الفرق بين الأنظمة الديموقراطيّة والأنظمة الديكتاتوريّة هو في درجة العنف التي تمارسها الدولة ضدّ الشعب، وهو فرق وازن بلا شكّ. في الأنظمة الديكتاتوريّة، العنف سافر ويقتل الأجساد ويخنق النفوس، وتسمح تلك الأنظمة للناس بحرّية ضيّقة جدّاً ضمن حياتها الشخصيّة كالطقوس الدينيّة، والحياة الخاصّة العائليّة الضيّقة وغير ذلك، وتمنع معها سلسلة طويلة من الحقوق، كحقّ الكرامة والحرمة الشخصيّة (منع التعذيب مثلاً)، والحقّ في العدالة، وحقوقه السياسيّة، إذ تمنع عن الناس كلّ تدخّل في الشأن العام لا يتوافق مع مصالح الحكّام وأصحاب المصالح الاقتصاديّة المهيمنة والداعمة للحكم. أمّا الأنظمة الديموقراطيّة فأذكى، إذ هي تسمح للناس بحرّيات أوسع وبطرق شتّى في التعبير عنها، إن كان ذلك في الحياة الشخصيّة، أو الحياة العامّة (التظاهر، الانتخاب على مستوى الدولة أو المقاطعات أو المدن والأحياء)، وتسمح للناس بأن يتشكّلوا في جمعيّات حول اهتمامات مشتركة تنتخب ممثّليها، وتكوين نقابات فاعلة، ولكنّها تسعى أيضاً للسيطرة على العقول، وحتّى على الأجساد، لكي يختار الناس خيارات محدّدة حمايةً لنظام الحكم وأصحاب المصالح الاقتصاديّة المهيمنة والداعمة للنظام. كلّما كانت المسؤوليّة في الدول الديموقراطيّة على مستوى أعلى داخل الدولة، قامت المجموعات المُنتخبة بالعمل على تنفيذ مصالح أولئك الماسكين بمفاصل المال والاقتصاد في دولهم، لا أولئك الذين يشكّلون الأكثريّة الشعبيّة. لا تُناقش ولا تصدر القوانين داخل تلك الدول بناءً على تفكير منطقيّ علميّ بارد يبتغي المصالح المشتركة للجماعة الوطنيّة أو الإنسان، وإنّما لحماية مصالح الفئة المتنفّذة أساساً، ونتيجة لضغط مجموعات مختلفة ومنظّمات لها وزن انتخابيّ يُحسب له حساب. ويقبل الممثّلون بسنّ قوانين تخدم مطالب تلك المجموعات من السكّان في مواضيع شتّى (الصحّة، السكن، حرّيات) إن لم تكن تلك تتعارض مع مصالح المتنفّذين، ولكن في حال التعارض فالخيار هو في خطّ المتنفّذين ومخالفة أكثريّة الناس (إلّا، ربّما، إذا كان خطر مخالفة الناس هو تهديد النظام العام).
الذهاب إلى الحرب ضدّ العراق كان يخالف رغبة ملايين المتظاهرين في عدّة دول، وتتابع الحكومة الأميركيّة اليوم دعم المذبحة في غزّة، رغم أنّ أكثريّة المنتخبين يريدون وقفاً دائماً لإطلاق النار. ولا يتوانى الحكّام في الدولة الديموقراطيّة عن سنّ القوانين الأكثر رجعيّة والأكثر ضرباً لحقّ التظاهر والتعبير إن كان ذلك يتعارض مع مصالح البنى الاقتصادية الكبرى في تلك الدول (دول متعدّدة تسعى لسنّ قوانين تمنع نقد دولة إسرائيل بحجّة معاداة الساميّة). ولا يتوانى النافذون عن الإيعاز للشرطة بمحاولة منع تظاهرة أو بالقسوة على المتظاهرين أو بدهم منزل تحت حجّة واهية (زميلتي تعرّضت لمداهمة منزلها فقط لأنّها دهنت باللون الأحمر زجاج متجر، مديرته التنفيذيّة تقدّم أموالاً لكلّ كنديّ يريد أن يذهب ويخدم مع جيش الاحتلال!). إنّ الإرادة الشعبيّة، مصدر السلطات في الفكر الديموقراطيّ، كانت دائماً مصدرَ قلقٍ للحكّام، حتّى إنّ ألكسندر هاملتون أحد المؤسّسين للديموقراطيّة الأميركيّة وصفها بـ«الوحش الكبير» الذي يجب السيطرة عليه وإخضاعه، كما يُخبر نوام تشومسكي. ولإخضاع «الوحش الكبير» الذي تمارسه الدولة الديموقراطيّة، هناك العنف المعنويّ والمادّي:
مادّياً، هناك عنف الدولة ضدّ الأقلّيات المُستَغَلَّة؛ أحكام قضائيّة تسجنهم بشكل غير متناسب (الأحكام ضدّ السود، والمواطنين الأصليين في شمال أميركا)، قمع تظاهر (قمع تظاهرات «احتلوا وول ستريت» مثلاً)، العنف الجسديّ والثقافيّ من خلال محاولات سحق الهويّات الخاصّة (انتزاع أطفال السكّان الأصليّين من أهاليهم ووضعهم في مدارس داخليّة لتغيير ثقافتهم ولغتهم، وتعرّضهم للتعذيب والقتل).
على صعيد القمع المعنويّ، هناك سنّ لقوانين تمنع الناس من حرّية التعبير السياسيّ مثل سنّ قوانين تمنع الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل أو نقدها، وهناك برامج تلويث الدماغ والسيطرة على العقول الذي تمارسه وسائل الإعلام العامة والخاصة؛ فهدف وسائل الإعلام في الدول الديموقراطيّة هو بالطبع كسب المال، ولكنّ مشروعها الاجتماعيّ هو أن تقنع الناس بأنّ المصالح الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة للمتموّلين المتحكّمين بالمجتمع والدولة هي مصالح الشعب (من اللافت للنظر أن يقتنع أكثريّة الأميركيّين، ٥٣٪ منهم، بأنّ من «مصلحته» ألّا تقدّم الدولة طبابة مجانيّة للجميع والإبقاء على نظام تغطية صحّي قائم أساساً على التأمين الصحّي).
الحياة صراع فعليّ، ليس لأنّ الإنسان ذئب الإنسان، وإنّما لأنّ الجشع لا بدّ من أن يأكل روح البعض ويدفعهم إلى استغلال البعض الآخر. ومهما كان شكل النظام القائم، إن كان دينيّاً أو علمانيّاً، قمعيّاً أو ديموقراطيّاً، فإنّ مصالح الأقلّية النافذة ماليّاً (والمحميّة بالقوّة الناعمة والفجّة للسلطة السياسيّة) ستسعى إلى استغلال الأكثريّة. المطلوب فعلاً ليس فقط نظاماً ديموقراطيّاً، وإنّما نظام ديموقراطيّ يمنع الاستغلال ووسائله. هذا بعض من الأمور التي تعيد غزّة إيضاحها من خلال ردّات فعل الغزاة الديموقراطيّين أمام مقاومة السكّان الأصليّين لبلادنا.

* كاتب وأستاذ جامعي