لم يحدث أن عادت «الأسئلة الوجودية» إلى قلب كيان الاحتلال بمستوياته وقطاعاته كافة. «إسرائيل»، بمجتمعاتها ومذاهبها وجيشها ومؤسساتها، عادت اليوم إلى المربع الأول بمنطقه ومحدداته، هل ينجو هذا «المعسكر» المجلوب إلى هذه الأرض من تحديات عابرة لكل اعتبارات الغرب وشركائه؟ هكذا جاءت صاعقة عملية «طوفان الأقصى» بكامل قوتها، وأضحت ركيزة أساسية في محاولة الإسرائيليين لفهم واقعهم واستشراف الممكن من المستقبل. قبلها، كانت الأمور أكثر وضوحاً ربما، فالآمال بشرق أوسط «صهيوني» كانت قيد التنفيذ، أو في الحد الأدنى، في آخر مراحل إعداد الخطط والخرائط والاتفاقات.قبل «الطوفان» لم يكن الجفاف سيد الموقف، فالاشتباك بين محور المقاومة وإسرائيل كان قائماً في سوريا، فيما سجّل لبنان انتصاراً محدداً وواضحاً في إدارته لعبة العصا والجزرة مع الكيان وصولاً إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية بما فيه من تراجع تاريخي للكيان عن «بعض» أحلامه التوسعية شمالاً. وهنا جاء وصف الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصرالله لما جرى بأنه انتصار حقيقي. وفي الداخل الفلسطيني، كما في كل ساحات دول المحور، كانت الأمور ساخنة باشتعالات متقطّعة، وإشغالاً دائماً لأمن الصهاينة وجيشهم وأجهزتهم. الساحات الثلاث إذاً، لبنان وسوريا وفلسطين، لم تكن على استكانة أو تراجع، إنما في بناء دائم ومواجهة قائمة وتحضير للمقبل من صراعات العقيدة والأرض والتحرر.
داعب «السلام»، بنسخته الإسرائيلية، أحلام ساسة الكيان وشركائهم في الإقليم وصولاً إلى «أنصاف» الشركاء. خرج ولي عهد الرياض الأمير محمد بن سلمان، في مقابلة على قناة «فوكس نيوز» الأميركية، في الثاني والعشرين من أيلول العام الماضي، ليقول إن المملكة تقترب من السلام مع إسرائيل في كل يوم، ليلاقيه رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو، بعد أيام، وعلى القناة ذاتها، بالقول إن «السلام» مع السعودية أصبح قريباً. وهذه صورة قد تختصر شبكة العلاقات التي أنعشتها إسرائيل في المنطقة طوال مرحلة فوضى «الربيع العربي»، وهي التي أنتجت قناعة إسرائيلية بأن التطبيع الكامل ممكن ومن دون الاضطرار للمرور في الرواق الفلسطيني.
تل أبيب، وقبل أيام من عملية «طوفان الأقصى»، كانت تعمل وتنشط وفق قواعد «وجودية» مختلفة في الجوهر والجذر عن مخرجات ما بعد 200 يوم على المواجهة الكبرى. نتنياهو وهو يداعب أحلام «أمته» بسلام مع دولة الحرمين الشريفين بدا وكأنه «التنين الأبيض» في الشرق الأوسط، القائم بأمر القوة والممثل الحصري لجبروت الغرب على هذه الأرض، فيما «الأصدقاء» يولدون ويتوالدون يوماً بعد آخر. وهنا جاءت «خطيئة» مجتمع الجنرالات والحرب في رفع أسهم سوء التقدير وصولاً إلى الحماقة الكاملة. «إسرائيل»، وفي ذروة لذة «التطبيع»، فشلت في تقدير ثابت بالقوة والفعل، لا شيء يمر ويُمرر في هذا الإقليم من دون رواق الأقصى، وأن «القضية»، بأبعادها الأخلاقية والعملانية، باتت تحظى برعاة محليين من عشرات الفصائل المسلحة والمقاومة، وخلفها ظهير إقليمي في طهران يفيض الاقتدار عن كل جوانبه.
الكيان اليوم، وهو في نصف عامه الثاني من الحرب في القطاع، يتخبط في الهزائم والضربات من كل حدب وصوب، حتى من الغرب أحياناً. فالصناعات الإيرانية باتت تحتل أجواء المنطقة بشكل شبه يومي، لتطير وتتطاير معها مناعة الكيان ووسائطه الدفاعية وقدرته مع حلفائها على احتواء ما يحصل. بل يمكن القول إن هذه الأيام باتت تشهد ردود فعل ومحاولات تدوير زوايا من ناحية الإسرائيليين عوضاً عن صناعة السياسات والخيارات وفرض الإرادة كما حصل دوماً. «إسرائيل» وللمرة الأولى في تاريخها القصير لم تشهد نكسة أمنية وشعبية وسياسيّة كما حصل في السابع من أكتوبر ومجرياته. والأمور لم تتوقف هناك، فالتصعيد التدريجي عن جبهات إسناد المحور أعاد تشكيل صورتها أمام حلفائها قبل أعدائها.
وفي قلب التخبط هذا جاءت الهزيمة الاستراتيجية للكيان من البوابة الإيرانية عبر ضربة استهدفت وسائطه الدفاعية ومطاراته وقواعده من النقب وإيلات إلى تل أبيب والجولان. لكنّ الثقل الحقيقي للعملية الإيرانية تمثّل في تظهير الموقف الحقيقي لبعض قوى المنطقة ممن شارك في الدفاع عن تل أبيب في تلك الليلة، فضلاً عن «تعرية» إسرائيل أمام مشغّليها. هذه «الدولة» أصبحت عبئاً ولم تعد أداة استراتيجية ترعب المنطقة العربية ومعها العالم الإسلامي. وما بين ضربة «حماس» في «الطوفان» وزلزال إيران بعد نصف عام، «إسرائيل» أصبحت كياناً مختلفاً. اليوم تُطرح أسئلة الوجود والبقاء في كل مؤسسات وكيبوتزات ومستعمرات «إسرائيل»، تُطرح بجلافة وصراحة ومنطقية، كيف سيكون الغد؟ وإلى أين نذهب؟ أو أين نكون؟
وفي هذا السياق التاريخي، يواصل أقطاب محور المقاومة الضرب والبناء والتحضير، ومن ورائهم ظهير اإراني بات على بعد خطوات من التحول إلى قوة دولية تتخطى محددات الإقليم وخطوطه الحمر والخضر. والثابت أن هناك في أحياء ونواصي وركام غزة، حيث الشهادة أسلوب حياة والعزة نبع لمن أراد أن يشرب، يُصنع التاريخ في كل يوم. الرحلة والتغريبة بدأتا من الأرض الفلسطينية المقدّسة مع النكبة والعودة ستكون هناك أيضاً. «نكبات» العدو لن تتوقف، فالواضح، قبل البلاغة والحصافة والكلام المنمّق، أن واقع «إسرائيل» يمشي إلى الخلف ويترنّح نحو سقوط حتمي ومحقّق. شوكة الصهاينة كُسرت في غزة وقبلها في جنوب لبنان، إلى أن اقتلعتها إيران من جذورها في عملية الوعد الصادق. والكيان هذا لن يعمل بلا أشواك ولن يعيش بلا ردع، ببساطة، لم يعد مخيفاً بل أضحى خائفاً.

* صحافي