يتعدّى مفهوم المواطنة البُعد النفسي الاجتماعي المدغم بالانتماء لـ«الوطن» إلى البعد السياسي الحقوقي الملازم لظاهرة «الدولة». فالمواطنة رابط انتماء ورابط ولاء -انتماء لجماعة وولاء لسلطة- وتصوّر لعلاقة توازن بين «الحقوق والواجبات» في ظاهرة اجتماعية متقدّمة اسمها «الدولة». هي في جوهرها صيرورة كيف تكون «حاكماً ومحكوماً» في آن. على الرغم من كونها طرحٌ تكثر المناداة به في كل الأروقة وعلى المنابر الدولية والمؤسسات الحقوقية باعتبارها مفهوماً حداثوياً، إلّا أنّ المواطنة كانت ولا زالت تواجه تحدّيات عدّة وشائكة مع تقادم الزمن وتحولاته حتّى في محلّة صكها - أي الغرب.
هي، أي المواطنة، أمام تحدّي جمود المفهوم، بحيث أصبحت لقباً بدل أن تكون سيرورة، وتحدّي قصر النظر فيها من زاوية قانونية بدل أن يطغى عليها المعطى الأخلاقي أولاً، فصرنا أمام حالة من الاستغراق في تقاذف المسؤوليات بين المواطن والسلطة حتّى حدود الاستقطاب. إلى تحدّي الكوزموبوليتانية التي تحوز على تأييد متنامٍ في الغرب ليتغيّر معها المبنى والتأسيس الذي قامت عليه المواطنة بحيث ننتقل من مواطن «الدولة» في المواطنية إلى المواطن «العالمي» في المواطنة الجديدة للكوزموبوليتانيين، ومن المرجعية المرتبطة بـ«الأمن القومي» إلى تلك المرتبطة بـ«الحقوق». إلى تحدّي فائض هويات الـ«ما تحت» والـ«ما فوق» وطنية الذي استولد نقاشاً عميقاً وحاداً لم يحسم نظرياً بعد فضلاً عنه عملياً: أي الهويات نُقدّم ووفق أي معيار ومرجعية وعلى أي أسس؟ فصار العالم أمام ظاهرة «فائض هويات ونقص مواطنة». إلى تحدّي تراجع «الدولة القومية» وعجزها عن الإجابة عن أسئلة الحاضر ومشكلاته، ما حدا باتجاهات عالمية في الغرب نفسه إلى المطالبة بالانتقال من العقل الأدائي إلى العقل التواصلي، ومن الديموقراطية الكلاسيكية إلى الديموقراطية التشاورية.
أمّا تحدّي الفردانية، فكان أحد أخطر الهواجس التي ارتبطت بمفهوم المواطنة كون الأخيرة جعلت «حرية الفرد منافسة للمجتمع». وأدغمت منذ ولادتها مفاهيم من قبيل الديموقراطية والليبرالية والرأسمالية والعلمانية وجعلتهم كمتلازمات ذهنية وعملية.
كما نشأ تحدٍ يرتبط بمخاوف وجيهة لغير دول الغرب الليبرالي من الطرح والتشديد عليه من أن يكون إحدى أدوات خطاب الهيمنة الغربي.
أمّا التحدّي الأخطر الذي تواجهه المواطنية اليوم، ولا سيّما في الغرب، فهو تحدّي الإشباع المدني الذي عادة ما توفّره السلطات فتحتوي بذلك شعوبها وتنزع عنها خيالها السياسي لأي تغيير بالهجوم المبرمج على العقل مستفيدة من أدوات قهر ظاهرة وأدوات توجيه صامته فتعطي في الاجتماعي الاقتصادي وتحيّد الشعب عن الدخالة الثقافية السياسية المؤثرة. فيتمّ تسطيح وعي الناس وتخليق احتياجات وهمية وحرفه عن الشراكة الحقيقية باسم هذا الإشباع لـ«المواطنة». فيفرّغ العقد الاجتماعي ويجوّف حين يتمّ تجفيف قدرة أحد طرفيه ومصل حيويته وسلطة المعرفة لديه – الشعب. وهناك تحدٍّ آخر محلّ خشية فعلية يكمن في محاولات ربط المواطنة والمواطن بإشباع جغرافي بدل فتح الإنسان على مدارات ومديات إنسانية وحضارية، فيتسلل خطاب المواطنة الغربيّ التعريف إلى نزع الوجهة عن الفاعلية باسم العلمنة، ونزع الاهتمام بالآخر باسم الحياد، والتعويض بالآلة والتقانة لتأمين الموضوعية وإفراغ الحقيقة الاجتماعية من المقولة السياسية والمسؤولية على هذا الصعيد.
ليس آخر التحدّيات الذي يجب التنبّه إليه هو أن السياق الذي ولدت فيه المواطنة حاول إلغاء كل دوائر الانتماء لتتكرّس بذلك قطبيتا الفرد-الدولة. فهل هذا منسجم أم مناف لحرية الإنسان بأن يكون لديه دوائر انتماء متعددة بحسب طبيعته الإنسانية؟ المفارقة أنّ دول خطاب المواطنة الغربية تفتّش في إعادة انتاج انتماءات «اصطناعية» في المجتمع بعدما ألغت هذه الانتماءات تحت عنوان فلسفة الحداثة.
يبقى تحدّي الانبهار والتعجّل في استيراد الأفكار وعكسها على واقعنا من دون تمحيص ولا فحص، فكثيراً ما تسمع في دولنا مقولات من قبيل نحن امتداد ثقافي للغرب، فكيف كثيراً من نخبنا العربية، ولا سيّما الأكاديمية منها التي تلقّت علومها في الغرب أو جامعاته ومعاهده، تراها تستغرق في المواطنة بمعناها القومي الكلاسيكي بينما في أوروبا يُجمع عملياً بين مواطنة قومية ومواطنة أوروبية. يطالب بعض نخبنا العربية بتعزيز الأنا القومية بينما تراهم في الغرب ينخرطون في اتحادات وفي أحلاف أمنية وسياسية واجتماعية ومعيارية وغيرها. يطالب نخبنا بمواطنة بعيداً عن سياق أو مواطنة منعزلة عن غاية، بينما ترتبط المواطنة في الغرب بسياق رؤيته لذاته وسياساته الهيمنية والعولمية، بدءاً من القرن السادس والسابع عشر في أوروبا، ولم تكن يوماً فكرة منزوعة عن سياقات وأهداف وغايات بعيدة، فالرؤية السياسية هي التي ستحدد أي معنى للمواطنية أريد وأنشّئ على. وفي حين أنّ بعض نخبنا ظنّ تقمّصاً للعقل الغربي أنّ مشكلتنا في الدين فارتدّ نحو العلمنة باعتبارها البديل فتفاجأ أنّها لم تكن أفضل حالاً، فالدين عميق، وعميق جداً، في حياتنا وفي منطقتنا، بل وفي العالم كله، ولا يمكن إقصاؤه.
في الخلاصة، إنّ تضافر مثل هذه التحدّيات أمام فكرة المواطنة بمفهومها الغربي لا يعني استغناءنا نحن البتة. ولا نقصد التقليل من حاجتنا نحن العرب إلى أن نحثّ الخطى بعزم وعقل حر لضرورة البحث عن معنى خاص وفذلكة خاصة بنا للعقد الاجتماعي الذي يمثّل صيغة العلاقة الثلاثية الأبعاد بين الفرد-السلطة-الآخر (وقد نضيف بعد الطبيعة)، إنّ هذا الأمر أكثر من ضروري وهو شرط لازم لتقدّمنا وقيامنا ويقع على عاتق الجميع، ولا سيّما القوى الاستنهاضية وصاحبة الرؤية الأبعد اليوم، أي المقاومة. فلنشرع البحث عن معانٍ ومضامين تشبهنا وتشبه خصوصياتنا وتنطلق من حاجياتنا وقيمنا وسمات هويتنا بدل الدوران القاتل في تقليد غرب يفشل وتتهافت نظرياته ولا مانع أن نستفيد من أي إيجابية أنّا وجدت.

* باحث لبناني