تحولت واشنطن إلى قوة عدوانية أولى كبرى في العالم
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية التي أرادتها واشنطن نهاية لحرب «ساخنة»، وبداية لحروب «باردة» ومتنوعة مفتوحة، حرصت على أن تكون القوة الأعظم في العالم، إذا لم تكن القوة العظمى الوحيدة. دفعت أقل التكاليف في الحرب العالمية الثانية، وحصدت أكبر الأثمان. دشنت مسار جبروتها ومشروع هيمنتها الإمبريالية الكونية بـ«عصا» قنبلتي ناكازاكي وهيروشيما في اليابان المستسلمة، وبـ«جزرة» مشروع مارشال في ألمانيا وأوروبا. نال الشرق الأوسط حصة كبيرة من اهتمام واشنطن. من مشروع آيزنهاور في خمسينيات القرن الماضي، إلى «صفقة القرن»، آخرة مشاريع «الشرق الأوسط الكبير» الترامبي، ترعى واشنطن وتبرر وتغذي كل مغامرات إسرائيل العسكرية، بوصفها رأس حربة لمشروع الهيمنة الأميركية في المنطقة ذات الثروات الهائلة والموقع الجيو-إستراتيجي المهم بين قارات العالم القديم.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي، تخطّت واشنطن عقدها في فيتنام، وانطلقت إلى احتلال أفغانستان والعراق ضمن عقيدة «الحروب الاستباقية»، وبواسطة «قوة أميركا غير القابلة للتحدي»، والموضوعة في خدمة مصالحها كقوة استعمارية إمبريالية، تحاول أيضاً، وبواسطة العنف والأساطيل والقواعد العسكرية والديكتاتوريات العميلة والانقلابات العسكرية والثورات الملونة، فرض «نمط الحياة الأميركي» على العالم. وهي بذلك استأنفت تاريخاً تأسيسياً قام على إبادة السكان الأصليين في الولايات المتحدة نفسها. بهذا المعنى، فتل أبيب هي تلميذ نجيب لواشنطن، وقبلها للندن، كمشروع استيطاني احتلالي عدواني يشمل فلسطين وكل «إسرائيل الكبرى» «من الفرات إلى النيل». ولم يتردّد نتنياهو، في مجرى تبايناته مع الأميركيين، بتذكيرهم بما فعلوه مع الهنود الحمر في بلدهم، وباستخدامهم للقنبلة الذرية ضد مدن يابانية، للمرة الأولى في التاريخ.
وفقاً لما تقدم وسواه، تحولت واشنطن إلى قوة عدوانية أولى كبرى في العالم: حاضرة في كل أزماته (تصنعها أو تغذيها أو تستغلها)، وخصوصاً في الشرق الأوسط، وفي فلسطين. هذا الاستنتاج سيكتسب أهمية كبرى عندما تجري ترجمته في مشاريع وخطط تحررية تجتمع فيها عدّة عناوين أساسية: تحرير الأرض، حق الشعوب في تقرير مصيرها، الدفاع عن السيادة الوطنية، تحرير الثروات الوطنية، إزالة أدوات السيطرة العسكرية والأمنية الأجنبية، من قواعد وأساطيل وعلاقات ومعاهدات تنتقص من السيادة والحقوق والحريات... تتصل بذلك مواجهة السلطات والأنظمة التابعة لواشنطن، والتي تشكل مرتكزات نفوذها وهيمنتها، وأيضاً إدارة نشاط سياسي وإعلامي شامل ضد مزاعم واشنطن في ما يتعلق بحقوق الإنسان والمساواة والديموقراطية، والتي وقعت في شركها قوى يسارية نظّرت لدور إيجابي لدول المتروبول الاستعمارية في إسقاط بعض الديكتاتوريات كما حصل في العراق. إنّ النظام الرأسمالي الأميركي الذي بلغ «أعلى مراحله»، يرتدّ، أمام جدية المنافسة من قبل تشكيلات حديثة، نحو صيغ وممارسات عنصرية وعنفية انكفائية، على غرار ظاهرة الترامبية ومثيلاتها في بعض الرأسماليات الأوروبية العريقة.
في لبنان، تتمتع واشنطن بنفوذ كبير ومهيمن: على مستوى السلطة، وفي الحقول الاقتصادية والمالية والعسكرية والأمنية والسياسية، ما يجعل سلطات هذا البلد، رغم أزماته القاتلة، عاجزة عن التحرك سنتيمتراً واحداً خارج الهيمنة الأميركية. ذلك يتطلّب صياغة برامج تنطلق من هذا الواقع. وهي برامج ستستند، بالضرورة، إلى قاعدتها الاجتماعية اللبنانية الطبيعية، وتكون جزءاً من تيار تحرّري واسع على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
* كاتب وسياسي لبناني