منذ ما يقارب المئة عام، نظّر زئيف جابوتينسكي، وهو من أبرز قادة الحركة الصهيونية، لعقيدة الجدار الحديدي، التي تقوم على بناء هياكل القوة المتفوّقة والحاسمة لتحقيق النصر الدائم. انطلق جابوتينسكي من قراءة الاجتماع السياسي الفلسطيني آنذاك، فخلص إلى أن الشعب الفلسطيني ليس رعاعاً، بل شعب نابض بالحياة، وشعب كهذا لن يتخلّى عن أرضه إلا إذا فقد الأمل بقدرته على إلحاق الهزيمة بنا. ثم بنى بن غوريون نظرية الأمن القومي الإسرائيلي بما يعكس ارتباط المفهوم بالدفاع عن الوجود قبل أي شيء آخر؛ فالوجود الإسرائيلي طارئ على التاريخ والجغرافيا، وعابر للهوية بما هي تعبير عن اندماج الفكر مع ديناميات الزمان والمكان. تتماهى عقيدة الأمن الصهيوني، في روحها وجوهرها، مع ما أنتجه العقل الأميركي من تنظيرات حول طبيعة العلاقات الدولية، والسبيل الأمثل لإدارتها. فإذا عدنا لتفحص التاريخ بنظرة سريعة، سنجد أنه قد ساد بين الحربين العالميّتين، في الأوساط الأكاديمية الغربية عموماً والأميركية خصوصاً، جدل واسع بين الطروحات المثالية والواقعية في السياسة الدولية. وكان المثاليون، ورثة الرؤى التفاؤلية في القرن الثامن عشر وليبرالية القرن التاسع عشر والمثالية الويلسونية في بدايات القرن العشرين، يتبنّون الأفكار التي تؤمن بإمكانية بتر جذور الشر، وبناء نظام دولي جديد تهيمن عليه قواعد القانون، والقيم الأخلاقية. لكن أطروحاتهم لم تصمد أمام رحى الحرب العالمية الثانية التي لم تكد تنتهي حتى بدأت حرب من نوع آخر: الحرب الباردة. وهكذا عاد المنظّرون - الأميركيون خصوصاً - لقراءة مكيافيلي وهوبز وهيوم وكلاوزفيتز، وهؤلاء جميعاً نظروا للقوة بوصفها قيمة القيم، فانبثقت معالجات فكرية ممنهجة اندرجت في صفوف ما سمّي بالمدرسة الواقعية في العلاقات الدولية.
أشار أقطاب هذه المدرسة إلى أن المجتمع الدولي هو ساحة سباق نحو القوة، ولا قيمة للاعتبارات والمبادئ الأخلاقية والمثالية، وذهب العديد من المفكرين الأميركيين إلى أن القوة بوسعها أن تحقق كل شيء، وأن العدالة ما هي إلا شكليات كسيحة لا حول لها ولا نفع، ولذا فإن الدول تتسابق لحيازة القدرات التي تجعلها في موقع القوة. ورأى هانز مورغانثو، وغيره من أعلام المدرسة الواقعية كنيكولا سبيكمان وكينيث والتز، أن السياسة الدولية ليست سوى صراع على القوة، والقوة هي الهدف الأول والأخير. ولم يشذّ هنري كيسنجر عن هذا الاتجاه فاعتبر أن «القوة هي الحكم الأخير في العالم».
بعد انتهاء الحرب الباردة، وسقوط الاتحاد السوفياتي، اعتمدت الإدارة الأميركية استراتيجيات القوة الصلبة في التعامل مع القضايا الدولية، خدمة لمصالحها وتكريساً لنفوذها وهيمنتها. حصل ذلك عندما قامت إدارة الرئيس بوش الأب بشنّ حرب الخليج لتحرير الكويت عام 1991، وكذلك فعلت إدارة بوش الابن بغزوها لأفغانستان في عام 2001، واحتلال العراق في عام 2003. حاولت واشنطن إنجاح استراتيجيتها العسكرية بشتى الوسائل، إلا أنها أخفقت في تحقيق ذلك، نتيجةً للخسائر الاقتصادية والبشرية التي تكبدتها جراء الحروب الخارجية التي خاضتها، وتصاعد وتيرة المطالبات بإنهاء عسكرة السياسة الخارجية الأميركية من قبل الرأي العام الأميركي. أدرك الأميركيون بعد تجاربهم المريرة في الحروب التي خاضوها في أفغانستان والعراق أن هناك حدوداً للقوة، وتحديداً العسكرية، وأن الحروب اللاتماثلية هي أحد أشكال الصراع الجديدة العصيّة على التفكيك، تبعاً لتعقيداتها ومرونتها وتغيّراتها المستمرة. ثمّة أبطال جدد لهذا النوع من الحروب، وخطاب مختلف، وأدوات تقليدية وغير تقليدية يجمعهما خيط منسوج بإبداع دائم وابتكار متجدد.
لقد بات الأميركيون أكثر واقعية، لا بالمعنى النظري الذي صاغه مورغانثو وغيره من رواد التيار الواقعي، بل بالمعنى البراغماتي المنبثق من تحديات الواقع ودروسه وآلامه. وهو ما دفع دوائر القرار الأميركية إلى تبنّي استراتيجية القوة الناعمة لإدارة الصراع، وهي استراتيجية تقوم على توظيف مصادر القوة غير العسكرية في سبيل الترويج للاتجاهات السياسية والفكرية الأميركية، بغية توجيه الخيارات العامة للأمم والجماعات. بيد أن أدوات القوة الناعمة لم تفلح في بلوغ المرامي الاستراتيجية التي كانت تصبو إليها واشنطن، فعكف العقل الأميركي على التفكير في بلورة استراتيجيات أكثر قدرة على خدمة المصالح الكبرى، وضمان التفوق الأميركي في النظام العالمي.
على المقلب الآخر، توالت انتصارات إسرائيل في حروبها مع العرب منذ عام 1948، وتوالت لاحقاً هزائمها في مواجهاتها مع المقاومة في لبنان وفلسطين، بدءاً بانسحابها من جنوب لبنان في عام 2000 وصولاً إلى حروبها الأخيرة مع غزة. بيد أن مسار الصراع لم يشهد حدثاً يوازي ما تختزنه عملية «طوفان الأقصى» من قوة كامنة، ترجمت نفسها بسيولة شديدة لتصنع اللحظة السياسية الراهنة وفقاً لمعايير متمايزة للنصر والهزيمة، وإعادة تعريف للمفاهيم الأمنية والعقائد العسكرية التي حكمت قواعد الصراع منذ أيامه الأولى. لم يعد شيء كما كان عليه، والأرجح أنه لن يعود.
أثبتت العملية هشاشة التقدّم العسكري والتكنولوجي الإسرائيلي، كما أبرزت معالم العقم في المنظومة الأمنية الإسرائيلية، حيث لم تنفع كل مساعي التطوير والتغيير في العقيدة الأمنية والاستراتيجيات العسكرية، ولم تجد نفعاً كل المناورات التدريبية والخطط التي وضعها كبار القادة العسكريين، من أمثال غازي أيزنكوت وآفيف كوخافي وهيرتسي هاليفي. والأهم من ذلك كله ما أظهرته العملية من فجوة بين التنظير والسلوك على المستويين الأمني والعسكري، إذ لم يلق صوت بن غوريون أيّ صدى في آذان القادة والعناصر في التشكيلات المختلفة. لقد كان هؤلاء نياماً، مع أن بن غوريون حذّرهم من الحروب النائمة التي تتخلّل فترات الاتفاق مع العرب. لقد انهار «الجدار الحديدي» وانهارت معه كل الرؤى التي راكمها منظّرو الحركة الصهيونية، ولاحقاً الكيان الإسرائيلي. فانطلقت الآلة العسكرية الإسرائيلية مدفوعة بالرغبة العارمة في الانتقام واستعادة الهيبة، لتمعن في قتل المدنيين في غزة، ولتدمر الأحياء والمستشفيات وحتى المقابر، بالموازاة مع عملية عسكرية هدفها، كما حدّده القادة الإسرائيليون، سحق «حماس» والقضاء عليها.
تحرّكت المنظومة الإسرائيلية برمّتها بمنطق ردة الفعل، مع ما يصاحب ذلك من حيرة وتخبط. فسارع الأميركيون منذ اللحظة الأولى إلى عقلنة الاندفاعة الإسرائيلية، فتلا عليهم بايدن الدروس والعبر المريرة التي اختبرها الجيش الأميركي في معركة الموصل، وقبل ذلك في أفغانستان. إلا أن العقل الإسرائيلي المتعنت لم يصغ جيداً لعِبر التاريخ، وأثبت أنه عقل متحجر فعلاً كما وصفه رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق نفتالي بينيت، عندما قال: «لقد فقدت إسرائيل عنصر المبادرة في السنوات الأخيرة، وباتت تنجرّ وراء الأحداث والأطراف المحيطة، وبالرغم من تطورها الفكري وتقدّمها العسكري إلا إنها تعاني من تحجّر العقل السياسي، إذ إنها لا تزال تستعد لحروب الماضي، بينما يستعد أعداؤها لحروب المستقبل».
من النافل وصف العلاقة بين واشنطن وتل أبيب بالشراكة الاستراتيجية، وربما أبعد، لكن ذلك لم يمنع حصول تمايزات ترقى إلى مستوى متقدّم أحياناً، وهو تحديداً ما ينطبق على الحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة. ثمّة اختلاف ينطلق من طبيعة العقل الذي يقارب اللحظة السياسية، ففي حين أدهشت عملية «طوفان الأقصى» العقل الإسرائيلي، وجعلته أسير الغشاوة، كانت دوائر القرار الأميركية تسعى إلى كبح الجماح الإسرائيلي جزئياً، ليس حرصاً على الأطفال الممزقين ولا صوناً لحقوق الإنسان بل انسجاماً مع نمط التفكير الأميركي الواقعي والبراغماتي، الذي بات يتوجّس من الحرب الدائرة بأشكالها وأدواتها ونتائجها وانعكاساتها، وخصوصاً بعدما استنفدت الحملة العسكرية كلّ ما في جعبتها من دون أن تحقق أيّ إنجاز ميداني يذكر. وعلى خلاف ما ترغب فيه إسرائيل من استكمال الحرب حتى لو طالت أشهراً عديدة، يرى الأميركيون أنه قد حان الوقت للتفكير بطريقة مختلفة، ووضع سقف زمني قريب للحرب، وحصرها في أطر ضيّقة لا تتعدى الجغرافيا السياسية لقطاع غزة، وذلك للأسباب الآتية:
أولاً: المستفيد الأول من إطالة المدى الزمني للحرب أو توسيع رقعتها هو الصين، فبعدما تركزت جهود السياسة الخارجية الأميركية لسنوات على احتواء الصين بوصفها المنافس الأكبر لواشنطن على الريادة العالمية، عادت الولايات المتحدة إلى دائرة الأزمات في الشرق الأوسط، وهو أمر كانت تتلافاه، وخصوصاً بعد وصول بايدن إلى البيت الأبيض.
ثانياً: أتاحت حرب غزة فرصة مناسبة لروسيا لإعادة ترتيب أوراقها في ما يرتبط بحربها مع أوكرانيا، وهذا ما لم تستسغه واشنطن، التي أرادت لموسكو أن تدخل في دوّامة استنزاف معقّدة في الساحة الأوكرانية؛ وبالتالي فإن مزيداً من الوقت من إشاحة الولايات المتحدة وجهها عن كييف، وانغماسها في إدارة الحرب على غزة، سيكون لمصلحة روسيا. وكذلك الأمر بالنسبة إلى إيران التي بات برنامجها النووي بعيداً عن التجاذبات، وبمنأى عن الكوابح الأميركية والأوروبية الرامية إلى إبطاء أو توقيف عجلة البرنامج الطموح والممنهج.
ثالثاً: نجم عن حرب غزة جملة من التأثيرات على الاقتصاد العالمي، وخصوصاً أنها جاءت بالتزامن مع الحرب الدائرة في أوكرانيا، وما تمخّض عنها من أزمات اقتصادية طاولت الأمن الغذائي، وأمن الطاقة العالميين. يساور الخبراء الاقتصاديين مخاوفُ جدية من صدمات اقتصادية عالمية، لم تعد ملامحها خافية، فأسعار النفط والغاز إلى ارتفاع، والتخوف من الركود التضخمي بات أكثر جدية من ذي قبل. بالإضافة إلى النتائج الاقتصادية التي يمكن أن تسفر عن تعرّض الجيش اليمني للسفن التجارية الإسرائيلية، أو المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية. كل ذلك يعقّد المشهد أمام صانع القرار الأميركي، ويجعله يعيد حساباته جيداً، إذ إن الاقتصاد الأميركي لن يكون بمنأى عن هذه الأزمات الاقتصادية إن حصلت.
رابعاً: إضافة إلى عبء العامل الاقتصادي، يواجه بايدن سؤال الشرعية المرتبط باستمرار الحرب، وقتل عشرات الآلاف من المدنيين، وارتكاب المذابح على مرأى ومسمع العالم بأسره. ربما لا تعير الإدارة الأميركية أيّ اهتمام لهذه التساؤلات، إلا أن طرحها من قبل طيف واسع من الجمهور الأميركي، وفي مرحلة قريبة من الانتخابات الرئاسية في واشنطن، قد يجعل لها وزناً وقيمة.
لهذه الأسباب، لا غرابة في تصريحات بايدن الداعية إلى تغيير الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية، وانتقاده القصف العشوائي الإسرائيلي على قطاع غزة، وطلبه من نتنياهو إقصاء المتشدّدين عن عملية اتخاذ القرار. بالتأكيد لم يكن الدافع وراء هذه التصريحات الضمير الإنساني لبايدن، إنما الواقعية التي لم تعد ترى في استمرار الحرب أيّ جدوى، بل مزيداً من الأعباء والتكاليف. وهنا يبرز السؤال: متى سيصغي العقل المتحجّر؟

* باحث في العلاقات الدولية