلقاً، ليس بسبب قمعهم للشعب السوداني أو القوى السياسية المدنية التي تدعمها أميركا، بل لأن طاولة البلياردو كانت قد بدأت بالازدحام مجدّداً، وهو ما سيتناوله الجزء الأخير من السلسلة حول الأوضاع الراهنة المتدهورة.

* كاتبة عربية