دأبت مسيرة حزب الله، منذ تأسيسها، لتميّز نفسها عن كثير من التجارب التي شغلت الساحتين اللبنانية والإقليمية، ونجحت في ذلك. أصرّت أن تعرّف نفسها كمسيرة «شهادة» و«حجة». شهادة أنّ الحق والباطل لا يتعايشان في قلب واحد، وأنّ الحضارة لا تقوم إلا بالحقّ وفقط الحق وإلّا تبقى في اصطراع لا ينتهي مع الطبيعة الأولى للناس. شهادة أنّ الأوطان هي حاجة تاريخية للإنسان باعتبارها محلّ تجلّي إنسانيّته وكمالاته، والأخيرة لا يمكن بلوغها بعيداً عن التزام الحق ومجابهة تمييعه، وأنّ الأوطان لا تقوم وتستمرّ بالحياد، فالشهادة قيمة مرجعية أخلاقية عليا تحتاجها المجتمعات والبشرية. ولذلك، كان ممّا بعث الأنبياء ومعهم الكتب السماوية به هو تنبيه المسيرة البشرية لمخاطر الانحراف وتغيير خلق الله وتقويم ذلك بقتل الشهادة إذا اقتضى المقتضى. شهادة أنّ العلم ليس في انتصار الإنسان على الطبيعة وتطويعها له فقط، بل أيضاً لإثبات فعلية التغيير الاجتماعي وواقعيته كأبرز الحقائق العلمية والتاريخية، وأنّه أوسع ممّا حاصره الغرب حين اختزله بالعلم التجريبي. شهادة أنّ الأطروحة الغربية، رغم ظاهرها، تعاني انفصاماً نظرياً وعملياً، وسرعان ما ستكون في مواجهة السواد الأعظم من البشرية بما يتنافى مع ادّعائها الليبرالي - الديموقراطي. شهادة أنّ الدين ليس حاجة فردية ومعنوية فقط، بل حاجة وضرورة اجتماعية واقعية. شهادة أنّ المقاومة اليوم هي السبيل الأوّل والأساس لحياة كريمة ولإنتاج هوية مشتركة في الحاضر قادرة على صناعة المستقبل. بهذه الخلفية المعرفية، رأى حزب الله ذاته وسعى إلى تقديمها، وعلى هذا الفهم مضى شهداؤه وصفوته. التفّت الناس حوله، ورَدُوه عطاشى في صحراء مقفرة، أسبغوا عليه حبّهم وتأييداً غير مسبوق. شكّل بالنسبة إليهم «فكرة حق» ناجحة ألفتها نفوسهم وضمائرهم النقية. رأوه يعبّد لهم الطريق ويوسّع الآفاق، لا يستّغلهم ولا يمتطيهم لمنصب ولا شهوة سلطة ولا شهرة، بل يجعل أجساد شهدائه وقادته معبراً لهم نحو الأمل الذي يستحقّون. كان خادماً أميناً خاطب العقل أوّلاً والوجدان، وامتنع عن استثارة الغرائز والغيريات. تعشّقوه حتّى أصبحت أحلامهم وأمانيهم وتطلّعاتهم وأولويّاتهم من خلاله، ربّما كونه جاءهم بمقاومة بنّاءة احترمت من قبلها وراكمت عليه ولم تنسفه، وربّما لأنّه كان جامعاً لا مفّرقاً، وربّما لما رأوه من تجارب غرقت بأفكار مستوردة وبحثاً عن سلطان واقتتالاً من أجل الحطام واستئساداً على شريك وهزالة أمام عدو. ربّما لأنّهم سئموا تجارب حرّكها القلق والعنصرية والاستغراق بالتاريخ وسرديّاته المفتعلة، أو أنّهم سئموا الانغلاق والتقوقع والعجز والتهرّب من النقد وتحمّل المسؤولية. ربّما لأنّهم سئموا دين أفيون الشعوب وديناً لا يميّز بين الحق والباطل، وثالثاً جعل الدين مطية وبيدقاً في مواجهة «الكفر»، أي الاتحاد السوفياتي حينها. وربّما لأنّه كان يتيماً في التجارب التي أعطت ولم تأخذ وحمت ولم تُشكر وجادت ولم تبخل وبادرت ولم تنتظر وانفتحت ولم تتقوقع وحملت الناس إلى القضايا بدل إغراقهم في متاهات لبنان والعرب الضيّقة (ندعو إلى البحث عن صلة نفترض وجودها بين حالة الاستقرار الأمني الداخلي في لبنان وعدم انفجاره رغم هول الزلازل التي أصابت الإقليم وعظيم التحدّيات وبين وجود حزب الله بثقله وحضوره).
هم، أي الناس، صاروا يبحثون عن خطاب آخر ولغةٍ أُخرى ومنطق مختلف، فكان حزب الله استجابةً لذلك. فكان ممّا رآه أنّ أحوج ما نحتاج إليه ليس تعديلاً قانونياً أو تطويراً دستورياً هنا وهناك في لبنان أو غير، إنّ ما نحتاج إليه هو نموذج ثقافي وقيمي يعيد تقويمنا ونظرتنا إلى الأشياء وتعريفها. نريد تغييراً في المثال الأعلى لدينا وفي ثقافتنا السياسية بما يؤدي إلى تطوير نظامنا ومؤسسات السلطة ومعادلاتها، فالأخيرة وما بها من أعراض وليدة الأولى واعتواراتها.
خلاصة القول إنّ حزب الله ليس تجربةً حزبية بمعناها التقليدي، ولا مقاومته مقاومة تحرير أرض أو إثبات ذات، بل هي مدخل لبثّ روح اليقظة والتحرّر النفسي فالسياسي والفكري في الأمّة وعبرها إلى العالم. منافس قويّ وواعد مقارنةً ببقية الطروحات في الإقليم وحتّى أوسع منه.
بهذه الشاكلة، وفي هذا الخط والمنهج، سعى حزب الله، فامتلأت مسيرته بمحطات خالدة، من 11-11 إلى شهادة أمينه العام السيد عباس الموسوي وزوجته وطفلهما، إلى استشهاد نجل أمينه العام التي عبّرت عن البيعة الوطنية الأولى (قد يصنّفها البعض البيعة الثانية بعد مبايعة الناس للإمام السيد موسى الصدر على الجهاد بوجه إسرائيل ورفع الحرمان) لحزب الله على طريق تحرير الأرض والوطن وإنسانه وإضاءة المشكاة لأوّل مرّة في العتمة. أدّت هذه الشهادة بتوقيتها وظروفها المعقّدة حينها (كانت ضغوط مدريد أشدّ بكثير من ضغوط أبراهام وكانت الهيمنة الأميركية على لبنان أقوى بكثير مما هي اليوم وكانت القناعة بجدوائية المقاومة أقّل بكثير ممّا هي عليه اليوم) إلى تثبيت شرعية وطنية واعتراف بها كان قد كرُه على كثيرين في لبنان القبول بها. لكن ما بعد شهادة هادي نصرالله فعلاً كانت غير ما قبلها. اتّضح معها أنّ الشرعية لا تتأتّى من مال يغدق لشراء الذمم، ولا من إعلام التحريض وتجاوز الحقيقة، ولا من خطاب التفاهة واستثارة الغرائز، ولا من الإطناب في الحديث عن الوطنية بقصد احتكارها، ولا من وراثة سياسية واقتصادية وزعامة، ولا من تبعية للغرب أو الشرق. تأتي الشرعية من الداخل، أولاً من الهدف الحق ومنهج الصدق وتلازم القول والفعل، من محاكاة العقل والكرامة والالتزام وحسن انتخاب الأولوية وحب الناس والفناء بهم والتفاني من أجلهم. ففرضت شرعية حزب الله الوطنية نفسها وبُويِع بيعةً وطنية مشهودة.
اليوم، وبعد أكثر من عقدين ونيّف، وفي ظل تحوّلات كبرى وتاريخية ضربت العالم والإقليم، كان آخرها «طوفان الأقصى» الذي اقتحم كل عقل وقلب وجماعة ومجتمع وفرز البشرية أيّما فرز، شاءت المشيئة أن يكون لحزب الله أيضاً مدخلية إلى اعتراف كثيرين شقّ عليهم ذلك من قبل وبالغوا في الحؤول دونها، إلى اعترافهم بشرعية إقليمية معتدّة له. لقد تجاوز حزب الله شِركهم ومكائدهم باعتماده على الوقائع الثابتة والخطاب المسؤول، لا بالجري وراء الفقاعات والادّعاءات والكذب والصوت العالي، فالأباطيل لا تُغني عن الحقيقة شيئاً في نهاية المطاف.
لقد كانت غزّة اختباراً لكشف الإنسان في كل جماعة ودين، وكشف لياقاتنا نحن البشر في حفظ أوطاننا ومقدّساتنا وقيمنا الأولى وجبلتنا وتضامننا على حقنا ورجاحة عقلنا وتحسّس مستقبلنا، هل سيكون عالمنا المقبل عالم فلسطين أم عالم «إسرائيل»! فهذان تعبيران عن نظرتين للحياة وعلينا أن نحدّد.
أتت شهادة الشهيد عباس محمد رعد اليوم ربطاً - وإسناداً ودعماً وتكميلاً - بالجهد الثوري الفلسطيني المقاوم المخلص بعد أن سدّد ضربته المزلزلة لإسرائيل. أتت شهادته في لحظة تضامن غربي غير مسبوق مع الكيان الصهيوني لمواجهة نهج المقاومة وحلقاتها وقواها. أتت في لحظة بدأت فلسطين وأبطالها وشعبها ومظلوميته تجوب العواصم وتحاصر الأنظمة وتستحثّ الشعوب وتثير الأسئلة على مصراعيها حول رهان الاقتراب من الغرب والتّقوّي بـ«إسرائيل». أتت لتقول إنّ التزامنا بفلسطين عميق وأصيل وبكل قضايا التحرر، وإنّنا ادّخرنا وندّخر أبناءنا لهذه اللحظات التاريخية في حياة أمتنا والانتصار لحقها.
أتت هذه الشهادة لتؤكّد عظيم التزام حزب الله بمقتضى وطنيته والانتماء الفعّال لها، الذي لا يتنافى، بل يتعمّق، باجتراح وسائل وإبداع سبل تجمع بين الحق الوطني وحق الأمة وفلسطين. «إسرائيل» اليوم تعيش هاجس تطويق واقعي تدريجي بحراً وبراً ومن كل الحدود، بينما المقاومة الفلسطينية تضرب بالقلب، ولا سبيل أمام الصهاينة إلّا التخبّط. أتت رسالتها بليغةً للعرب الذين لا يرغبون أن يروا حزب الله في دور إقليمي يشيد بناه ويسهم في إعماره، وأنّ «حماس» و«الجهاد الإسلامي» و«حزب الله» و«أنصار الله» و«الحشد الشعبي» ومحور المقاومة قد انتصروا، وهم على أبواب انتصار تاريخي لن يقوى عدّوهم على منعه، وأنّ تلاقي الإرادة المقاومة وانصهارها في جبهة مواجهة الهيمنة هي باب عبور هذه الأمّة إلى مستقبلها. فشهادة عباس محمد رعد، رئيس أكبر تأييد شعبي في البرلمان اللبناني وأحد أهمّ مؤسسي حزب الله والحالة الإيمانية الجهادية في لبنان وأحد قادتها، تؤكّد أنّ ما يجب أن يميّز هذه المنطقة ويرسم رونقها في أي عمارة دولية آتية هو مقدار ما تقدّمه للبشرية من إعلاء قيمة التحرر وبثّها في الأمم.
بهذه الشهادة تترسّخ مكانة حزب الله ونموذجه الإقليمي والحاجة إليه كسند ومؤازِر للمقاومة الفلسطينية الشريفة وكل قوى التحرّر في معركتهم بوجه العدو الصهيوني والهيمنة الأميركية، كما كانت الحاجة إليه ولا تزال في مسار تحرير لبنان وتحرّره. فعندما تسقط دماء كبار قادة حزب الله وأبنائهم، أو بالأحرى عندما ترتقي هذه الدماء في معركة الأمة بجانب إخوة الدم والقضية في فلسطين، فهذا دلالة كافية أنّ المعركة واحدة والغاية واحدة والنصر واحد والمصير، وأنّ كل من سعوا ليحرموا حزب الله منه في الإقليم ودأبوا للحيلولة دونه، يعود ليتثبّت بمعمودية الدم القاني الذي لا يمكن تزويره البتة.

* باحث لبناني