كشفت قضيّة فلسطين من جديد حقيقة القوى المسيطرة في الدول الديموقراطيّة. من ناحية المبدأ تعمل الديموقراطيّة على تمثيل الحكّام للشعب، ولكنّها في الممارسة تقتضي انتخاب الشعب لممثّلين عنه في يوم واحد كلّ فترة. لكن بعدها، يقوم الحكّام بقيادة البلاد كما يشاؤون ولو بعكس الطريق التي وعدوا بها أثناء حملاتهم الانتخابية (الرئيس الأميركيّ بايدن كان يعد برفع العقوبات عن كوبا، ولكنّه كذب). فإذا بنا نصل إلى المفارقة التي رأيناها في حرب العراق التي خاضها الإرهاب الأميركيّ الرسميّ، حيث يقوم ملايين من الناس بالتظاهر لمناهضة دخول الحرب (كما حدث في بريطانيا، مثلاً) بينما يتابع الحكّام خططهم الحربيّة دون الالتفات إلى آراء شعوبهم. الإبادة الجماعيّة التي انتهجها نظام الاحتلال والفصل العنصريّ الصهيونيّ أوضحت هذه النقطة من جديد. يتظاهر الناس في بلادنا وحول العالم بينما الحكّام يدعمون الإبادة الجماعيّة، وفي بلادنا الحكّام خانعون، مبايعون للصهاينة أسياداً. في الواقع، الحكّام الحقيقيّون وراء الحكّام السياسيّين هم أولئك أصحاب المصالح الاقتصاديّة الكبرى الذين لا يأبهون لأمر آخر غير تراكم أرباحهم. وقد سمّى الرئيس الأميركيّ أيزنهاور هذه الشركات المجمّع الصناعي العسكريّ في خطاب له عام 1961، وقال بأنّها تتحكّم بالقرارات السياسيّة، وهي تحتاج بطبيعة الحال إلى حروب لا تنتهي لتتراكم أرباحها. لكنّ السعي إلى تراكمٍ مُتصاعد للأرباح هو سعي إلى السلطة، والاستحواذ الأنانيّ -الفرديّ أو الجماعيّ- على القدر الأكبر من المال، يحمل في طيّاته ذهنيّة عدوانيّة عدوّة للمشاركة وبالتالي للحياة.
لا شكّ أنّ طلب المال في أعماقه هو طلب سلطة، فلو فكّر الإنسان منطقيّاً لوجد أنّ تراكم المال مهما بلغ من مليارات لا يقدّم ولا يؤخّر في حياة الإنسان المادّية، فحاجاته المادّية اليوميّة محدودة. الأمر الحقيقيّ المطلوب من وراء المال هو السيطرة، القدرة على التشبّه بصورة إله قادر على كلّ شيء (في تناس بالطبع للموت). هذا الاتّجاه النفسيّ المنحرف هو ما يغذّي هذا السعي لتزايد أنانيّ للأرباح مدمّر للعالم. الاتّجاه المعكوس هو الذي يقول بمشاركة خيرات العالم بين الناس، ليحيا الجميع بكرامة محقّقين حاجاتهم الأساسية، وبفائض يمكن مشاركته للتسلية والإبداع العلمي والفنّي والتمتّع بهما من قبل الجميع؛ وهو ما يسمح بإنقاذ كوكبنا فعلياً.
لكنّا لا نستطيع إلّا أن نلاحظ أيضاً أنّ تراكم وتصاعد الأرباح أمر مركزيّ في النظام الرأسماليّ، فالربح ليس فقط ضروريّاً، ولكن تصاعده ضروريّ أيضاً. إنّ نظام السوق يدفع المؤسّسات المساهمة الضخمة باتّجاه السعي لتصاعد الأرباح لكي يتصاعد سعر السهم وإلّا ذهب المستثمرون إلى شركات أخرى. آليّات السوق تستعبد الجميع في هذه الحالة.
الإبادة الجماعيّة في غزّة، الحروب على منطقتنا، الحروب حول الكوكب، الانفصال الذي نلاحظه في قلب الديموقراطيّات الغربيّة بين رغبة الشعوب بالسلام ورغبة الحكّام بالحروب، أمور مرتبطة بالرأسماليّة. الديموقراطيّة نفسها لا يمكن ممارستها بالفعل في ظلّ الرأسماليّة إلّا بشكل صوريّ، حيث يخدع أصحاب السلطة الفعليّون الشعوبَ بالسماح لها بحرّية شكليّة تقوم على مرتّبات استغلال وإفقار يُسمّى حدّاً أدنى، وعلى تعدّد إعلاميّ صوريّ يتعدّد في النغم ولكن يقول الشيء نفسه في ما يتعلّق بمصالح الشركات الكبرى الحاكمة الفعليّة للبلاد، وعلى انتخابات شكليّة تأتي بأحد حزبين أو ثلاثة يختلفون قليلاً في كمّية الفتات المقدّمة لشعوبهم ويتّفقون في السياسات العدوانيّة نفسها تجاه الشعوب المستضعفة ويعيثون في الأرض خراباً وتدميراً من أجل مراكمة الأرباح. أميركا اللاتينيّة حاولت أن تحقن الرأسماليّة بجرعة كبيرة من السياسات الاشتراكيّة وامتنعت عن انتهاج سياسات عدائيّة حربيّة.
الموضوع ليس جديداً، لكنّ قضيّة فلسطين فضحت من جديد وبوضوح هذا الكمّ الهائل من الهراء الذي يتفوّه به المسؤولون الغربيّون حول حقوق الإنسان وحرّية التعبير، والتي في حقيقتها وتطبيقها الجدّييْن كانت لتهدّد العدوانيّة الوحشيّة لأولئك الذين يتوهّمون أنّهم آلهة. والوهم قائم ليس فقط لأنّهم يموتون، ولكن لأنّهم يفتقدون أيضاً إلى ميّزة أساس أخرى في الألوهة: الرحمة التي ترى في البشر عائلة واحدة.
أمّا بالنسبة إلى فلسطين، فقد أثبت الشعب الفلسطينيّ أنّه اليوم على مسافة صفر من انتزاع حقوقه وحرّيته في وجه الآلة العسكريّة للوحش، وأنّ التعاون بين سكّان منطقتنا هو المسار الذي يمكنه أن يفضي إلى تحريرنا من الغزاة. وعند اندحار الاستعمار سيكون حظّنا أكبر في أن ينتخي ليل القمع الداخليّ وأن نحيا في ظلّ حرّية نستحقّ أن نتمتّع بها.

* كاتب وأستاذ جامعي