شغلت قضية المواطَنة الساحة اللبنانية لعقود. لا ينفكّ خطاب رسمي أو شعبي عن رفعها. لكنّ المشوار لا يزال بعيداً ودونه تحدّيات عامة -عرضنا لبعضها في المقال الأوّل تحت عنوان تحدّيات المواطنة في عالم اليوم- وتحدّيات خاصة سنعرض لها في هذا المقال. يُعتبر تحدّي النشأة، أي نشأة الكيان ومفاعيله، أوّل تحدٍّ اعترض موضوعة المواطنة، فيما كان مقصودُ اللبنانيين من المواطنة ومحتواها تحدياً آخر. فلبنان لم يوجد نتيجة تفاعل اجتماعي-سياسي بقدر ما كان نتيجة تسويات خارجية لقوى الهيمنة. لم تتوافر أرضية تفاعلية بنّاءة ولغة حوار وخبرة العيش (لبنان الكبير) بين بنيه ولم يُسعف التاريخ وذاكرته على إنتاج ذلك.
وصل تكرّس الهيمنة الخارجية في بنيته الثقافية والاجتماعية إلى درجة أنّ بعض سكانه لم يروا ذواتهم إلّا من خلال آخر – الغربي على وجه التحديد – ولم يقدروا أن يعرّفوا أنفسهم أو يقدّموها بمعزل عنه. إنّ نظرية أنّ لبنان امتداد ثقافي للغير استجرّ أفكار الخارج بتناقضاتها ومتاعبها لتثقِل واقعنا بتحدّيات إضافية طاولت كل شيء. فغلب الفولكلور وتقديم الذات «التقدّمية» أمام الآخر على طلب المواطنة، غلب على إرادة جادّة وسعي وتضحية. وبينما كانت بقعة خطاب اليمين واليسار تكتسح الساحة، جدّ السؤال: هل لنا هوية خاصة أم نحن فقط انعكاس لآخر؟ كيف بنا لنبني هوية متميّزة تشبهنا؟ ومن أين نكوّن رؤانا وفهمنا لهذه القضية؟ هذه الأسئلة شكّلت أحدَ تحديات المواطنة، فذهب بنا الأمر لمنهج تركيبي توليفي استرضائي تجميعي يفتقد الوجهة والوضوح.
وانفجر التحدّي بعد قرن من التجربة على شكل سؤال جديد قديم: كيف نبني مواطنة (مواطنة على وزن مفاعلة وهي مشتقّة من الوطن) في بلد لم تتكوّن فيه روح وطنية ولم يرقَ بعد قرن من الزمن إلى مرتبة الوطن فضلاً أن يرقى إلى مرتبة الدولة، فضلاً عن أنّه ليس أمّة. ودار النقاش في ما إذا كنّا بحاجة إلى سير ترتيبي من الوطن ثمّ الدولة ثم الأمة، أم يمكن أن نتجاوز هذه التراتبية فنكون إزاء تعريف جديد لكينونة سياسية تتحقّق فيها ما يفيدنا من مزايا ممكنة من مفردات الوطن والدولة والأمة ويساعد على تحقيق هدف اجتماعنا الذي لا يزال ينتظر أن يُحدّد.
لو دقّقنا في دستور 1926 والتعديلات حتّى الطائف يلاحظ غياب فذلكة لهوية الكيان وغاية اجتماعه. لا يلحظ قيمة عليا أو فكرة مرجعية رافعة. هل نريد لبنان دولة قانون أم دولة حقوق أم دولة قومية أم دولة ثورية أم دولة طوائف أم دولة رسالة تعايش ديني أم دولة تحرّر إنساني؟ وهل نريده دولة بالمعنى الدقيق للكلمة أم اجتماعاً يقوم على ما يرى الخارج من مصلحة في إبقائه؟ لم نلامس كينونة لبنان وأي دولة نريد وننشد ولا نزال. بقي كل منّا في تصوره الخاص. أولوية المصالحة والتوازنات حكمتا اللحظة. ورغم تلك المؤاخذات يبقى موقف السواد الأعظم من اللبنانيين متمسّكاً بحاجتنا إلى لبنان وضرورة استمراره وهذه نقطة إيجابية يُبنى عليها. فلبنان الذي نعيش فيه يمكن أن يكون ضرورة إنسانية بالمعنى الثقافي ونداء تحرير وتحرّر بالمعنى الحضاري ومنارة استنهاض بالمعنى السياسي، فتلاقي الإسلام والمسيحية يفترض أن يمكّنه أكثر من سواه لالتزام منطق الإيمان وعلو الحق والانحياز إليه، كما يمكن أن يكون لبنان حجّة بالغة على قدرة نهج الحق على الظهور.
قد يقول قائل إنّ لبنان لا يتحمّل نقاشات في الغايات ويستحضر تاريخنا القريب ليبرز الهوّة بين الكلام النظري والموقف العملي ويتحدّث عن مفارقات شيحا ومالك وجنبلاط. ويضيف بأنّ واقع لبنان غير مؤهّل لخوض نقاشات جادة وعميقة، لا مكان للفكر في هذا البلد، هو بلد سياسي بامتياز، سويعاتي قلق، الأمور فيه بالقطعة وعلى الحبة، ويرى أن تُترك الأمور للسياقات وما تسفر عنه الديناميات والإرادات المتشاكسة، فقد تُخمّر تدريجياً الصيغة النهائية مع الزمن والتغيرات.

بالعودة إلى تحدّي النشأة ومفاعيله، لفحت المنطقة رياح خطاب الأقليات وحقوقها في دول مستقلة، نال لبنان ما أراد نتيجة صلة خاصة بالغرب. بحثت طبقته السياسية عن عنوان تمايز حينها فلم تجد غير الحرية عنواناً. أمكن تبرير ذلك كردّ فعل على التعسّف والتسلط. لكن سرعان ما توسّع مفهوم الحرية ومحوريتها، فلبنان «علامة تجارية» إلى ما وراء البحار. لبنان يشبه التاجر لا المفكر أو المزارع أو الحكيم العادل أو القاضي أو الفاتح والمحرّر أو البطل الملهم.
ومنذ النشأة لم يساوق «الحق» كمفهوم إنساني وسماوي بناء التجربة اللبنانية رغم ما يُفترض أن تحيطه الديانتان الإسلامية والمسيحية من محورية له. فمن حدّد وهندس ووزّع القيم كان أخطر وأعنف وأرهب دول الاستعمار (فرنسا/بريطانيا). فأعطيت صبغة «الشرعية الوطنية» على من ينافس في خدمة المستعمر بكفاءة وفاعلية أعلى. ومنذ تأسيس الكيان تركّز سعي السلطة على الوجه السالب من وجَهي السيادة دون الموجب، إن في الممارسة الخارجية أو في الداخل. ابتعدت عن أي طرح تفاعلي تكاملي مع محيطها (ليس بمعنى دمج الجغرافيا) ولم تسع أي خطوة جادة لإنتاج ظروف مؤاتية. أمّا داخلياً، فعاشت هاجس احتكار العنف والقوة وتركت الجانب الموجب من الفكرة السيادية دون إجابة.
لقد نُظِّر للدولة -المؤسسات- أنّها أحد الفاعلين لا الفاعل الأوّل. كأنّها صُمّمت لتكون عاجزة عن النهوض بالأعباء العامة أو صُممت لغرض يريده مَن في الخارج. ولا تزال عاجزة – إلّا أخيراً - عن ابتداع نوع من الهامش للمناورة، فتتوزّع الأدوار مع الشعب بحيث هو يقوم وهي تستثمر لتعزيز وتقوية فرص بناء الدولة.
يكمن التحدّي الثالث في تشوّش النصوص والحيرة في مقاربة دوائر الفرد-الطائفة-الوطن-الدين. النصوص توحي بدستور دولة مدنية لكنّها تراعي الطوائف. تعتمد نظاماً برلمانياً ديموقراطياً لكنها تثبّت الميثاقية. تنشئ مجلس نواب للشعب ومجلس شيوخ موازياً. تنادي باقتصاد حر وفي الآن ذاته تطالب بتدخّل الدولة والعدالة الاجتماعية. تبرز الحرية دون أن تحدّد مضمونها... كأنّه محاولة مسايرة للجميع باعتبار أنّ الخارج هو المولج بإدارة وتوزيع المثاقيل والأبعاد. وهذا عمق تحدّي المواطنة كونه ملتبساً ولا تملك السلطة والدولة زمامه.
رابع تحدّيات المواطنة كمن في فشل كل محاولات إبعاد الفكرة الدينية عن المجال العام. فكل محاولات إنتاج مرجعيات بديلة (فينيقية وقومية وجغرافية واقتصادية وطائفية...) لم تنجح بل تعمّقت المشكلة، تبيّن أنّ أفيون الشعوب هو المرفوض في لبنان وليس الدين الحركي السياسي المتصدّي.
خامساً، تحدّي تواصلية السلطة السياسية، فالسلطة السياسية في تاريخها وتجربتها هي أقرب إلى تمثيل مصالح الخارج وأغراضه منها للتعبير عن الإرادة العامة للشعب اللبناني. ليس هذا فحسب، بل اتّضح تباعاً أنّ العقد الاجتماعي في لبنان ليس بين لاعبين خارجيين وأهل سياسة بل بين الشعب ورجال المال والاقتصاد، ما يعني أنّ العقد الاجتماعي في لبنان مهدّد برمّته في بنيته وقاعدته الأولى لأنّ العقد يُفترض أن يكون بين الشعب والسلطة السياسية.
تحدّي القلق، فلبنان بلد قلق والهواجس تعتري عمرانه. إنّ هذه الحالة تترك آثاراً بالغة الحساسية على مسألة بناء المواطنة وترخي بظلال كبرى. فعندما يطاول التهديد أي مكوّن فيه فسيخلّف ذلك اضطراباً وتزعزعاً في البناء برمّته.
الحال أنّنا نتحدّث عن تهديد وجودي ما انفك يطاول جماعة بعينها -المقاومة- تشكّل الطائفة الشيعية متنها منذ أيام لبنان الأولى، وتدفع فاتورة حماية ذاتها ولبنان، وكانت قد عانت صنوف الحرمان من قبل بحيث لم ينافسها فيه إلّا بعض أهل الشمال. وفي الآونة الأخيرة برز ما يسمّى القلق المسيحي من منطلق ديموغرافي (لا بأس من التحقّق من ذلك) تارة أو لتراجع في الدور.
لا يعيبنا أن نعترف كلبنانيين أنّنا فشلنا بعد ما يزيد على قرن في إنتاج مواطنة، ربّما لأنّنا فشلنا في بناء وطن ودولة أو صيغة عقد مقبول لاجتماعنا السياسي. ما يعيب أنّنا لم نجرؤ أن نناقش الأمر بشفافية وحرية ودون توجّسات.
هل لنا أن نبتدع مفهوماً أكثر جدة لاجتماعنا السياسي لا أن نجمّد فيه عند إسقاط مفاهيمي معيّن ونحاكم أنفسنا عليه ونثقل على واقعنا؟ فالمواطنة سيرورة، وبالتالي علينا أن نجدّ البحث عن تعريف لمواطنية من سنخيتنا وسنخية قيمنا ورؤانا المشتركة. نعم لسيرورة مواطنة تشبه لبنان، مواطنة تعلي إرادة الفرد والمجتمع على السواء لا أحدهما فقط، سيرورة لا تأخذ بحرية مقيّدة بالمال أو الخوف ولا بحرية أُحادية موجّهة (غربية فقط) ولا بحرية تعبير دون حرية إرادة. سيرورة لا تنقصها غائية، سيرورة لا تأخذ بحرية دون عدالة، ولا تأخذ بحرية تذيب التمايز وتعدم التنوّع، ولا بحرّية تؤدي إلى فوضى تمس الجوهر والكينونة، ولا بحرية تنهي الجغرافيا وتهمل خصوصية لبنان في محيطه، ولا بحرية تُوظّف لقمع الآخرين، ولا بحرية تطيح معنى المقدّس، ولا بحرية تضيّع حدود الذات والعدو فيصبحا سواء، ولا بحرية تقوّي الاقتصادي على السياسي، ولا لسلطة المال على حساب العقل والفلسفة، ولا لسلطة تفصل بين العلم والدين، ولا لانتماء أُحادي وإلغاء دوائر الانتماء الاجتماعية الأخرى، ولا سيادة تنقصها ثقافة تحرّر داخلي وإيمان بمزيّة لبنان، ولا بانبهار بالآخر دون الاعتداد بالنفس، ولا لقانون محض دون قوّة الأخلاق والدين الذي يميّز عالمنا العربي الإسلامي عن غيره.
نعم لحرية تندكّ بالعدالة وتنفتح على الدور والمسؤولية أمام العرب والأمة والإنسانية، حرية تجعلنا ننهل من كل ما فيه فائدة للمستقبل والحفاظ على كينونتنا وتنوّعنا ووحدة بلدنا وسلمه الأهلي وقواعد العمل السياسي السلمي مهما بلغ الإستقطاب. حرية تعطي المجتمع اللبناني حيويته وتُبقي قدرة لبنان في مجتمعه.
يبقى أن نسأل، من أين نبدأ: من السلطة أم من الشعب؟ إنّ تجارب شعوبنا مع السلطات غير مشجّعة. كانت السلطة دوماً أسيرة أغراضها، مكبّلة في تعاقداتها الخارجية. أعطيت ما يكفي من الوقت (قرن من الزمن كما في لبنان). الأمل اليوم وغداً معقود على الشعوب الواعية الناضجة، على طاقة مجتمعية شقّت طريقاً جديداً في وطننا وأمّتنا فنهضت، واستنهضت. هذه هي الطائفة الجديدة في لبنان والمنطقة، إنّها «طائفة المقاومة» التي تزداد شرعيتها ويتقوّى منطقها وتعمّ فائدتها في شتّى الأبعاد. المقاومة هي حكاية النجاح والأمل الوحيد المتاح لمواطنة تقوم على ذات وطنية حرّة، عادلة وهادفة.
(يتبع)

* باحث لبناني