في خطابه الأخير، آثر الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله التذكير بعبارة قد تكون الأكثر «رومانسية» في تاريخ الجمَل العربية المركّبة: «فلسطين سوف تتحرر». هنا تختلف عملية المعالجة المنطقية والعقلية للفكرة عن كل سياقات الواقع القائم حالياً، فهل هي إسقاط خطابي لمرحلة زمنية «موعودة» بفعل العمل أو القداسة؟ أم ربما شحنة إسلامية وطنية من العزيمة لكل جبهات الانخراط؟ أو تكون رفعاً كبيراً للسقف في مواجهة حملة الضغوط الغربية الهائلة القائمة بالدم والنار؟ لكن السؤال الذي ترتعد له نفوس الأمة بمفاهيمها القومية والدينية وحتى الأخلاقيّة: هل كان مجرد قراءة لما هو مُقبل بالواقع؟ «زوال إسرائيل» كان حجر الزاوية في الخطابَين الإسلامي والقومي منذ معركة المالكيّة عام 1948 حتى أنفاق خان يونس في هذه الأيام والساعات العصيبة. مقاومون، سياسيون، مفكرون، قادة، جنرالات، وملوك وأمراء، ضروب النخبة الحاكمة بإنتاجاتها العربية المختلفة بنت وراكمت وحفرت إرثها تحت هذا العنوان، وإن بمقطوعية زمنية انتهت مع نزول أنور السادات في تل أبيب. في زمن ما، الكل بنى على هذا العنوان أحلاماً للناس بيعت سابقاً في نخاسة النفط والفساد والدولار والخيانة. لكن ذلك الرجل ليس من تلك الطينة، لعقود بنى السيّد نصر الله في خطاباته أحلاماً صغيرة في مخيّلة أحبائه، ثم استحالت واقعاً وحقيقةً. «الأمين» هذا كان صوت الناس وما زال لأنه يصدق الوعود ولا يتاجر بالأماني.
تدرّج في بناء أطروحة الجهاد هذه لسنوات، فكان مع المجاهدين في حصد الحريّة بالمتر الواحد والأسير الواحد. من سياقات الجهاد في تسعينيات القرن الماضي، إلى التحرير عام 2000، وصولاً إلى نصر تموز عام 2006، بقي السيّد مع خطاباته على النسق التصاعدي ذاته. فكلما تعاظمت القوة وتراكمت الخبرات، تلاءم خطابه مع الممكن والمتاح لا المستحيل مهما كان أخّاذاً وسالباً لألباب الأمّة. هكذا أتت سوريا عندما قال بأنها لن تسقط، ولم تسقط، رغم أن التآمر كان من داخلنا في لبنان وداخلهم في سوريا ومن اتجاهات البوصلة كافة، ولم تسقط. حتى في وجه «المؤامرات المركّبة» بدا أكثر ثقة من قبل، وتحديداً في اللحظة التي افترض الجميع فيها أن سقوط لبنان، ولاحقاً العراق وإيران، سيتم عبر احتجاجات معيشيّة (أحداث 17 تشرين) امتطتها أجندات أوكار التجسس وأحالتها خنجراً في خاصرة المقاومة. قال يومها «لن يسقط البلد» ولم يسقط.
هكذا عمل السيّد، ولا يزال، على نقل ما أمكن من ملخّصات تجارب المقاومة والمحور، من غرفة القيادة إلى خطاب للناس. على ألّا يضرب الأولُ الثاني، فيكون الكلام خالصاً في السياسة أو غارقاً بالعسكرة. بل هو أمر بين أمرين، تصبح الجماهير فيه مع الوقت جزءاً من العقل الجمعي لبيئة المقاومة، أي أن ينخرط القائد والشعب وما بينهما في بوتقة واحدة من الفهم المشترك والعمل المشترك والتخطيط المشترك، وهذا منبت الأحلام القابلة للتحقيق. بطبيعة الحال، تحافط قيادة الحزب على مسافة عازلة سميكة بين التفاصيل الدقيقة والجمهور والعدوّ كذلك الأمر، لكن المناعة باتت تتظهّر للناس تباعاً. حتى أصبحت مواضيع كقواعد الاشتباك ووحدة الساحات ودقة الصواريخ، موضوع المائدة اليومية للعائلة والأصدقاء.
حزب الله، بأمينه العام، وعبر سنوات من إدارة العلاقة بين الجماهير والواقع، جعل من مجتمع المقاومة واحدة من أكبر عمليات العصف الذهني ربما في التاريخ. الناس لم تعد مجرد جماهير تُخدّر بأحلام لا يمكن تحقيقها لتمرير واقع لا يمكن احتماله، على العكس فهي تشعر بأنها جزء أصيل من العمل والتخطيط والجهاد والنصر، فقط لأن رجلاً اسمه حسن نصر الله، آثر الشفافية في علاج هذا الوباء العظيم. والسؤال هنا، هل راكم كل هذا كي نصل إلى الساعة التي نقتنع فيها بأن زوال إسرائيل هو «هدف» وله وسائل لا «حلم» من دون طائل.
علاقة المجتمع والقيادة هذه، جعلت من السهل النظر بعيون من يعلم. فالجميع يشهد اهتزاز الكيان الإسرائيلي واقترابه من نقطة الذروة، وبعدها حاجز اللاعودة. نعم، بالواقع والرقم والإضبارة والدليل، إسرائيل هذه باتت بفعل المتغيّرات أوهن من صورتها، وأضعف نسخة في تاريخها، وهكذا تكون أوهن من بيت العنكبوت.
«الأمّة الجيش» باتت أمماً مشتّتة وجيشاً ينزف على طوال ساحات الاشتباك. إسرائيل كانت عبر العقود صخرة يفتّتها الماء برويّة وحرص، حتى استحالت أجمة تنتظر من يجهز عليها بضربة ساحقة. «المجتمع المُعسكر الصلب» بات بفعل ارتباطه العضوي بالغرب أرض نزال لعقائد وأفكار السنوات الخمس الأخيرة، أولوية الناس هناك أصبحت لصراعات الهوية الجنسية في مقابل صهاينة التديّن الرافض حتى للعمل أو القتال مع الجيش. وهي كذلك في المخيّلة الغربية، وعلى منوال الصراع ذاته أضحت بمفهوم اليسار الغربي، إذا أمكن تسميته بذلك، آخر مشروع استعماري غربي قائم وفعّال في العالم.
لقد غزت التناقضات قلب «الحلم الصهيوني»، فلم يعد يهود تل أبيب اليوم يهود الهاغانا ذاتهم، كما لم تعد حدود الكيان اليوم كحدوده زمن ملوك ورؤساء التطبيع. بانقسامه العمودي على المستوى الداخلي بشعارات تضرب «وطنية» الكيان من جذورها، مع مئات آلاف الفلسطينيين في الداخل «المتربّصين» لساعة استرداد الحق في الداخل، هذا كيان لا يبشّر بالحياة. ومن الخارج حدود صنعت بالشهادة، وشرق أوسط يعاد إنتاجه بسواعد من اليمن إلى أربيل، حدود ومحيط يختلف عمّا عهده كيان الاحتلال. وهكذا تصبح صورة وعد التحرير أكثر وضوحاً. هذا الغرب هندس المنطقة ليجثم القرش على صدرها في فلسطين، لكن المسألة اليوم أن هناك من عمل ويعمل لتمكين العالم كله من رؤية الواقع واستشراف المستقبل. الأرض هذه لأهلها وهم من يهندس الدار اليوم وفي الغد انكشاف لخديعة كبرى مفادها القرش مجرّد «هيكل من ورق».

* صحافي