قفز الذكاء الاصطناعي إلى واجهة الحدث بداية من شهر كانون الأول من العام الماضي، حين طرحت شركة Open AI تطبيق ChatGPT بشكل مجاني. ومنذ ذلك الحين التفت العالم إلى إمكانية تطبيق الذكاء الاصطناعي في كل المجالات. واحتل المجال العسكري والاستخباري الحيز الأوسع من هذا الاهتمام. هذه المقالة لن تعالج حدود الذكاء الاصطناعي في التطبيقات العسكرية وقدرته على تغيير الموازين، سواء في الميدان أو على المستوى الاستراتيجي. بل ستحاول معالجة آثار دخول الذكاء الاصطناعي إلى المجالات كافة من منظور اقتصادي وتأثير ذلك على شكل العالم وتوزّع القوة فيه. وسأعمد إلى استعمال إطار مبنيّ على أساس نظرية المنظومات العالمية. أي السؤال الأساس سيكون: هل أن دخول تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي إلى مجالات الإنتاج يمكن أن يغيّر أنماط التوزيع العالمية للثروة والفوائض الناتجة عن عمليات الإنتاج، بما يشكل تهديداً على التراتبية الحالية؟ بمعنى هل ستخلّ هذه التكنولوجيا بموقع مركز العالم الحالي -وهو الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص- في مقابل دول شبه الهامش ودول الهامش؟ مثلاً هل ستتمكن الصين من خلال انخراطها المبكر في إنتاج الذكاء الاصطناعي من التحوّل إلى مركز المنظومة العالمية اليوم أو تهديده؟ أو على الأقل هل ستتمكن من تسيّد منظومة عالمية موازية وخاصة بها؟نقطة البداية هي السؤال التالي: ما هو تعريف الذكاء الاصطناعي؟ الإجابة على هذا السؤال ليست سهلة، فالتعريفات كثيرة، أولاً بسبب اتساع المجال، وثانياً لأن تعريف مفهوم «الذكاء صعب بحد ذاته. لذا سنلجأ إلى التعريف الأكثر شيوعاً، وهو أن الذكاء الاصطناعي مجال فرعي في علوم الكمبيوتر يتعامل مع البحث والتطوير لما يسمى «العوامل الذكية» (Intelligent Agents). و«العامل الذكي» يتميّز بقدرته على حل المشاكل بشكل مستقل ومن دون تفاعل بشري. وأهم الأمثلة على هذه المشاكل هي التفكير وتمثيل المعرفة والتخطيط والتعلم ومعالجة اللغة الطبيعية والإدراك والقدرة على تحريك الأشياء ومعالجتها.
وبحسب مهمة وقدرة «العامل الذكي» على التعامل مع المشاكل الآنفة الذكر يتم تصنيف الذكاء الاصطناعي بين ذكاء اصطناعي قوي أو ضعيف. فالذكاء الاصطناعي القوي - الذكاء الاصطناعي العام- يشمل جميع الأساليب التي تطور «العامل الذكي» الذي يسعى لحل المشاكل المتمحورة حول تصوير وتقليد العمليات في العقل البشري. علماً أن الأبحاث في هذا المجال لا تزال بعيدة عن إمكانية طرح حلول للاستخدامات في الواقع العملي. وفي المقابل، الذكاء الاصطناعي الضعيف -أو الضيق في بعض التسميات- يهدف إلى تطوير خوارزميات خاصة بهدف التعامل مع مشاكل معينة ومحددة. والحلول والأدوات، المجدية تقنياً، والتي أصبحت متوفرة اليوم ويتم استخدامها في حلول برمجية في مختلف المجالات العامة، تُصنّف كذكاء اصطناعي ضعيف. لذا محور هذا القسم من المقالة هو الذكاء الاصطناعي الضعيف.
ومن المتطلبات الأساسية لتطوير «العامل الذكي» القدرة على تحسين أدائه مع مرور الوقت بناءً على الخبرة والتكيف مع الظروف البيئية المتغيّرة المحتملة التي تحيط بالعامل. هذه العملية تُسمى «التعلم الآلي» (Machine learning). وما شهدناه في السنوات الأخيرة من قفزات في تطور الذكاء الاصطناعي كان في مجال «التعلم الآلي».
هناك عدة عوامل ساهمت في الطفرة التي شهدها مجال «التعلم الآلي». منها توفر البيانات الرقمية بشكل غير مسبوق وتطور قدرة الحوسبة، بالأخص على أثر تطور فعالية التخزين والخدمات «السحابية». يضاف إلى هذين العاملين عامل تحسن خوارزميات «التعلم الآلي» وتوفّر مجموعات كبيرة من الأدوات والمكتبات المتاحة مجاناً لتطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي. وتكمن أهمية هذه الأدوات والمكتبات -ويمكن تسميتها بالنماذج الأساسية- في أنها تؤمّن المنصات الأساسية التي توفر الوقت والتكاليف على مطوّري التطبيقات التي تستعين بالذكاء الاصطناعي.

عنق الزجاجة
ومن هذه العوامل هنالك عاملان مهمان لموضوع هذه المقالة. وهما يشكلان نقاط خنق أو «عنق زجاجة» في عمليات تطوير الذكاء الاصطناعي. العامل الأول هو تطور قدرة الحوسبة. فأهم تطور، ساهم في دفع الأبحاث في الذكاء الاصطناعي قدماً، كان تطوير «وحدة معالجة الرسومات» أو GPU. «التعلم الآلي» يحتاج إلى كميات مهولة من البيانات، وتطبيق الخوارزميات على هذه الكميات يحتاج إلى قدرة حوسبة رهيبة بالأخص إذا ما كان الاعتماد على «وحدة المعالجة المركزية» أو CPU. فيما أتاح تطوير الـ GPU إمكانية استعمال الحوسبة المتوازية (Parallel Computing) الأمر الذي ساهم في نقل البحث في الذكاء الاصطناعي من المجال النظري في الثمانينيات والتسعينيات إلى التطبيق العملي في العقدين الأخيرين. والشركة الرائدة عالمياً اليوم في مجال صناعة الـ GPU هي شركة NVIDIA الأميركية. وقد تحوّل التضييق على تصدير الأجيال الحديثة من الـ GPU إلى جزء مهم من الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، ولا تزال الأخيرة تفرض، بشكل متتال، المزيد من القيود على تصدير NVIDIA للأجيال الأحدث من منتجاتها إلى الصين. ولكن بالرغم من هذه القيود، يمكن للصين أن تحاول تعويض هذا النقص من خلال سعيها الحثيث لتطوير صناعة الـ GPU المحلية.
والعامل الثاني، الذي يشكل عنق زجاجة في عمليات تطوير الذكاء الاصطناعي، هو تطوير الأدوات والمكتبات والنماذج الأساسية. وهذه النقطة الأخيرة تُعتبر في غاية الأهمية. فجلّ هذه الأدوات والمكتبات هي نتيجة استثمارات ضخمة من قبل الشركات العملاقة نُفذت في السنوات الأخيرة، سواء أكانت على شكل استثمارات مباشرة في فرق بحث وتطوير أم عن طريق الاستحواذ. فالكيانات الوحيدة القادرة على تحمل تكاليف تدريب النماذج على أحجام هائلة من البيانات والتي تمتلك رأس المال والبنية التحتية وقوة الحوسبة المطلوبة للقيام بذلك، هي الكيانات العملاقة. وهذه قامت ببناء «نماذج أساسية». ويكفي تتبع ما أنفقته شركات مثل «غوغل» و«أمازون» و«ميتا» و«أبل» و«مايكروسوفت» على التطوير والاستحواذ في هذا المجال لفهم حجم الاستثمارات التي ضُخت فيه في الولايات المتحدة الأميركية.
نحن أمام تكنولوجيا ستعزز النمط الحالي لتوزيع الثروة في العالم


ولكن تصنيف هذا العامل على أنه عنق زجاجة ليس بسبب حجم الاستثمار المطلوب فقط. هنا تكمن العقدة الأساسية، والتي كما سنشرح هي السبب الأهم للتوقع بأن هذ القطاع سيعزز هيمنة الولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي. حيث إن معالجة البيانات قبل تغذيتها للنماذج الأساسية هي العملية الأصعب. والجزء الأكبر من الاستثمار فيها يوجّه إلى عمليات معالجة البيانات. فجودة البيانات تؤثر على القدرة النسبية لنموذج الذكاء الاصطناعي على التنبّؤ بشكل صحيح. ومعالجة البيانات تنقسم إلى قسمين رئيسيين. القسم الأول هو رفع جودة البيانات، الذي يتجزّأ إلى ثلاث عمليات أساسية: تحضير البيانات وهي الخطوة الأولى، وتصحيح البيانات ومن ثم مراقبة جودة البيانات. والقسم الثاني هو تغذية البيانات إلى النماذج الأساسية.
وهذه العمليات تحتاج إلى جهود بشرية كبيرة للقيام بها. وهنا نحن لا نتحدث عن يد عاملة غير مدربة، بل عن الآلاف من المهندسين والمبرمجين الذين يقومون بتقييم البيانات ومن ثم تصحيحها قبل استعمالها في النماذج الأساسية لـ«تدريب» الذكاء الاصطناعي. وتغذية البيانات إلى النموذج عملية معقّدة بشكل خاص، حيث إنها إلى اليوم تُعتبر سرّ مهنة عند الشركات التي نجحت في تدريب نماذج. وفاجأني أحد الأصدقاء، وهو من المختصين والرواد في المجال، بأن عدد من يمكنهم ادّعاء إتقان عملية التغذية لا يتعدى الأربعين شخصاً حول العالم. يمكن فهم أهمية عمليات معالجة البيانات من خلال المقارنة بين فعالية النماذج المتوفرة اليوم بين أيدي المستخدمين. فالنماذج المتوفرة بشكل مجاني يمكن أن تبلغ نسبة 70% إلى 80% من التنبّؤ الصحيح. أمّا تحصيل العشرين بالمئة الباقية فهو الأصعب والأكثر كلفة، وهو الذي يتطلب الاستثمار الأكبر في إنتاج بيانات عالية الجودة وغير متحيّزة، وهو أمر يحتاج إلى عقلية حِرَفيّة تدفع إلى الأمام جهداً منصباً باتجاه البحث والتصنيف والتجربة المضنية. وهنا تبدأ الفروقات تظهر بين ما هو مجاني وما هو غير مجاني.

القبض على المستقبل
وكما في كل عملية إنتاج، تكمن أهمية نقاط الخنق أو عنق الزجاجة في أنّها تحدد الأطراف التي ستستحوذ على الجزء الأكبر من فوائض أرباح عملية إنتاج تطبيقات الذكاء الاصطناعي. ونحن نتحدث هنا عن قطاع يتوقع الخبراء والاقتصاديون أن يولّد 1.5 تريليون دولار إلى 5 تريليون دولار في الاقتصاد العالمي على امتداد العقد الحالي، بينما تصل التقديرات المتفائلة إلى حدود 10 تريليون دولار. وبينما يتركز النقاش بين الاقتصاديين حالياً على تأثيرات هذه الزيادة على شكل الاقتصاد الكلي والاقتصاد الجزئي، لم يتم التطرق إلى كيفية توزيع الفوائض المتحقّقة من الأعمال الاقتصادية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي.
وهنا بيت القصيد. فمثلاً حينما تحتاج شركة إلى منصة مبنية على نموذج أساسي لتدريب الذكاء الاصطناعي في تطبيق معين تقوم بإنتاجه، ستلجأ إلى شركات مثل Open AI. والأخيرة ستطلب رقماً مالياً سيشكل جزءاً كبيراً من كلفة إنتاج التطبيق. وفي حساب عملية الإنتاج، من أول تأمين البنية التحتية إلى برمجة النماذج الأساسية -كهندسة برمجية ومعالجة بيانات وتدريب- حتى برمجة التطبيق، سنجد أن الجزء الأكبر من الفوائض المتأتية عن هذه العملية سيعود إلى شركات أميركية. وهذا بسبب استحكامها بنقاط عنق زجاجة تطوير الذكاء الاصطناعي.
وحتى لو أخذنا في الاعتبار الانخراط الصيني المبكر في تطوير وإنتاج الذكاء الاصطناعي -الانخراط الرامي إلى تحصيل «السيادة» على عملية تطوير الذكاء الاصطناعي- من غير المضمون الخروج باستنتاج مغاير. فحتى لو نجحت الجهود الصينية في اللحاق بتكنولوجيا NVIDIA في الـ GPU، من غير المعلوم إذا كانت ستتمكن الشركات الصينية من اللحاق بالشركات الأميركية في مجال معالجة البيانات، وبالأخص في ما خص الفعالية بمجال تغذية النماذج بها. وهذا يستتبع أن الصين لن تكون قادرة على القبض على نقاط عنق الزجاجة في عملية تطوير الذكاء الاصطناعي، مع ما يعنيه هذا من اضطرارها للقبول بموقعها في هذه العملية أو ذهابها إلى تسيّد عملية إنتاج أقل كفاءة وقدرة على المنافسة عالمياً.
فإذاً نحن أمام تكنولوجيا ستعزز النمط الحالي لتوزيع الثروة في العالم. مركز المنظومة العالمية -الولايات المتحدة بشكل أساسي- سيبقى يتحصّل على الفوائض الكبرى من عمليات الإنتاج، بينما الدول شبه الهامشية والهامشية لن تنتقل من موقعها الحالي الذي يحدده ما تحققه من فوائض.
ولكن هل هنالك تكنولوجيا يمكن أن تشكل طفرة تغيّر النمط الحالي لتوزيع الفوائض والثروة في العالم، طفرة تغيّر منظومة العالم الواحد؟
البحث في وجود هكذا تكنولوجيا وأفق تطوّرها قد يكون موضوع مقالة أخرى. ولكن بشكل عام تطور التكنولوجيا بحد ذاته ليس كافياً لإحداث تغيير في شكل المنظومات العالمية. وامتلاك الأسبقية في مجال تكنولوجي طليعي قد يكون حجر زاوية، بين زوايا كثيرة، لتغيير المنظومة. لكنّ الأكيد أن الذكاء الاصطناعي ليس هذه التكنولوجيا الطليعية.

* كاتب وباحث لبناني