ليست الإجراءات الاحترازية التي اعتمدتها محكمة العدل الدوليّة في 26 كانون الثاني الماضي عبارة عن عدالة دوليّة منقوصة. لقد اعتبر البعض عن حُسن نيّة أنها مخيّبة للآمال. أما الطرف السياسي المُتّهم والمعنيّ المُباشر، أي الكيان الإسرائيلي، فقد حاول إفسادها بخُبث وعن سابق تصوّر وتصميم، بمؤازرة من داعميه وأدواتهم الإعلامية، من أجل الانتقاص من قوّتها وأثرها العميق. إنّ مُقرّرات محكمة العدل الدوليّة هي في الواقع زلزالٌ قضائيٌّ وسياسيٌّ.
لا بُدّ من التذكير أوّلاً بأنّ الكيان الإسرائيلي هو عضو الأمم المتحدة الوحيد الذي أُنشئ بقرار من المنظّمة الأمميّة. أَذِنَ هذا الكيان لِنفسِهِ، وبحماية من داعميه، التموضُعَ في وضعية استثنائية سَمَحت له اعتبار نفسه خارجاً على القانون بالمبدأ، وخارج القوانين الدولية، مُتفلّتاً من واجبات الالتزام بالقانون العام، ومُعتبراً أنّ العالم مدين له بحقوق فحسب.
يُمكن اعتبار مُقرّرات محكمة العدل الدولية بِمنزلة قطيعة فاصلة مع هذه الحالة الشاذّة من حالات الإفلات من العقاب. إنّها في الواقع نصرٌ قضائيٌّ وسياسيٌّ لا لُبس فيه لجنوب أفريقيا.
تَجسّدَ الانتصار أولاً عندما اعْتَبَرَ قرار المحكمة أنّ تنسيق الأعمال والأفعال العسكرية الإسرائيلية وربطها بالنوايا المُعلَنة تجاه الفلسطينيّين في غزة، والتي عبَّر عنها أرفع المسؤولين القياديين في الكيان، من شأن ذلك أن يندرج تحت سقف المجال التطبيقيّ المنصوص عليه في المادة الثانية من المعاهدة الخاصة بمنع الإبادة الجماعية ومعاقبتها. تُحدّد المادة الثانية تلك ما يُمكن اعتباره أفعالاً إباديّة. يشكّل القرار في هذا السياق انقلاباً تاريخياً.
فلنبحث أولاً، من زاوية القانون، وعبر بعض الأمثلة منطقَ نظام الإثبات الذي اعتمدته المحكمة.
عندما تسأل مثلاً عن معقوليّة وقوع الفلسطينيّين في غزة ضحايا إبادة جماعية، قامت المحكمة، في الفقرة الـ46 من القرار بوصف كامل العمليّة العسكرية الإسرائيليّة استناداً إلى «العدد الكبير جداً من القتلى والجرحى»، و«التدمير الهائل الذي طاول المساكن» و«التهجير القسري للأكثرية الساحقة من السكان»، كما تكلّمت عن «الأضرار الضخمة التي أصابت البُنى التحتية المدنية».
أما في الفقرة الـ51 والفقرات التي تلتها، فاستندت إلى تصريحات رئيس الكيان، هرزوغ، ووزير الدفاع، غالانت...
تستنتج المحكمة استنباطاً عبر تنسيق العلاقة وربطها بين هذه العناصر جميعها، أولاً بأول، (الفقرة الـ54 من قرارها) أنّ ما هو مطروح هو فعلاً وواقعاً «حقّ الفلسطينيين في غزة في الحماية من خطر الإبادة الجماعية»، وأنه يوجب بالتالي على المحكمة اعتماد إجراءات مؤقّتة.
عندما نربط تلك العناصر المذكورة آنفاً بالمقرّرات التي اعتُمدَت بحقّ إسرائيل، يتأكّد لنا بوضوح أنّ محكمة العدل الدولية تُلزم الكيان باتّخاذ جميع الإجراءات الوقائية الاحترازية الهادفة، أولاً بأول، إلى منع مُجمل الأفعال الواقعة تحت طائلة المادة الثانية من معاهدة الإبادة الجماعية، وتالياً معاقبتها.
كلمة الأفعال تعني تحديداً في هذه الحالة عمليّات قتل الفلسطينيّين في غزة.
في هذا السياق، يمكن اعتبار أنّ وزارة العدل في دولة جنوب أفريقيا كانت ذات حقّ كامل عندما استنتجت أنه، «بعد الإعلان عن مُقرّرات المحكمة، الاحتمال الوحيد المُتبقّي لإسرائيل هو احترام هذه المُقرّرات وإنهاء جميع عملياتها العسكرية».
من الجدير المُلاحظة أيضاً أنّ المحكمة تكلّمت عن الفلسطينيين وليس عن المُنظّمات الفلسطينية، ما يُشكّل صفعةً أخرى للائحة الحُجج التي تقدّم بها فريق الدفاع الإسرائيلي، الذي ردّت المحكمة طلباته.
كما تجدر الإشارة إلى أنّ قبول شكوى جنوب أفريقيا تحت البند الثاني يُشكّل بحدّ ذاته إقراراً بشرعية المقاومة لفعل الإبادة الجماعية.
على أنّ لِقُبول الشكوى تحت البند الثاني نتائج إضافية. إنها ترفع كلياً أدنى الشكوك أمام الدول المنضوية تحت معاهدة الإبادة الجماعية تجاه ما يترتّب عليها من واجبِ القيام بكل ما في وسع سلطتها من أجل اتّقاء وقوع الأفعال الجرمية، ومنع وقوع فعل الإبادة الجماعية تحديداً.
في هذا السياق يُمكن تقدير مُجمل المواقف التي طالبت بِحَزْمٍ باحترام دقيق لقرار المحكمة تقديراً إيجابياً، يضاف إليه مطالبتها باعتماد تحرّك في مجلس الأمن الدولي لفرضِ التنفيذ. ينطوي هذا التقييم أيضاً على مواقف بعض حلفاء «إسرائيل» التقليديّين، كاليابان وسويسرا أو بلجيكا. نذكر أنّ الجزائر استجابت للطلب بتقديمها مشروع قرار إلى المجلس.
إضافة إلى ذلك، ومن هذه المُنطلقات، لا تقدّم المحكمة ضمانةً وكفالة دعم وحماية قانونية لجميع الذين يساندون مقاومة الفلسطينيّين في غزة فحسب، بل تُضفي شرعية دولية على المُبادرات التي سيَقُوم بها هؤلاء، من أجل استجواب حكوماتهم ومُساءلتها عن أفعالها وواجباتها.
ما نشهده هنا هو عملية إِعادة رَسْمٍ للإطار القانوني الذي سيسهم في إعادة طرح المُشكلة الإسرائيلية في صميم المنظومة السياسية التي تُقدّم دعماً شبه سرمدي «لإسرائيل»، وبالتحديد في أوروبا والولايات المتّحدة.
لم يعد اعتماد إجراءات وقائية تَمنع أي فعل إبادة جماعية وتمنع «إسرائيل» من القيام بإبادة جماعية واجباً سياسيّاً وأخلاقيّاً فحسب، بل أصبح واجباً قانونياً. كما من شأن إجراءات محكمة العدل المُساعدة على لجم وحتى نزع أيّ شرعية عن عمليات الابتزاز شبه الطَّقْسِية التي استقرّت بصورة خاصة في المجال الأوروبي – الأطلسي، وهي عمليات يواجهها ويتعرّض لها جميع الذين يرفضون الطقوس الأيديولوجية التي تسعى إلى إملاء رواية أُحادية مزوّرة لقضية فلسطين.
غير أننا لسنا بالطبع أمام حالة طوباوية ترسم نوعاً من يوتوبيا القانون والعدالة.
إن أحدى أهم الآليات الأساسية التي تسمح، في مجال القانون الدولي، بتحويل المُقررات والقواعد إلى واقع فعلي وملموس يجري تطبيقه على الأرض، هي ما تقوم به الشعوب ولعبة «موازين القوة».
لقد أتاحت مُقرّرات محكمة العدل الدولية فرصة هائلة أمام شعوب العالم والحركات الواسعة التي عبّرت عن مواقفها بصورة خاصة في أوروبا والولايات المتحدة، أي في فضاء الدعم البنيوي الأعظم لآخر مكوّن كولونيالي قيد الوجود.
في هذا السياق، أضَافت المُقررات بُعداً قانونياً إلى الأبعاد السياسية والأخلاقية والثقافية.
على أن لا مكان هنا أيضاً للسذاجة، وبالتأكيد لا مكان لتقديس مُغتبِط وساذج بدوره للقانون. العدالة هي صراع، والقانون ليس بالضرورة العدالة.
أن تكون دولة جنوب أفريقيا قد اضطلعت بمسؤولية رفع الشكوى أمام أعلى مؤسسة قضائية أُمميّة، مؤسسة نُذكّر أنها سياسية بامتياز، كونها مُنبثقة عن الدول بصفتها الكيانات المُؤسِسة لمنظمة الأمم المتحدة، لذلك رمزية بالغة الدلالات.
هل من الضروري إعادة التذكير بأن انهيار نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا لم يتم بنعمة قرار قضائي بسيط؟
نظام الاضطهاد هذا، الذي ظهر في القرن العشرين، سَقطَ بفضل أفعال الشعوب، تُضاف إليها القرارات التي اعتمدتها الهيئات القضائية الأممية ومعها حركة مقاطعة دولية واسعة النطاق، بالإضافة إلى سلسلة من الهزائم العسكرية التي مُنيَ بها جيش نظام التمييز العنصري الجنوب أفريقي في عدد من ساحات المُواجهة في القارة الأفريقية في سياق نضال حركات التحرر الوطني وداعميها الدوليين.
كيف بالأحرى ألّا تتطابق الأمور أمام حالة من الاستعمار الاستيطاني «الاستبدالي» الإلغائي؟ وهي حالة تحمل الإبادة الجماعية جينيّاً في طياتها؟
إن ردود فعل «إسرائيل» على مُقررات المحكمة لا تُبشّرُ بالخير. فلنضع جانباً الابتزازات العاطفية والشتائم والقدح والذّم التي أصبحت مُبتذلة، وبصورة خاصة تلك التي تطاول الأمم المُتحدة ومؤسساتها وأمينها العام.
إنّ الفعل الأخطر الذي حصل منذ السادس والعشرين من كانون الثاني هو العدوان المُتعمّد الذي طاول ويطاول وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، أي الآلية الأخيرة التي تسمح الآن باستمرار الحياة في غزة، والتي تعرّضت لحجب مشبوه للمُساهمات المالية النظامية من قبل بعض الدول ذات التوجُّهات الجليّة، الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، أستراليا، كندا، إيطاليا...
كان لمقرّرة الأمم المُتّحدة الخاصة المعنية بالأراضي الفلسطينية المحتلّة، فرنشيسكا ألبانيزِي موقف شديد الوضوح: «قرارات التجميد هذه تخرق قرار محكمة العدل الدولية، ومن شأنها أن تنتهك المعاهدة الخاصة بجريمة الإبادة الجماعية تحديداً (...) لقد أمَرَت محكمة العدل الدولية بالسماح بمساعدة إنسانية فعّالة وناجِعَة لأهل غزّة (...) إن قرار التجميد هذا يعني تمرّداً وعصياناً على أوامر محكمة العدل. وستكون لهذا التمرد مترتّبات ومسؤوليات قانونية».
تَتَوضّح من هذا المنظار تحديات وأُفق الإجراءات التحفُّظية التي اعتمدتها المحكمة وأهميتها البالغة. إنها تطاول حياة شعب بأكمله، الشعب الفلسطيني، كما تطرح المصير الوجودي لنظام العدالة الدولية ومُستقبله.

* رودولف القارح (بروفيسور جامعي، عالم اجتماع وسياسة)
* يان فرمون (محامٍ، الأمين العام للرابطة الدولية للحقوقيين الديموقراطيين)
* حسن جوني (أستاذ القانون الدولي، خبير لدى المُؤسسات الدولية، عضو مكتب الرابطة الدولية)