ارتبطت إستراتيجيات الهيمنة الأميركية العالمية بعدد من الشخصيات النافذة، كان منها هنري كيسنجر وزبغنيو بريجينسكي وجورج كينان ومارشال وولسن وروزفلت، لكنّ قلة منهم ارتبط صعود نجمهم بالصعود الأميركي وسدل ستارهم مع تراجع الهيمنة الأميركية وتضعضع مبانيها كما هو الحال مع كيسنجر. سيسأل الناس، هل هذه الشخصيات وهؤلاء القادة السياسيون الإستراتيجيون أضعفوا بقراراتهم أميركا وهيمنتها أم قوّوها؟ وهل يمكن القول بأنّهم اشتغلوا بالآني على حساب بعيد المدى أم لم يستقرئوا جيداً حركة التاريخ؟ هل كانت المشكلة في النظرية والمدارس السياسية التي انتموا إليها وتبنّوها أم كانت في أصل الأنطولوجيا الغربية أم في الاثنتين على السواء؟ أم أنّ دورات الحياة هي دورات صعود وهبوط حتمي، أم مشروط لكنّهم عجزوا عن معرفة الشروط؟
تبقى هذه الأسئلة تشغل الفلسفة السياسية والسياسيين، وشغلت بدورها كيسنجر الذي لا يُحتاج إلى كثير عناء لترى الفارق بين كتاباته الأولى التي عبّرت عن لعبة حسابات التذاكي والمصالح بمعناها المتعارف للدول ومحاولته تقليد شخصيات كبرى أعجِب الرجل بها من مثل مترنيخ وبسمارك وآخرين، وبين كتاباته الأخيرة حيث بدأت تستوقفه الأسئلة الكلية ويعترف اعترافات كبيرة وخطيرة حول فهم العالم ومستقبل الهيمنة الأميركية أو «الإمبراطورية الخيّرة» التي يدّعي أنّها تتميّز، أو يجب أن تتميّز، بضرورة التلازم بين «القوة والقيمة»، ولا يجب أن تغفل الأخيرة بأي شكل لأنّها سر فرادة وتميّز أميركا حتّى عن الغرب الأوروبي وأزماته التي لا تنتهي، وإلّا تخسر مكانتها وميزتها.
انشغل ابن الأصول الألمانية بالتاريخ الأوروبي ونظريات التوازن التي حكمت عقوداً عدّة إبّان القرنين العشرين والتاسع عشر، إلى أن أتت الحرب العالمية الأولى وبرز قوس الهيمنة الأميركية الأوّل من خلال صعودها مع مشروع ولسن ومبادئه الشهيرة التي شكّلت الأرضية الأبرز للنظام والمنتظم الدولي حتّى اليوم، إلى قوس هيمنتها الثاني إبّان الحرب العالمية الثانية، إلى دخول هيمنتها القوس الثالث مع انهيار الاتحاد السوفياتي.
من خلال مقاربته الواقعية، تمكّن من إنجاز عدّة أمور بالغة الأهمّية ما لبثت أن غدت تحدّيات ومعضلات للسياسة الأميركية وتهديدات لا توجد إجابات لها. احتوى الاتحاد السوفياتي بإغراء الصين منذ عام 1971، فحجزت الصين مع مقاربته هذه مكانة في مجلس الأمن بدل تايوان وأدخلها إلى النظام الاقتصادي الدولي ونقل الخبرات الغربية إليها وفتح الآفاق أمامها إلى المسرح العالمي وبنيته الاقتصادية وصولاً إلى دخولها «منظمة التجارة العالمية». فكان نجاحه قد خلّف تحدّياً أكبر لأميركا كما اتّضح اليوم. وعمل جاهداً لضرب كل قوى التحرّر والقوى المناهضة للهيمنة الأوروبية الكلاسيكية، فنجح في إبعاد الأوروبيين وإضعافهم ووراثتهم، لكن ولّد بذلك فراغات هائلة أعادت إنتاج مقاومات ذاتية الدفع تحمل خطاباً تحرّرياً ومقاوماتياً يتحدّى اليوم النظام الدولي برمّته ويعمل على تعديله بقوّة.
حاول أيضاً تكريس إسرائيل كزعيمة للمنطقة التي ظلّت لقرن أهمّ مناطق العالم ومحور الجيوبوليتيك. فكان أن شقّ منهج كامب ديفيد على وقع التوازن الذي هندسه بعد عام 1973؛ فمن خلال هذه المعاهدة وملحقاتها سيمكن لأميركا الإمساك بالمنطقة وإبعادها عن الاتحاد السوفياتي فضلاً عمّا يمكن أن تؤمّنه من مصالح لأميركا وطرق دولية وطاقة ومقوّمات هيمنة. لكنّ النتيجة عادت وأتت مخالفة لما أراده فغدت إسرائيل من أقل الدول أمناً وأكثرها تهديداً وتعاني شبح الانهيار والزوال المحتّم.
واعتبر أنّ النظام الدولي العولمي الحالي لا يزال ضرورة لأميركا وهيمنتها، وأنّه لم يستنفد أغراضه بعد، لكنّ معطيات الواقع تشير إلى أنّ أميركا بلغت مرحلة استقطاب حادة بين رؤيتين جذريتين حيال النظام. وتبيّن أنّ نصف الشعب الأميركي -وشبيهه الغربي- لم يعد يؤمن بهذه الفكرة، وأنّه يبحث عن صيغة جديدة ودور جديد لأميركا، ما يعني في النتيجة نظاماً دولياً مختلفاً، وأنّ دولاً تمتلك خطاباً واسعاً باتت تتحدّى هذا النظام وترفضه أو ترفض بعض جوانبه الرئيسية كالصين وإيران وروسيا ودول «البريكس» وغيرها. لم يرد الاعتراف بالأسرة الدولية، رغم ادّعاءاته وكتاباته في ضرورة ذلك، واستمرّ في المراوغة برفضه تنازل أميركا عن عرشها وقيادتها للعالم أو مشاركة الآخرين باعتبارها الدولة الضرورية للبشرية.
رحل والأسئلة ترافقه حول رهانه الزائد على القوّة فيما إذا كانت هي العامل الحاسم في تحديد مستقبل النظام الدولي، إن كانت عسكرية في المقام الأوّل أو اقتصادية أو دبلوماسية أو ناعمة أو تقنية، وحول مكانة الأمم والدول، وأفرد للتقانة مساحة واسعة من كتاباته وصولاً إلى الذكاء الصناعي معتبراً إياه أنّه هو الذي سيفسّر الحياة بعد أن فسّرها «الدين ثم العقل» في الغرب على التوالي.
اليوم، يرحل كيسنجر عن المشهد تاركاً لمحكمة السياسة والتاريخ محاكمته، يرحل بينما يبدو على أميركا الوهن وعلى جسدها جراحات وعلى رجاحة عقلها أسئلة كبرى. لا يبدو أنّ هناك من الأفذاذ من سيخلف كيسنجر على مقعد ممارسة النظرية والعمل السياسي، أو أنّ المؤهّلين من أهل الفكر لا يجدون لهم مكاناً في النظام الأميركي وعموم النظام الغربي، ويتم استبعادهم عن التقرير، بل وصناعة القرار، لسبب بنية المنتظم (النظام والقيم التي تحمله) وما وصل إليه من تشوّهات عميقة لم تعد تتيح فرصة التعرف إليهم أو تظهيرهم على المسرح.
ينظر كثيرون إلى أميركا وهي تخرج بخفّي حنين من الحرب الأوكرانية، بتداعياتها الجيوستراتيجية، حيث ستكون كلفة الاستمرار فيها إبادات جماعية، بعد أن أسقط الغرب وأميركا حرمة الدماء والمواثيق والمعاهدات وعطّلها في حربه على غزّة. وبالتالي، لن يكون أمام أميركا إلّا تسوية بشروط روسيا التي تمتلك اليد الطولى في القدرة على التدمير وإطالة الحرب مقابل أوكرانيا التي بدأت تتقبّل الهزيمة تدريجياً وتتجرّعها. أمّا الصين، فهي رابحة حتّى اللحظة والرياح العالمية تسير لصالحها، ولا يبدو أنّ أياً من القوى الحليفة لأميركا قادرة في المدى المنظور على تهديدها.
بينما إسرائيل، قلب ومحور جيوبوليتيك أميركا في غرب آسيا، فتراها في تراجع مريع في مكانتها وقدرتها على أداء دور وظيفي، فضلاً عن أصل قيامها. ورغم كل المجازر التي ترتكبها والقتل الذي تمارسه بعد عملية «طوفان الأقصى» وما تجاوزته من عقائدها العسكرية السابقة، تراها تحفر قبرها بيدها كونها يفترض أنّها تعلم، أو عليها أن تعلم، أنّ الزيادة الكمية في استخدام القوة سيف ذو حدّين. ويعني ذلك أن لعبة الاستهداف النوعي والردع قد تغيّرا بين إسرائيل وخصومها باعتبارهما القواعد القديمة للحروب مع أعدائها. وستكون أولوية أعدائها المقبلة لمواجهتها مرتبطة بالمقياس الكمّي وليس فقط الكيفي للصراع والحرب، فهل ستقوى بعمقها الإستراتيجي القليل وتعدادها الضئيل من مناظرة هذا التحدي الجديد الذي سارت به، أم أنّ ذلك سيجعلها في فم التنين والتهديد الوجودي أكثر من أي وقت مضى؟ ومع إقرارنا بالعلاقة العضوية بين أميركا وإسرائيل، يصبح مستقبل أميركا في الإقليم على حافة الهاوية، فيما لو فشلت إسرائيل في بلوغ أهدافها، وستفشل حتماً؛ إذ إنّ السيناريوهات الثلاثة التي تفترضها الولايات المتحدة ستكون أشدّ خطورة على مستقبل إسرائيل: حل الدولتين لا يملك أياً من فرص النجاح اليوم وغداً. وإفراغ غزّة من أهلها بهدف تهجيرهم القسري يعني أنّ إسرائيل ستكون أمام فراغ في السلطة في غزّة يستحيل أن يُملأ إلّا بحرب برية تنتصر فيها. ومع استحالة ذلك، سيكون الغرب أمام مرآة ادّعائه بأنّ «الإرهاب يقوى حين يكون الفراغ في السلطة»، وستكون غزّة محور تهديد أمني مفتوحاً لإسرائيل ولكل مشاريع أميركا الكبرى بموازاة خط الحرير الصيني والتطبيع طالما هناك مقاتل واحد تحت الأرض مصمم على القتال. وأمّا الاستمرار والإمعان في قتل المدنيين وارتكاب الإبادات، سيؤدّيان إلى انفجار كبير جداً، الكلّ صار متحسّباً له، قد تدفع إليه الظروف. ما يعني أنّ أميركا، كمديرة وقائدة للحرب الإسرائيلية على غزّة، تتهيّأ بكل الأحوال لفشل إسرائيلي أو لانفجار حقد شارع إسلامي عارم في وجهها ووجه مصالحها وأدواتها و«حلفائها» لن يهدأ لسنوات مقبلة. فهل هذا مصلحة أميركا في هذه اللحظة التاريخية؟
وليس انتهاءً بالداخل الأميركي والاستقطاب القاتل فيه، فالاختلاف أصاب كل الركائز تقريباً والهوّة اتسعت في كل المجالات بين النصفين، ليس آخرها اختلافهما على تحديد مفهوم، يُفترض أنّ النظرة إليه موحّدة ومتسالم عليها، أي «الأمن القومي» كما تتبنى النظرية الواقعية، فإذ بنا إزاء نظرات ومقاربات مختلفة لما نريد ومن نحن وما هو دورنا حيال العالم والآخرين. فهل هذا ما كان يريده كيسنجر؟ يرحل الرجل دون أن يأخذ إجابة شافية من إيران فيما إذا كانت دولة أو ثورة وكيف يجب التعاطي معها لمنع نفوذها من التوسّع وخطابها من التمدّد في الأروقة والشعوب المستضعفة والمسلمة، وكيف به لمنعها من تعديل بنية النظام الدولي و«تخريبه». يرحل والعالم يشكّك في قدرة، فضلاً عن أهلية، أميركا لموقع القيادة ولياقتها العقلية والقيمية لذلك.
يرحل الرجل والعالم أعقد بكثير ممّا ظنّه هو وأقرانه من منظّري الهيمنة بمدارسهم المتعددة، حينما افترضوا أنّ قوّة، أو قوى معيّنة، يمكن أن تتحكّم بمصير العالم أو تحدّده، وأنّها هي التي يمكن أن تضع المعايير وتجعل الآخرين يحتكمون إليها. لقد رحل وهو ينظر إلى أفول النظرية الغربية ومحدوديتها وسرعة اندثارها ممّا توقّع هو شخصياً، حيث لم تنه الأُحادية عقدين من الزمن حتى نهض سؤال ماذا بعدها. التقانة، مهما تعاظمت أهميتها في هرم بناء القوة، لكنها تعود فتسقط أمام الإرادة والتخطيط ولو بتكنولوجيا أقل. والدولة لم تعد الممثّلة الحصرية الفاعلة على المسرح ووحدة التقييم السياسية، بل أصبحت الانقسامات داخلها تمنعها في كثير من الأحيان أن تكون ذلك الصندوق المغلق، بعد أن صارت السياسة الخارجية امتداداً لداخل يعاني من تفسّخات عميقة. والقوّة لا تحتاج فقط إلى عامل الرغبة بل أيضاً إلى الإرادة والصبر الإستراتيجي لبلوغ الأهداف، وحال أميركا اليوم أنّ الهوّة اتّسعت بين الرغبة والقدرة.
رحل وهو يتحسّس ضيق الخيارات الأميركية في القضايا الكبرى التي يتشكّل من خلالها عالمنا رغم توافر العديد من عناصر القوّة لديها. رحل متحسّراً ومتسائلاً هل هناك مظهر للضعف أكثر من أن تكون أميركا في انتخاباتها الرئاسية بين خياري بايدن وترامب. رحل وهو يسأل لماذا نخسر العالم ونفقد الميزة ونتآكل ذاتياً ونفشل في الاستجابة للتحدّيات، بل نفشل في توقّعها، ولا أظنه وجد الإجابة رغم محاولاته الدائبة. فالعقل الهيمني الذي نما وعاش عليه لم يسمح له أن يرى الوقائع والأشياء كما هي ولن يسمح لأي من إستراتيجيّيهم في المستقبل بذلك. أميركا يمكن أن توقف من تراجعها إذا تخلّت ودمّرت روح الهيمنة والسيطرة والتوحّش في داخلها فقط، بدل تدمير دول العالم وعواصمه. ولعلّ هذا ما يفسّر الإجابة على سؤال دائم التكرار عندهم: لماذا يكرهنا العالم! هل تتحمّل القيادة السياسية والأمنية جانباً من المسؤولية في محطات مفصلية؟ يقول زبغنيو بريجينسكي: نعم!