في التاسع من آذار الماضي، نقلت «القناة 12» الإسرائيلية تصريحات حاخام «الحريديين» (الحريديم) الأكبر، يتسحاق يوسف، التي أعادت اندلاع أزمة تجنيد اليهود «الحريديين»، لتنفجر بوجه حكومة اليمين المتطرف وائتلافه البرلماني، الذي يعتمد في وصوله إلى الحكم على أصوات هؤلاء اليهود المتشددين. آنذاك، قال الحاخام: «إذا أجبرونا على الالتحاق بالجيش، سنسافر جميعاً إلى خارج البلاد، نشتري التذاكر ونذهب»، لافتاً إلى أن «كل هؤلاء العلمانيين لا يفهمون أنه بدون المدارس الدينية لم يكن الجيش لينجح، فالجنود لم ينجحوا إلا بفضل أهل التوراة»، ومؤكداً أن «عليهم (العلمانيين) أن يفهموا أنه بدون التوراة، بدون الكُلّية، بدون المدرسة الدينية، لن يكون هناك نجاح للجيش». والجدير ذكره، هنا، أن أحزاب اليمين في انتخابات «الكنيست» حصلت على أصوات هؤلاء، طوال العقود الماضية، في مقابل استمرار إعفائهم من التجنيد العسكري، وتقديم حكومات هذه الأحزاب أموالاً وهبات وبرامج رفاه اجتماعي لمؤسسات ومدارس «الحريديين»، علماً أن الآلاف من طلاب المدارس الدينية يتقاضون مخصّصات مالية تبلغ 8500 دولار سنوياً للطالب، ليتفرغوا لدراسة التوراة والتلمود والقوانين الحاخامية اليهودية (الهالاخاه). هكذا، تعيد هذه الأزمة، التي تعود جذورها إلى مرحلة مبكرة من عمر الكيان الصهيوني، بقوة، طرح دور الدين في الكيانات الاستيطانية إجمالاً والكيان الصهيوني خاصة. فنظراً إلى الطبيعة العلمانية الصريحة للمشروع الاستيطاني الصهيوني، وتشكيك اليهود في قادته، من علمانيين وملاحدة، وخاصة في مرحلة التأسيس، فقد أوكل رئيس وزراء التأسيس، ديفيد بن غوريون، أمر المرجعية الدينية للدولة إلى حاخامات «اليهود الأرثوذكس»، بقصد إسباغ صبغة يهودية ظاهرة على المشروع الاستيطاني والكيان الصهيوني. وقد أدى ذلك إلى مشكلات مزمنة مع طوائف يهودية، من مثل اليهود الإصلاحيين والمحافظين وغيرهم، ولا سيما في سياق تعريف اليهودي، وإنكار المرجعية «الأرثوذكسية» في إسرائيل يهوديةَ بعض طوائف اليهود في أميركا والغرب، ما أثار حفيظتها وأزّم علاقتها بالكيان. لا بل إن هذه المرجعية اشترطت إعادة إدخال اليهود الآخرين في اليهودية، وفقاً لطقوس مؤلمة ومستفزة، على غرار ما حدث مع طائفة «الفلاشا الإثيوبية» لدى تهريبهم إلى إسرائيل في الثمانينيات. ومنذ قيام الكيان الصهيوني في عام 1948، برزت مشكلة تجنيد المتشددين، والذين عاملهم بن غوريون بأريحية بالغة، على اعتبار أنهم يشكّلون ضماناً للصبغة اليهودية للدولة واستمرار دراسة تعاليم الديانة اليهودية.

الصهيونية وعلمنة اليهودية
بحسب أستاذ الكيمياء العضوية والناشط الحقوقي الراحل، إسرائيل شاحاك، قامت الصهيونية على ثلاثة مبادئ:
- أولاً، كل الناس يكرهون اليهود، وهي كراهية تختلف من حيث الشكل عن أي أنواع أخرى من كراهية الآخر أو الغريب. فالصهيونية تفترض أن كراهية الآخرين لليهود ثابتة، فغير اليهود يكرهون اليهود لطبيعتهم. وبما أن معاداة السامية لن تزول من العالم، وحتى الشعوب التي لم تعرفهم في حياتها ستكرههم فوراً إذا احتكّت بهم، لذلك يعزل اليهود أنفسهم عن غير اليهود.
- ثانياً، «أرض إسرائيل» تخص اليهود، جميع اليهود، بصفة دائمة وإلى الأبد.
- ثالثاً، على جميع اليهود القدوم إلى «أرض إسرائيل» بتعبير الصهاينة، فتعبير «أرض إسرائيل» أكبر من فلسطين؛ وعلى اليهود القدوم وإنشاء دولة تخصّهم.
الواقع أن هذه المبادئ الثلاثة أدّت إلى علمنة الديانة اليهودية؛ فاليهود أينما كانوا، حتى حلول التحديث، على قناعة بهذه المبادئ الثلاثة، باستثناء أنهم أوكَلوا العودة إلى «أرض إسرائيل» وإنشاء الدولة اليهودية إلى «التدخل الإلهي»، وقدوم المُخَلّص (المسيح اليهودي)، وآمنوا بأن أرض إسرائيل تخصّهم وحدهم وبمجيئهم إليها بقدوم المُخَلّص. ثمّ جاءت الصهيونية لتحقيق ما آمن به اليهود، دون وجود الله والتدخل الإلهي، بل بجهود اليهود أنفسهم! فالصهيونية هي علمنة للديانة اليهودية. كل الجوانب السلبية في الديانة [اليهودية] تتجسد في الصهاينة أنفسهم. ثمة شيء آخر يسهل رؤيته في الصهيونية وهو متصل بالديانة: الحركات القومية تهتم بدمج الغرباء، لكنها لا تهتم بديانتهم الخاصة.
الحقيقة إذاً، أن الصهيونية هي التجلي الإمبريالي لـ«علمانية» شمولية فاشية، تنزع القداسة عن كل شيء، وتلغي أي تاريخ ومعنى لفلسطين وشعبها خارج سياق التاريخ اليهودي، كما تختزل خصوصيات وثقافات الجماعات اليهودية في العالم لاختلاق قومية يهودية. والحقيقة الأخرى أنه ليس هناك أمّة أو قومية يهودية فعلياً، بل هناك جماعات يهودية متعددة تنتمي بشكل أصيل وحقيقي إلى مجتمعاتها التي عاشت فيها مئات السنين.

ديباجات الاستيطان الدينية
قد يظن البعض أن ديباجات وأساطير مشروع الاستيطان الصهيوني الدينية في فلسطين تخصّه دون مشروعات الاستيطان الأوروبي، نظراً إلى توظيف اليهودية والتوراة في تبرير الاستيطان الصهيوني. لكن الحقيقة أن الاستيطان الأوروبي قد سبق الصهاينة في استعارة ديباجاته من نصوص التوراة وسردياتها وأبطالها ورموزها وجغرافيتها. فالمهاجرون الأوروبيون، من بيوريتانيين وحجاج ومعمدانيين وإيفانجيليين، استمدوا رؤيتهم الكونية وسرديتهم الدينية من نصوص التوراة، وتماهوا مع الروح العبرية لقصصها وأحداثها، واعتبروا أنهم خرجوا من أوروبا مما يشبه الأسر الفرعوني لبني إسرائيل (في مصر التوراتية) إلى أرض الميعاد. لا بل إن بعض المستوطنين الأوروبيين الأوائل كتب عهداً على السفينة التي ذهبوا بها إلى أميركا الشمالية، يشبه عهد «يهوه» للشعب اليهودي، وهاجروا لأنهم أرادوا تأسيس «إسرائيل الجديدة» في العالم الجديد.
يشهد الكيان الصهيوني مؤشرات دخول المشروعات الاستيطانية طور النهاية والتفكك


والخطير في ديباجات وأيديولوجية الاستيطان التي أسست فكرة «أميركا»، مثلاً، وهي ترجمة الإنكلوسكسون لفكرة «إسرائيل الأسطورية»، أنها تعتمد على ثلاثة عناصر: احتلال أرض الغير؛ واستبدال شعب بشعب؛ واستبدال ثقافة بثقافة وتاريخ بتاريخ. وكل عنصر من هذه العناصر إبادة كاملة قائمة بذاتها. على أن أيديولوجية الاستيطان تطوّرت عبر مراحل التاريخ الأميركي، وصولاً إلى «الدين المدني»، أي دين الدولة الأميركية الناشئ عن أيديولوجية المستوطنين البيوريتانيين الأوائل، والذي يكرس فكرة أن «ربّ العهد القديم» هو المرجع الأعلى! أيضاً، امتلأ خطاب الاستيطان الأوروبي بتعبيرات «أرض الميعاد» و«أرض كنعان» و«ميثاق الرب» و«شعب الله المختار» والاستكشاف وارتياد التخوم والغزو وإبادة السكان الأصليين. وصاحب ذلك اعتقاد بفرادة تاريخية لتجربة الاستيطان وأنها جزء من «أجندة الرب»، وأن أميركا بتعبير الكتاب المقدّس «مدينة على جبل» و«منارة الأمم»!
في الغرب وأميركا، لم يجدوا أخلاقاً تبرر الاستعمار في جنوب أفريقيا وروديسيا (زيمبابوي) والإبادات إلا في التوراة. وفي جنوب أفريقيا، تمّت صياغة جزء كبير من القومية الأفريكانية (الأقلية البيضاء الهولندية البريطانية) حول فكرة العهد أو الميثاق بين «الرب» وجماعات الاستيطان المبكر.

مصائر الاستيطان
يشهد الكيان الصهيوني مؤشرات دخول المشروعات الاستيطانية طور النهاية والتفكك بتصاعد مستويات العنف الهائل الواسع النطاق ضد السكان الأصليين؛ وقد وصل ذلك بالفعل إلى حد التدمير الشامل والإبادة الجماعية. كما حدث أواخر عهد الاستعمار الفرنسي في الجزائر ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ويحدث الآن في قطاع غزة والضفة الغربية. ويترافق تصاعد عنف الاستيطان مع حالة ارتباك شديد، وسعي خلف أهداف متناقضة، والتي تفاقم أزمة الكيان الاستيطاني وتشققاته الداخلية وتناقضاته البنيوية، وتنزع عنه الشرعية، وتعزله دولياً، وتكشف هشاشته.
في هذه اللحظة إذاً، تفاقمت أزمة تجنيد «الحريديين» في إسرائيل، مع اشتداد حاجة الكيان الصهيوني إلى تجنيد أبنائهم لمواجهة هزائم ميدانية ومخاطر جيوسياسية؛ إذ لم تعد هناك أريحية تتيح استمرار إعفاءات وامتيازات الحريديين، داخل المشروع الاستيطاني، وآن أوان توظيفهم على نحو أعمق وأهم في آلة هذا المشروع. وجاءت أحكام «محكمة العدل العليا» الإسرائيلية، التي أصدرت أكثر من قرار منذ 2017 بوقف التمويل الحكومي لمدارس «الحريديين» وعدم دستوريته أصلاً لأنه يهدر المساواة بين المستوطنين، لتمثل تقديراً دقيقاً لموقف المشروع الاستيطاني وعقله المركزي. ومن هنا، يبدو جلياً أن حاخام «الحريديين» لا يزال يعيش ديباجات وأساطير المشروع الاستيطاني، بينما واقع المشروع يمر بأوضاع حرجة ومآلات خطرة لا يحتاج معها إلى بركات «الحاخام» وأهل التوراة ومدارس التلمود و«الهالاخاه» وعناصر الديكور الديني، بقدر ما يحتاج إلى خمسة وعشرين ألف مجند من طائفته في سياق الصراع من أجل البقاء ضد أمواج حركة التاريخ العاتية!

* باحث في التاريخ والاجتماع