لقد سجّلت حركة «حماس» صموداً أُسطورياً، ومن أمامها ومن ورائها الشعب الفلسطيني البطل فى غزة. فما هي الإستراتيجية التي اتّبعتها لتواجه، رغم فقرها المادي، أعتى كيان مدجّج، لا تلوى على شيء، انطلاقاً من إيمانها العقائدي العميق بعدالة قضيتها، قضية فلسطين العتيدة.كما رأينا دراسات عدة في إستراتيجية الحرب لدى البعض من الكُتاب والمفكرين، مثل ليدل هارت وأندريه بوفر، كذلك نحاول اليوم، وإن كان مذهبنا أقرب إلى الاستلهام لدروس حرب حركة التحرر الوطني في شرق آسيا، وخاصة الصين وفييتنام في الثلثين الأولين من القرن العشرين. لذا ترانا نميل إلى بحث الإستراتيجية لدى ماو تسي تونغ (الصين) وهو شي منه (فييتنام) انطلاقاً من مدخل «حرب العصابات» بالذات. ولئن استفادت «حماس» من إستراتيجية حروب العصابات الصينية-الفييتنامية، والآسيوية عموماً، وتكتيكاتها، إلا أنها في حرب غزة الأخيرة (حرب السابع من أكتوبر 2023) قدّمت مساهمة جدية جديدة في علم إستراتيجية وتطبيق الحرب بين طرفين، أحدهما غير متكافىء القوة مطلقاً مع الآخر.
في ما يلي لمحة موجزة عن أهم مرتكزات إستراتيجية المقاومة الفلسطينية («الحمساوية» إن شئت) في «الحرب غير المتكافئة»:
1- الانتقال من إستراتيجية «الحرب الكبيرة» وتكتيكاتها إلى «الحرب الصغيرة». إنها حرب صغيرة بميزان مساحة المواجهة (تبلغ مساحة قطاع غزة نحو 365 كم مربع)، وضيق مساحات المواجهات بين الطرفين، حيث تتم غالباً في المناطق المبنيّة بما تحويه من شوارع وحارات ضيقة ومساكن متلاصقة (كما هو الحال في مدينة خان يونس وفي مخيم جباليا...).
2- من الحرب العلوية إلى الحرب السطحية والسفلية: تمارس المقاومة الفلسطينية حربها (الصغيرة) في مساحاتها الضيقة ضد العدو وجهاً لوجه («المسافة صفر») عبر التلاحم العضوي المباشر. وهذه نقطة قوتها الساحقة في مواجهة نقطة الضعف القاتلة لجيش الكيان الصهيوني، الذي يفرّ أفراده من معارك التلاحم ويهربون إلى الجو (الطيران) وإلى السطوح المستوية وغير المستوية (المدفعية الثقيلة).
3- عودة إلى تكتيك «اضرب واهرب»: التكيتك الذي اتّبعه المقاومون في الصين والهند الصينية، ولكن هُجر مع تغيّر الظروف، تجيء المقاومة الفلسطينية لتعيد سيرته، حين تقفز على حين غرة وتضرب ضربتها المميتة، ثم سرعان ما تلوذ بمكامنها المجربة، التي لا تكاد تبين.
4- العمل على «إعادة تعريف» الحلفاء وتوسيع جبهة المواجهة: من جنوب لبنان وشمال فلسطين (حيث حزب الله) إلى جنوب اليمن ومضيق باب المندب والمدخل الجنوبي للبحر الأحمر ومضيق هرمز، ثم إلى العراق (من أربيل إلى الجنوب)، ودعْ عنك إيران. تتسع رقعة المواجهة إذاً لتضيّق الخناق على الداعم الأكبر للجيش الصهيوني وكيانه «الهزيل» حتى لا تترك له منفذاً للهروب حين تجدّ لحظة الجدّ، وهي غير بعيدة على كل حال.
5- «خطوة إلى الأمام، خطوتان إلى الخلف»: حيث تتم إعادة إحياء هذا التكتيك اللينيني العتيد، فتتقدم المقاومة خطوة، ولا مانع لديها أن تتراجع خطوتين، لتعود إلى التقدم مرة أخرى، وهكذا دواليك ومن دون هوادة. ومن مزدوجة التقدم والتراجع تكتسب المقاومة قوة دفع لا تلوى على شيء، ولا يعيقها شيء.
وفي الختام، ليس ما قلناه هنا بمنزلة مقدمة لدرس في الأخلاق أو «الميتافيزيقا» الأرسطية مثلاً، ولكنّه فعل «تطبيقي»، من أعمال المقاومة الوطنية، التي لا تكلّ ولا تملّ حتى تحقق هدفها الوطني-الاجتماعي العظيم، الذي طال انتظار سطوع شمسه منذ زمان.

* أستاذ العلاقات الاقتصادية الدولية في معهد التخطيط القومي بالقاهرة