ليس تقليلاً من فظاعة جرائم «إسرائيل»، ولكنّها ليست أكثر من أجرم وارتكب المجازر على الكوكب في القرن الماضي. «إسرائيل» لم تخترع الإبادة والتطهير العرقي والقتل بلا هوادة من الجو. «إسرائيل» ليست إلّا تجسيداً لسياسات الهيمنة الغربية على شكل «دولة». هي نسخة الإجرام العالمي التي فُرضت على عالمنا العربي عموماً ومشرقه خصوصاً، ولكن الآلة العسكرية الاستعمارية التي تقودها واشنطن تملك عشرات النسخات من «إسرائيل» وإن كانت ليست جميعها على شكل دولة. «إسرائيل» قد تكون أميراً عربيّاً أو مجلساً عسكريّاً آسيويّاً أو جنرالاً أفريقيّاً أو رئيساً ديموقراطيّاً لاتينيّاً، وكلّها أسلحة فتّاكة ضد الشعوب وإن تفاوتت فعاليتها من مكان إلى آخر ومن زمانٍ إلى اليوم. «إسرائيل» تأتي على شكل شركات أيضاً، منها شركات أدوية وزراعة واستثمارات وسلاح بطبيعة الحال. وهناك أشخاص يجسّدون كل هذا الشر والجشع والإجرام وكل ما هو قبيح في هذا العالم لا تتّسع الصفحات لتعدادهم، ولكن من بين كلّ هؤلاء الأشخاص يبرز واحدٌ كان «إسرائيلاً» جوّالاً حول العالم. عزرائيل هذا كان المثال الأعلى لكلّ من امتهن شرّ السياسة الاستعمارية الإباديّة. الجميل اليوم هو أنه أصبح في إمكاننا القول عن هنري ألفرد كيسنجر إنه «كان».أخيراً، مات ابن الشيطان الأكبر، أو قد يكون أباه. لا يهمّ ما هي صلة الرحم التي تربط كيسنجر بإبليس، ولكنّه أينما حلّ في حياته حلّت جهنّم على الأرض. سوف يستمرّ الكثيرون في السير على خطاه، ولكن ليس الكلّ قادراً على حمل جهنّم في جعبته «الديبلوماسيّة». إن كانت حرب إبادة غزة المستمرّة طنّاً من الإجرام، فكيسنجر وزّع مئات الأطنان منه على القارات كافة، مع اهتمام خاص بالحركات التحرّرية في أميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا. منفّذو سياساته كانوا من أمثال سوهارتو في إندونيسيا وبينوشيه في تشيلي، أي من خيرة القتَلة الذين شهدهم العالم في العصر الحديث. قد يبدو كلام نتنياهو وغانتس وغالانت وبن غفير الإباديّ جنوناً غير مسبوقٍ، ولكنهم ليسوا إلّا ببّغاوات دمويّة يردّدون ما تعلّموه من ممارسات أسيادهم وأمثالهم من خرّيجي مدرسة هنري كيسنجر لإبادة الشعوب.
عاش ملاك الموت مئة عام قبل أن يعود إلى بيته وربعه، ويتساءل البعض عن العدالة الإلهية عندما يعيش كيانٌ مثل كيسنجر مئة عام بعد أن سلب ملايين السنين من حياة البشر. لندع حسابات السماء لأهلها، ونحتسب عقاب الأرض لكيسنجر. رحل كيسنجر بعد أن شهد بطولات أكتوبر وعجز مؤلِّهيه على إبادة شعب غزة. مات كيسنجر وعلَمُ فلسطين يرفرف يومياً في شوارع سانتياغو في تشيلي بينوشيه. لكن لا شكّ أنّ ما كان يوجعه أكثر من أي شيء قبل مماته كان صمود كوبا الثورة قبالة شواطئ ولاية فلوريدا. رغم إطباقه على الحركات الثورية على امتداد كُبرى دول جنوب أميركا عبر «عملية كوندور» الإباديّة، بقيت الجزيرة الكاريبية عصيّةً على واشنطن، لا بل كانت قد بقيت تصدّر الثورة إلى اليوم. كان يخشى كيسنجر أن تمتدّ الثورة في أنغولا المدعومة من تشي غيفارا والثورة الكوبية إلى بلدان أفريقية أخرى وأن تصل إلى حبايب الاستعمار الإبادي وربائبه المتمثلّين بأنظمة الفصل العنصري في «روديسيا» وجنوب أفريقيا. «روديسيا» ككيسنجر أصبحت في خبر كان، ومات كيسنجر بعد أن طردت جنوب أفريقيا سفير «إسرائيل» من ديارها.
أخيراً مات «إسرائيل» المتنقّل، ولن يطول قبل أن تلحقه «إسرائيلُ» التي بُلينا بها.