إنّ الإنجيل واضح بشكل لا لبس فيه بأنّ هويّة الإنسان المسيحيّ تكمن في محبّة يسوع، وبالتالي في اتّباع تعاليمه، وأن تلك تفترض حكماً أن يقف الإنسان إلى جانب المظلومين بحيث إنّه يساهم في رفع الظلم عنهم بشكل فاعل. فيسوع لم يطلب من الذين يتبعونه أخلاقيات سلبيّة، إنما أخلاقيّات إيجابيّة فاعلة قائمة على التزام جانب المظلوم والعمل الفاعل لرفع الظلم عنهم. لن يجد المسيحيّون وجه الحبيب في وجوه الظالمين وإنما في وجوه المظلومين.ولهذا، فإنّ موقف الحياد لا يتوافق مطلقاً مع وصايا يسوع المسيح، ولا يوجد في الإنجيل مثال عن موقف محايد تجاه الظلم إلا ذاك الذي كان لبيلاطس، الحاكم الروماني الذي وافق على صلب يسوع، مع علمه بأنه مظلوم، وغسل يديه من عمليّة القتل كأنّه غير مسؤول. موقف الحياد موقف بيلاطسيّ، هو موقف المتفرج الذي يغسل يديه من عمليّة صلبِ يسوع المسيح الذي يتجسّد اليوم في مصلوبيّة الفلسطينيين في فلسطين المحتلة، كما في كلّ مصلوبيّة.
إنّ القضيّة الفلسطينيّة قضية ظلم لا لُبسَ فيه، ويمكن لمن أحبّ يسوع وحفظ كلامه أن يرى في الأبرياء وجوعهم وعطشهم وسجنهم وتعذيبهم وتغريبهم، يسوعَ يجوع ويعطش ويُسجن ويُعَذّب. لذلك يحزّ في النفس أنّه في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، لا نجد لدى العاملين في الجمعيّات وحركات الشباب التي تتّخذ من المسيحيّة هويّة لها اهتماماً فاعلاً من أجل نصرة الفلسطينيّين يتجاوز الخطاب الرسميّ الخجول، إن وُجِدَ.
من المفهوم أن يشعر الإنسان المسيحيّ خارج فلسطين، وداخلها ربّما، بأنّه لا يستطيع المساهمة في المقاومة العنفيّة لأسباب تتعلّق بإيمانه أو بخياراته الشخصيّة. ولكنّ هذا لا يمكنه أن يعني التنصّل من المقاومة للظلم الصهيونيّ بشكل كامل، والاكتفاء بأن يعيش الإنسان المسيحيّ على قارعة التاريخ، وأن يستعطي الوجود، أو أن يتلقّفه كما هو دون فِعل، لأنّ ذلك خيانة للإيمان كونه اكتفاءً بعدم الأذى، وتهرّباً من ممارسة الأخلاق الإيجابيّة الفاعلة والمسؤولة عن الحياة التي وهبها لنا الله. الله ينتظر من المسيحيّين المساهمة في العمل معه، إذ «نحن عاملون مع الله»، وأن يتابعوا معه عمليّة الخلق، بحسب الإيمان المسيحيّ بأنّ الله بعد الخلق من العدم ما يزال يتابع عجن هذه الدنيا وخبزها («أبي إلى الآن يعمل») لتصير مكان محبّة وحرّية، أي مكان حياة وليس مجرّد مكان عيش.
هناك طريق مفتوح أمام كلّ مسيحيّ، وكلّ إنسان، للمساهمة في مقاومة إرهاب الدولة الصهيونيّة بطريقة لاعنفيّة وبسيطة، ألا وهي المقاطعة. وظنّي أنّ المسيح ينتظر من الذين يلتزمون وصاياه فعلاً، لا شكلاً، أن يكونوا رياديّين في مجال المقاطعة لأنّه مجال يجمع بين العمل لرفع الظلم والامتناع عن ممارسة العنف، وهذا منسجم تمام الانسجام مع الإنجيل. لذلك، ينتظر الإنسان أن ينشط العاملون في المنظّمات الشبابيّة الكنسيّة في إيضاح حقيقة الصهيونيّة وخطرها على جميع أهل المنطقة وليس الفلسطينيّين فقط، وعلى الشرّ الذي ترتكبه منذ إنشاء الكيان الصهيونيّ كدولة استعمار إخلائيّ تسعى إلى أن تخلي الأرض من سكّانها لتستولي عليها، ودولة اضطهاد وفصل عنصريّ تمعن في التدمير والتنكيل بشعوب المنطقة. ينتظر الإنسان أن ينشط المسيحيّون في التشديد على المسؤوليّة الإيمانيّة لمواجهة كلّ هذا الظلم، وعلى أنّ هناك وسيلة لمواجهته مع كلّ المواطنات والمواطنين بطريقة متناسبة مع الإنجيل، ألا وهي المقاطعة.
إن المسؤوليّة الإيمانيّة للمسيحيّين تقتضي على الأقلّ أن يساهموا بشكل فاعل مع غيرهم من المواطنين، من كلّ المشارب والعقائد، بإنشاء لجان مقاطعة شعبيّة فاعلة في كلّ مدينة وقرية تنسّق مع حملة مقاطعة إسرائيل في بلدهم. هذا إن حدث يكون شهادةً مسيحيّة حقيقيّة ملموسة منسجمة مع الأخلاق الإيجابيّة الفاعلة التي دعا إليها يسوع، ومسؤوليّة إكمال عمل الله في الخليقة، شهادة تعمّد هذه الأرض بالمحبّة الفاعلة من أجل دحر تهديد وجوديّ للحياة يعيشه جميع أهل هذه المنطقة وتحقيق عدالة وسلام. هذا إن حدث يكون بشارة في هذا العالم، في هذا الزمن، وفي هذه المنطقة.

* كاتب وأستاذ جامعي