ترتبط جذور الحراك الطالبي الأميركي المناصر للقضية الفلسطينية بـ«عملية اتفاق أوسلو» في تسعينيات القرن الماضي. وتعدّد الصحافية إيما غرين أسباب هذا الحراك والأطر الفكرية التي أرساها منظّموه في جمهور الطلاب، لكي يفهموا طبيعة «الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين»، ولكي يميّزوا بين العداء للصهيونية والعداء لليهودية، الذي يتعمّد أنصار «إسرائيل» الخلط بينهما. وتلاحظ غرين أن الحراك الذي تنامى بعد «طوفان الأقصى»، تحت شعار «فلسطين حرّة» الأممي، يرفع شعارات أميركية أيضاً، ضد «الرأسمالية العنصرية»، ومن أجل «أجور الفقراء» وضد «الدولة القومية الأبوية ذات التفوق الأبيض». وتبيّن شهادة جوناثان بن مناحيم كيف أن مشاركة الطلاب والأساتذة اليهود في الحراك، وكذلك مشاركة السياسيين، قد ساعدتا على تظهير انقسام اليهود الأميركيين حول تلك الشعارات، وبالذات حول «فلسطين حرّة». بحيث يبدو الحراك، لأول وهلة، وكأنه يحضّ مؤيديه على الخوض، فوراً، في مسألة إعادة تعريف اليهودي والصهيوني. إنّ الأجيال الجديدة في أميركا وفي العرب والعالم، تفهم القليل عن أساس هذه المسألة، عندما كان اليهود في أوروبا منقسمين بين خيارين: الاندماج في الدول التي يعيشون فيها، أو إقامة «الوطن اليهودي». الرأسمالية المالية اليهودية احتضنت الحركة الصهيونية صاحبة الخيار الثاني، ودعمت تنفيذ «مشروع الكيان الصهيوني».
من المنصف للحراك، أن نُذكِّر بأن أعداءه سبقوه إلى إعادة تعريف اليهودي والصهيوني، ومن أبرزهم وزير الخارجية أنطوني بلينكن من اليهود، والرئيس جو بايدن من «الأغيار» (الغوييم). يكرر مجرم الحرب بنيامين نتنياهو، الآن، اتهام حراك أنصار فلسطين في الجامعات الأميركية بالعداء لليهود، ويشبههم بالطلاب النازيين الألمان. بيد أن اضطراب نفوذ الصهاينة في الجامعات الأميركية بدأ قبل «الطوفان». مثلاً، يائير روزنبرغ، الذي ينشر في «ذي أتلانتيك» حول «تقاطع السياسات والثقافة والدين»، كتب مقالاً بعنوان «كيف غيَّر العداء لليهود رابطة آيفي عما كنا نعرفها»، مؤرّخ في أيلول 2022. مقال روزنبرغ ليس فريداً، بل هو «نتفة» من حملة تشهير على الإنترنت، بأقلام وأصوات صهاينة من أميركا و«إسرائيل»، اتهمت جامعات «رابطة آيفي»، بأنها «تعمل على إبعاد اليهود عنها»، وبأنها «أصبحت مليئة أو مسمومة بالعداء لليهود»، الذي يسمّونه «العداء للسامية». من الأصح اعتبار هذا التشهير الصهيوني كهجوم استباقي تشنه طبقة الرأسمالية المالية اليهودية على عموم الجمهور لتخويفه، بعد فشل النيوليبرالية وهزيمة العولمة الأميركية. فهي تخشى أن تفقد احتكار «صناعة المال» و«صناعة الوعي العام» في أميركا، الذي يفسد حياة الأميركيين والعالم.
في منهجيات الاقتصاد السياسي، يجرّد هذا الفساد ضمن مقولة «تفاقم الأزمة العامة للنظام الرأسمالي الإمبريالي. هذا يفيد دراسات الباحثين والطلاب والمثقفين. عامة الجمهور لا كبير شأنٍ لهم في التجريد. يكفيهم فيلم تشارلز فيرغيسون Inside Job (2010)، ليشاهدوا طغيان طبقة الرأسمال المالي اليهودي على نخبة السلطة الحاكمة في أميركا، ولكي «يعاينوا» مقدار الفساد المدمّر الذي أحدثته هذه الطبقة الطفيلية في الحياة الاجتماعية-الاقتصادية للأميركيين وسائر الدول.
إنّ تشهير الصهاينة بـ«رابطة آيفي» هو محاولة لحماية طغيان وفساد تلك الطبقة، بما يتجاوز كتلة الجمهور العادي إلى النخب الحاكمة والنافذة. لأن «رابطة آيفي» تحوي أرقى الجامعات الأميركية، وطلابها من أبناء العائلات الثرية، وهي «مصنع النخبة» في الدولة والمجتمع بالولايات المتحدة، وباب إلى تكوين السلطة في القطاعين الخاص والعام.
وتتوالى الآن، وسط الانتخابات الرئاسية الطاحنة، وأخبار اضطهاد الحراك الطالبي والتنكيل بأنصار فلسطين، التقارير اليومية عن ظاهرة الفساد السياسي التي تطبع الحياة العامة الأميركية. وينشغل بعض الباحثين بتنوير الرأي العام عن أخطار هذه الظاهرة. فيشرحون لمواطنيهم «الطبيعة المفترسة» لقطاع المصارف، وهو الميدان الخاص بالرأسمالية المالية اليهودية، الذي ينهب المواطنين بالقروض المغشوشة لشراء السيارات. ويرصدون توحش احتكارات صناعة الأدوية التي حَوَّلَت الوصفات الطبية إلى «أداة خداع» للأميركيين، تتربّح من الإضرار بصحتهم.
وحسب هذه التقارير التي تستند إلى المصادر المفتوحة، فإن الفساد السياسي يجري تحت نظر «طبقة الحزبين» الحاكمة وبموافقتها. حتى إنه بلغ مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية أيضاً. فصارت تكذب على المواطنين وتضلّهم بشأن مسؤوليتها، مثلاً، عن «جعل هايتي وبعض دول أميركا اللاتينية تنقلب من سيئ إلى أسوأ». لكن أسوأ أنواع الفساد السياسي في النظام الأميركي يبدأ من «مصنع النخبة»، وتأهيل الخرّيجين للدوران في عملية تكوين سلطة الحكم في الدولة الأميركية. حيث «لا يتم تجنيدهم كأعضاء في الحكومة الأميركية، لإدارة السياسة الداخلية والخارجية للدولة، إلا بعد خدمة الخرّيجين في صفوف مالكي وبيروقراطيي شركات المال والأعمال»، وتثبيت ولائهم الاجتماعي والسياسي للنظام.
لقد شيّد الرئيس جو بايدن النموذج الواقعي عن هذا النوع من الفساد السياسي. كان من المألوف أن يجلب الرئيس الأميركي المنتخب أركان إدارته من الوزراء والمسؤولين والموظفين الكبار، من احتياطي الموارد البشرية للشركات الاحتكارية الكبرى. لكن في «النموذج البايدني» اختار الرئيس نحو 15 شخصاً من كوادر شركة واحدة هي WestExec Advisors، وهؤلاء توزّعوا في البيت الأبيض، وفي جهاز السياسة الخارجية، ومؤسسات إنفاذ القانون. من أبرزهم وزير الخارجية أنتوني بلينكن الذي كان من أبرز مالكي تلك الشركة وموظفاً فيها مع موظفين آخرين، من بينهم باربرا ليف ودانييل شابيرو. كذلك، خدمت في شركة WestExec مديرة الاستخبارات القومية أفريل هاينز. أمّا وزير الدفاع لويد أوستن، فقد خدم في منصب مدير مجلس إدارة شركة Raytheon Technologies العملاقة لصناعة الأسلحة قبل توزيره في منصبه الحالي.
جاء كوادر السياسة والبيروقراطية العليا في «النموذج البايدني»، يهوداً وغير يهود، من خرّيجي جامعات «رابطة آيفي»، بعدما تخلوا أو «جمّدوا» وظائفهم السابقة. وتذكر المصادر نفسها أنهم استمروا بتقديم خدماتهم إلى «باقة زبائن» شركتي WestExec و Raytheon Technologies، من خلال مناصبهم الرسمية. فهؤلاء «الزبائن»، هم شركات خاصة، بعضها «متعددة الجنسيات» وإسرائيلية، تستحوذ على الحصة الغالبة في إنتاج الأسلحة والطيران، والإعلام والشحن والدرونات والروبوتات، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والذكاء الاصطناعي والتعرف إلى الوجوه. إضافة إلى الأدوية والنفط والغاز وصواريخ الدفاع ضد الصواريخ. وهذه الشركات مملوكة أو مرتبطة بالرأسمال الاحتكاري اليهودي. ولدى «إسرائيل» منافذ إلى إدارتها ومُنتجَاتها، خصوصاً تلك التي تمنحها «التفوق العسكري» والتكنولوجي.
إنّ دعوات طلاب الحراك إدارات جامعات «رابطة آيفي» وغيرها إلى سحب استثماراتها من «إسرائيل» ووقف التعاون مع شركات الصناعة العسكرية التي تدعمها، هي تمرد على الفساد السياسي، يمكن أن يفتح فصلاً جديداً في تاريخ النخبة الأميركية. لأن الحراك، بتمييزه بين اليهودي والصهيوني، يخرج العلاقة العضوية بين الإمبريالية والصهيونية من نطاق السرديات الزائفة التي موّلت الرأسمالية المالية اليهودية مؤسسات تصنيعها ونشرها.
لقد هيمنت هذه السرديات على الوعي العام للنخبة خلال عشرات السنين. وتوضح بحوث علم اجتماع النخب الأميركي، تاريخ علاقة الطلبة اليهود بجامعات «رابطة آيفي»، والعقبات التي ذُلِّلت، حتى ضوعفت نسبة اليهود في «مصنع النخبة»، وتالياً في سلطة الحكم، بما يزيد بكثير عن نسبة عددهم بين الأميركيين. وقد يكون إفراط الصهاينة في الكلام عن «إبعاد اليهود»، والإمعان في التطرف الأيديولوجي بمنع انتقاد «إسرائيل» ومماهاة العداء للصهيونية بالعداء لليهود، شاهداً يكشف خشيتهم من أن تقود «نهاية النيوليبرالية» إلى زوال «العصر الذهبي» للرأسمال المالي اليهودي وتسلطه على النخبة الأميركية.

* مؤسس موقع «الحقول»