الحرب ليست استثناءً في التاريخ اللبناني. حدثت وتكرّرت حروب بين اللبنانيين: قبل أكثر من قرن، وخلاله، وهي قابلة للتكرار على نحو أشدّ عنفاً وأكثر خطراً. وقائع متوترة، على امتداد الأشهر الأخيرة، أطلقت إنذارات مقلقة لا ينبغي أبداً التقليل من احتمالات تفاقمها نحو الأسوأ. المحصلات بعد حرب الـ 15 سنة الأخيرة، التي اكتفينا في التعامل معها بشعار «تنذكر ما تنعاد»، أو بوصفها بـ«العبثية»، أو بالتبرؤ منها، كشفت قصوراً متمادياً، ليس فقط حيال معالجة نتائج وتداعيات تلك الحرب، بل، أصلاً، في الوقوف على أسبابها الحقيقية.في الخلل الذي يعاني منه اللبنانيون، ما يتعدّى أخطاء أو فئويات الأفراد أو حتى الجماعات. إنه خلل في البنية نفسها. وهو تكرّس وترسّخ، ونجمت عنه وقائع صلبة ومصالح دائمة وشرعيات مفروضة، يتناقض قيامها واستمرارها مع المصالح العامة للبنان الوطن والشعب. إنّ تكرار الأزمات على امتداد السنين والعقود (أو حتى القرون)، يفترض ويفرض الذهاب إلى جذور تلك الأزمات، أي إلى الخلل القائم في بنية منظومة السلطة والحكم والعلاقات التي أصرّت عليها، ولا تزال، نخب سياسية وفكرية واقتصادية ودينية منذ نظام القائمقاميّتين والمتصرفية حتى اليوم. عُرفت هذه بـ«الصيغة اللبنانية» التي تمثّل قوتها الفعلية الشرائح العليا من البورجوازية اللبنانية القديمة والجديدة المتداخلة مع الإرث الإقطاعي الذي ما يزال بعضه فاعلاً حتى اليوم. زرعُ الكيان الصهيوني في فلسطين، بعد سنوات قليلة من الاستقلال و«الجلاء»، أكسب «الصيغة اللبنانية» التي فرضها الانتداب الفرنسي، زخماً إضافياً بوصفها جزءاً من خطة تفتيت المنطقة وبلدانها التي انطلقت من «سايكس - بيكو».
الخلل القديم الجديد المتمادي، هو في إضفاء طابع سياسي اجتماعي شامل على الانتماء الروحي للجماعات اللبنانية، طوائف ومذاهب، ومن ثم إقحام ذلك في صلب الحياة السياسية والاجتماعية اللبنانية: تمثيلاً، وسياسة، وإدارة، وتنشئة، وأمناً، وعلاقات داخلية وخارجية... وفق نظام «الكوتا» الذي تبلور إلى منظومة المحاصصة المسيطرة والمتفشية، بشكل متصاعد، في كل الحقول. قاد ذلك إلى نشوء دويلات في كونفدرالية طوائفية ذات مرجعيات خارجية، ما أدى، في السنوات الخمس الأخيرة، خصوصاً، إلى انهيار وإفلاس وفشل بسبب نهب موارد الدولة والسطو على مداخيل ومدّخرات اللبنانيين، مقيمين ومغتربين.
كتب الصحافي جورج نقاش في جريدة «لوريان» في 10 آذار 1949: «نفيان لا يصنعان وطناً». كان بذلك يشير إلى الثنائية التي شكّلت إحدى أهم ركائز «الصيغة» و«الميثاق» اللبنانيين، أي عدم المطالبة بالانضمام إلى سوريا من قبل المسلمين، وإلى فرنسا من قبل المسيحيين. كان نقاش منحازاً. وجد في تلك الثنائية عائقاً أمام تعميق الصلة بالغرب. لكنّ الأمور تداعت لاحقاً، إلى أن الثنائية، تناسلت إلى 18 طائفة/ دويلة تتمتع بسلطة شبه مطلقة، وبحق النقض، معفيّةً من المحاسبة والمساءلة! في أبحاث عميقة وصائبة، أكّد المفكر الشهيد مهدي عامل أن قوة الطائفية، في ظروف لبنان، هي، حصرياً، بالدولة. أي بما تتمتع به من امتيازات سياسية ومالية وإدارية... تنمو، باطّراد، على حساب سلطة وعافية ووحدة الدولة المنتهكة سيادتها من الداخل قبل الخارج!
هكذا كان الأمر، أيضاً، عام 1975، حين اندلعت الحرب الأهلية وتمادت لمدة عقد ونصف عقد. كانت شرائح سياسية واجتماعية واسعة تمارس احتجاجات متصاعدة ضد احتكار السلطة من قبل فئة عمَّقت، بامتيازاتها وسياساتها الداخلية والخارجية، الانقسام السياسي والطبقي ومارست فئوية جامحة كرَّسها دستور متخلّف وفاقمتها أعراف وتقاليد وممارسات وبدع! تفاقم ذلك برفض كل محاولات الإصلاح حتى البسيطة منها. بعض الإصلاحات الشهابية استثارت حملة ضارية من قبل النواة العميقة للصيغة ولمنظومتها بمقدار ما استشعرت خطر التعرض لهيمنتها على الإدارة العامة خصوصاً. ترسخُ وتوسع نفوذ ودائرة المستفيدين، قطع الطريق على كل محاولة إصلاحية حتى لو كانت بحجم تنظيم احتكار الدواء (إميل البيطار) أو إنشاء كلية تطبيقية في الجامعة اللبنانية (وُصف طلابها بـ«المخربين»). في السياق، غالباً ما جوبهت المطالب البسيطة بالتجاهل، والتحركات الاحتجاجية بالمنع والقمع والاعتقال. سقط عشرات القتلى: طلاباً ومزارعين وعمالاً. كان آخرهم الزعيم الوطني معروف سعد. بلور ذلك حالة طبقية اجتماعية تغذّت بوعي فكري وسياسي حملت روّاداً تحرّريّين، برز منهم الزعيم أنطون سعادة، ودعاة عدالة ومساواة روّجوا للأفكار الاشتراكية. من بين كبار رموز التغيير، برز المعلم الشهيد كمال جنبلاط داعية إصلاح سياسي وتطوير اجتماعي وانفتاح عروبي وعدم الانحياز الأعمى للغرب. ساهم ذلك وسواه في تبلور حركة سياسية وطنية ببعد تحرري عربي اجتمعت حول الإصلاحين، السياسي والاقتصادي، واستقطبت قطاعات شعبية وسياسية واسعة، بقيادة الشهيد كمال جنبلاط وبدور بارز للأحزاب العقائدية.
كان هذا هو الوضع الداخلي عشية الحرب الأهلية. في تلك المرحلة، وبالتوازي، أضاف الصراع حول القضية الفلسطينية، وخصوصاً بعد مجيء قيادتها إلى لبنان، بعداً تفجيرياً لا يقلّ أهمية. السلطة التي مارست المنع والقمع الدموي، قررت، تحت تأثير أطراف خارجية وإقليمية، محاولة تكرار ما حصل في الأردن بعنوان «أيلول الأسود». بعض الأحزاب المؤيدة للسلطة ولنهجها، كانت قد أنشأت لنفسها ميليشيا خاصة، علنية، بالتعاون مع ضباط في الجيش، وبغطاء رسمي، وبصلات، تعاظمت تباعاً، مع العدوّ الإسرائيلي. الخيار العسكري/ العنفي بات هو المعتمد، بين فعل وردّ فعل، وسيلةً أساسية لحسم الصراع الذي سارعت أطراف السلطة الأساسية إلى إضفاء الطابع الطائفي عليه لتتحكّم بمجرياته ونتائجه! الشكل الثاني لاحتواء الصراع كان في شعار هذا الفريق، بأن الحرب هي «حرب الآخرين» على أرضنا (روّج ونظّر له صاحب «النهار» عسان تويني). الفريق الخصم ركّز على الأسباب الداخلية وصاغ برنامجاً إصلاحياً، واقترح معالجة عقلانية حاولها كمال جنبلاط وأقصي بسببها عن وزارة الداخلية.
دامت الحرب 15 سنة، خسائر بشرية هائلة، احتلال إسرائيلي ووصاية، ثم تسوية «الطائف». قاومت قوى البورجوازية الكبرى ودول الوصاية (سوريا والسعودية وواشنطن) إصلاحات «الطائف»، وبدّلت فقط في توازناته، ما جعل الوضع بعده أسوأ مما كان قبله. الطبقة السياسية الحاكمة أفلتت من العقاب أثناء الحرب كما قبلها وبعدها. شجعها ذلك على ارتكاب أكبر وأشمل عملية نهب معاصرة، هي أشبه بحرب أهلية من طرف الطبقة، النافذة سياسياً ومالياً، على الأكثرية الساحقة من الشعب اللبناني.
انتفاضة تشرين التي جذبت مئات آلاف المتضررين في تحرك واعد، تعثّرت وفوّتت فرصة تغيير إصلاحي بسبب غياب قيادة وبرنامج وخطة، وتحت تأثير تسييس داخلي وخارجي خدمة لمصالح فئوية، أو لأجندات إقليمية أدارتها واشنطن بشكل خاص.
لا مخرج إلا بالإصلاح الجوهري على قاعدة المواطنة المتساوية: أي بتحرير لبنان من منظومة التحاصص، وبنبذ مشاريع الانقسام والتقسيم (لأنها مشاريع انتحارية وحربية بين الجماعات وفي داخلها على أساس الفئويات والعصبيات والمصالح الخاصة)، يملي ذلك عزل دعاة العنف الرجعي الذي يستهدف قوى التغيير، أو يخدم مصالح ومخططات القوى الاستعمارية والصهيونية للسيطرة على المنطقة بكل ثرواتها ومصائرها. إنجازات الشعب اللبناني في حقل التحرير، خصوصاً، تتعارض مع صيغة نظامه المتخلّفة والمهدِّدة لتلك الإنجازات، وحتى لوجوده نفسه!

[من مداخلة/ بحث في «الحرب الأهلية: عبر ونتائج» في بلدة شملان مساء 19/4/2024]

* كاتب وسياسي لبناني