لا تستقيم الدعوة إلى محبّة الحياة من دون الدعوة إلى الحرّية من الظلم ومن الاستغلال. العيش الجسديّ المحض هو شيء والحياة شيء آخر. إن أردنا اختصار دعوات الأنبياء لقلنا إنّه، مع احترام الأنبياء لحياة الإنسان الجسديّة، وللتوالد واستمرار النوع البشريّ، فهم لم يدعوا إلى مجرّد الاستمرار في العيش، بل إلى إعطاء العيش معنى، وبالنسبة إلى الأديان الإبراهيميّة، المعنى يكون بمعرفة الله واتّباع وصاياه. وإن أردنا أن نقول هذا القول نفسه بكلمات لا دينيّة لقلنا إنّ الأنبياء ذكّروا الإنسان بطبيعته البشريّة (التي خلقه عليها الله) والتي تنتعش وتحيا باتّباع ما هي مطبوعة عليه من ميول تكشفها المعاصرة مثل الإيثار والتعاطف والكرم والتعاون (يمكن قراءة جبل من الأدلّة العلميّة الدامغة في كتاب «الطيبة الإنسانيّة» لاختصاصي علم النفس الإيجابيّ جاك لوكومنت). الأنبياء قالوا إنّ الحياة هي عيش له معنى يمكن اختصاره بكلمة «محبّة»، فَهُم ذكّروا البشر بميلهم الطبيعيّ الذي يولدون عليه لمحبّة الناس، وإن اتّباعهم لهذا الميل وإنماءه في ذواتهم يجعلهم في قلب الحياة ويجعل الحياة في قلوبهم. وما الوصايا إلّا تذكير بالمعنى المرسوم أصلاً في الطبيعة البشريّة.
لكن محبّة الآخرين ليست مجرّد عاطفة، بل هي ممارسة. مَن يحبّ الآخرين يسعى مع غيره إلى المساهمة في منح الناس أفضل الظروف كي تنموا قدرتهم جسديّاً ونفسيّاً (وروحيّاً عند مَن آمنوا)، وبالتالي هو في موقع مواجهة لا بدّ منها لأيّ مشروع بطش أو مشروع استغلال، داخليّاً وخارجيّاً، لأنّ مثل هذه المشاريع تسعى إلى تقييد القدرات الجسديّة (مثلاً، بسبب الجوع الناتج من الاستغلال والإفقار) وتلك النفسيّة (مثلاً، بسبب القمع والتجويع)، مثل هذه المشاريع تسعى إلى إخضاع الإنسان نفسيّاً وجسديّاً، وتحويله من هدف بحدّ ذاته إلى وسيلة لسلطة تحاول استعماله من أجل مصالحها. لا يمكن للإنسان الذي يحبّ الحياة أن يكون لا مباليّاً بمصير آخرين، أن يكون محايداً تجاه سلطة بطش أو استغلال.
هذا الموقف المواجِه للظلم، والنابع من محبّة الحياة، ينطبق أكثر ما ينطبق على الموقف من الاستعمار. فالاستعمار هو مشروع ظلم يقوم على استغلال أرض الآخرين وأجسادهم، ويمرّ حكماً بضرب نفوسهم وإخضاعها وتطويعها بصنوف الإرهاب، وهو في أكثر الأحوال إرهاب دولة تجعل من البطش بالمستعمَرين أمراً قانونيّاً له قضاته ومنظّروه من أساتذة ومثقّفين، ومؤسّسات متحالفة كالجامعات.
مَن يحبّ الحياة، وليس مجرّد الاستمرار في العيش، يريد أن يسير الناس إلى ملء الكرامة البشريّة


مَن يحبّ الحياة، مَن يحبّ معنى العيش، يحبّ البشر، ويدافع عنهم تجاه أنظمة البطش والاستغلال التي تسحقهم. مَن يحبّ الحياة، وليس مجرّد الاستمرار في العيش، يريد أن يسير الناس إلى ملء الكرامة البشريّة، أي إلى تحقيق قدرتهم على المحبّة بنموّهم الجسديّ والنفسيّ، إلى تحرّرهم من الظلم. من يحبّ الحياة يحبّ الآخرين ويدافع عنهم. مَن يدافع عن الآخرين كان في الحياة وكانت الحياة فيه، أمّا مَن لا يأبه بحياة الآخرين، فهو لا يحبّ الحياة حقّاً، بل يفضّل العيش المحض، ولذلك يبقى في شعارات عاطفيّة، وكلامٍ أجوف عن رفضٍ للظلم لا يترافق مع خطوات عمليّة ملموسة.
إنّ جواب الإيمان على قول شكسبير «أن تكون أو لا تكون هذا هو السؤال» هو «أن تحبّ أو لا تحبّ هذا هو الجواب»، هذا هو المعنى، هذه هي الحياة. أمّا جواب الهاربين من الحياة (ومن مسؤوليّة الإيمان بالله، رجال دين وعلمانيّين)، فَلِسانُ حالهم «ما مِن معنى سوى أن نأكل ونشرب»؛ ونجده الجواب على مثل هذا الفكر في كلمات رجلٍ مرّ في فلسطين منذ ألفي عام ونيّف: «الحياة أفضل من الطعام... اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه»، اطلبوا أوّلاً الحياة، اطلبوا أوّلاً المحبّة - المحبّة كممارسة فاعلة لمنح الناس أفضل الظروف كي ينموا بكرامة - فهي المعنى. وهي كلمات رجلٍ طلب المعنى ولم يتوانَ من أجل ذلك أن يموت شهيداً.

* كاتب وأستاذ جامعي