عند كل تحدٍّ، كانت تواجهه هيمنةُ واشنطن الإمبريالية، كان قسم الفلسفة التحليلي في الولايات المتحدة (وهي فلسفة يُفترَض أنها - وهي تأسّستْ هناك لتكون - لاسياسية ولاتاريخية أقرب إلى الرياضيات والفيزياء النظرية)، يَشرع في «انعطافة سياسية»، أو تسمى أحياناً «انعطافة اجتماعية»، من أجل إنقاذ النظام ضمن تصورات أخلاقية «تقدّمية»، الهدفُ منها احتواء المقاومة والاعتراض وتجييرها مجدداً لخدمة الإمبريالية. المرة الأولى كانت بُعيد حركة الحقوق المدنية وتظاهرات الجامعات عام 1968 (بعدها أتى جون راولز بنظريّته الفارغة إلا من الحاجة السياسية إليها «حجاب الجهل» veil of ignorance، بمعنى أن وزنها الفكري لا يساوي إلا الوزن السياسي للحاضرة الإمبريالية التي تحتاج إليها). والمرة الثانية بُعيد انهيار الاستثناء الأنكلوفوني عام 2016 (الإجماع الضمني الذي كان صَلباً في الاعتقاد بأنه، على عكس أوروبا القارية، فإنّ الثقافة الأنكلوفونية لا يمكنها أن تَسمح للفاشية بتسلّم السلطة، وأن المؤسسات الديموقراطية الراسخة فيها كفيلة بأن تُبقي الفاشيين على هامش النظام) والتي أدّتْ إلى جعْل الإبادة في غزة اليوم ممكنةً في ظلّ «أحد أكثر الرؤساء تقدّمية وتأييداً للنقابات العمالية» في تاريخ الولايات المتحدة. لكن قسم الفلسفة في الولايات المتحدة لم يكن دائماً تحليلياً ووضعياً، ولم يكن دائماً الملجأ الإبستيمولوجي الرئيسي لقلب النظام الأنكلوساكسوني (WASP). فحتى منتصف القرن العشرين، كان هناك تنوّع منهجي في القسم، إذْ ننسى أحياناً أن إمرسون اعتَبر الترانسندنتالية (المتأثّرة بالفلسفة المثالية الألمانية، على اعتبار أن الرومانسية في بريطانيا بقيتْ أكثر ارتباطاً بالأدب منها بالفلسفة) مذهبَ الاستقلال الفكري للولايات المتحدة. إلا أنه مع بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، تمّتْ تصفية هذا التنوّع داخل قسم الفلسفة في الولايات المتحدة لمصلحة هيمنة «التحليلية» (هناك مَنْ يُرجِع الأمر إلى الماكارثية التي أرادتْ قسمَ فلسفة لاسياسياً، وهناك مَنْ يُرجعها إلى أسباب تقنية متعلقة بهيمنة دوريّة «The Philosophical Review» ومحرّريها على المشهد الفلسفي، لكنّ تفسيرنا المنهجي لذلك نتركه لوقت لاحق).
في المقابل، كان قسم الأدب في الولايات المتحدة يتخلّى عن المدارس التقليدية الجمالية، النقد الجديد وغيره، لاعتناق المذاهب القارية وأدوات نقد السلطة، ومن خلالها بَدأ قسم الأدب يتوسّع ليصبح أرخبيلاً ضخماً من الدراسات النقدية (على شكل sub-departments)، وعلى رأسها الدراسات ما بعد الكولونيالية والدراسات النسوية والجنسانية وغيرها (كوْن الفلسفة القارية هي إنشاء أنكلوفوني وُضِع ليكون آخَرَ «التحليلية»). طبعاً، تمركزُ المهمَّشين في قسم واحد له تداعياته السلبية بلا شك، لكنها ليستْ مشكلة منهجية، بل هي مشكلة عدم التنوُّع في تناول المهمَّشين والتركيز بدلاً من ذلك على الدراسات الأدبية (الانتقادات تَدور بشكل خاص حول نقصٍ في تناولهم اقتصادياً).
قسم الفلسفة التحليلي في الولايات المتحدة يَتظاهر اليوم في الجامعات لأنه بأيّ مقياس فإنّ الحرب لم تعد تناسبية عددياً وليس لأن الحرب من أساسها خاطئة


سريعاً، أصبح قِسما الفلسفة والأدب في الولايات المتحدة الخصمَين السياسيَّين والمنهجيَّين الرئيسيَّين داخل الجامعة الأميركية، والأفراد المنتمون إلى القسمَين لا يُخفون تناقضاتهما وإقصاءاتهما ويَستقطبان باقي الأقسام في الجامعة في كتلتَين. الخلاف يتمحور حول أيّ المؤسستَين تَمتلك السلطة المعرفية للحديث عن الحقيقة، والحقيقة السياسية بالذات. على الأرجح، فإنّ وصْف جيرالد غراف للديناميات التي بموجبها يتمّ توزيع الأيديولوجيات المختلفة على أقسام معزولة بشكل مدروس في الولايات المتحدة «كي يستتبّ السلام» هو وصف يمكن تعميمه؛ أي أن الخلاف المنهجي داخل مؤسسة ما لا بدّ وأنْ يَقسِمها إلى مؤسستَين متنافستَين في نهاية المطاف أو توزيعهما على مؤسستَين موجودتَين مسبقاً. وضداً بنظريات «interdisciplinarity» (تداخل التخصّصات)، فإنّ الظواهر يمكن تحليلها باعتبارها إنشاءات تولَد في خضمّ الصراع الإبستيمولوجي السياسي بين مؤسسات إنتاج المعرفة ذات السلطة في الحواضر الإمبريالية لعصرٍ ما (اليوم هي أقسام داخل الجامعة)، ولا معنى لـ«دراسة الظاهرة من مختلف الزوايا» (وهو منطق سيبراني Cybernetic).
السؤال الرئيسي هو: مَنْ يُنتِج معرفةً ذات سلطة عن مَنْ (وعن ماذا)، في أيّ قسم وفي مواجهة أيّ قسم، وبأيّ وتيرة (over-researched and under-researched) وفي أيّ حاضرة إمبريالية ولإنتاج أيّ قيمة (علماً بأن الكيانات موضوع الدراسة، إن كانت كيانات مجتمعية أو طبيعية، هي بدورها إنشاءات أقسامية وإمبريالية، كلٌّ منها يؤدي عملاً ما - العمل باعتباره أداءً - لإنتاج قيمة مُنشَأة تتمّ مراكمتها)؟ وبالتالي، ليس هناك شيء خارج الجامعة (ولادة قسم جديد هي حدث على المستوى الأنطولوجي): كل صراعاتنا يمكن تحليلها باعتبارها نتاج توترات بين مؤسسات إنتاج المعرفة ذات السلطة المختلفة، والاعتقاد بأن الجمهوريين هم معادون للجامعة غير دقيق، فعناصر خطاباتهم ستجدها موزّعةً بين عدة أقسام جامعية أميركية، وهم أنفسهم إنشاء أقسامي (هذا في الحاضرة الإمبريالية، أمّا في الأطراف فليس هناك جامعات بل ترانس - جامعات).
وبالتالي، لا مشكلة في ممارسة الفلسفة تحليلياً، وحتى لا مشكلة في محاولة فهْم السياسة من خلال مقدمات الفلسفة التحليلية؛ المشكلة تَكمن في مَنْ يحقّ له إنتاج المعرفة التي تَقرأ السياسة من خلال مقدمات تحليلية؟ (بعيداً عن أوهام الطاولة المستديرة المثالية التي يتحاور حولها أفراد مثاليون يتناقشون أفكاراً لا اقتصاد سياسياً ومؤسساتياً لها يَمنحها المعنى والفعالية، وهي جميعاً تَكتسب الوزن الدلالي نفسه). هل يمكن ترْك هذه المهمة للكتّاب الأميركيين؟ أم علينا أن نتفاوض حول مَنْ مِن غير الأميركيين سيُفوَّض إنتاج هذه المعرفة؟ اليوم، هناك تراكم بحثي بطيء حول هذه المسألة: كوْن البحث الطبي يقوم به الرجال بنسبة أعلى بكثير من النساء يؤذي النساء صحياً (فما بالنا بالإنتاج البحثي في العلوم الإنسانية)، وكوْن السود مقصيّين من إنتاج المعرفة حول الذكاء الاصطناعي يؤدي إلى ذكاء اصطناعي متحيِّز ضدهم... كانت دراسات التشيكانو في الولايات المتحدة أول مَنْ بنى حساسية تجاه مسألة «مَنْ يُنتِج معرفةً بحثية عمَّنْ» في أواخر ستينيات القرن الماضي حين احتجّوا على كوْن أول الباحثين في مجال دراسات التشكيانو (المكسيكيين) كانوا «Anglo scholars» وليسوا مكسيكيين أميركيين أو لاتينيين (كذلك يَأتون إلى بلادنا ليمارسوا حريتهم الأكاديمية في البحث بدلاً من أن تكون هناك مفاوضات يُسمَح بموجبها لهذه الفئة أو تلك بالمساهمة في دراستـ«نا»). عام 2016 كان مفصلياً: فيه تمّ اعتماد وصف أزمة 2008 بأنها أزمة المشروع النيوليبرالي برمّته (لأنه خلال السنوات الثماني الفاصلة لم يكن هناك توصيف موحَّد للأزمة بعد، هل هي أزمة بنكية تقنية يمكن تجاوزها بقوانين ضبط جديدة، هل يمكن لعملة رقمية مثل البتكوين أن تكون حلاً بديلاً من البنوك المركزية، هل هي أزمة سياسية أوسع)، طبعاً مع ما لهذا الوصف من تبعات على إعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة وفكّ الارتباط مع الصين. وفي هذا العام، اكتَشفنا «الطبقة العاملة البيضاء» (الاسم الجديد للإيرلنديين والاسكوتلنديين الأميركيين). وفيه، كما ذكرنا، انهار الاستثناء الأنكلوفوني الذي شَكّل عصب التحكّم الأميركي بأوروبا (حلف «الناتو» ضمناً). لكن الأهم أنه في هذا العام، تمّ تمكين قسم الفلسفة التحليلي في الولايات المتحدة، ليس من استعادة التنوّع المنهجي (كما هو مطلوب)، بل من الهجوم على قسم الأدب في الولايات المتحدة وعلى المذاهب القارية المعتمَدة فيه وعلى أرخبيل الدراسات التي وُلدتْ داخله (واتهام القارية بأنها مسؤولة عن النيوليبرالية وسياسات الهوية - دانييل زامورا وغيره - وهي فعلياً الكيفية التي قَولبتْ فيها الولايات المتحدة «النظرية الفرنسية»، تأويل تشويهي للنص الفوكولودي؛ حرية التأويل مضمونة طالما هي ممارسة تحررية ليست في خدمة الإمبريالية)، والبدء بانعطافة سياسية أرادت الاستيلاء على جزء من الكيانات المُنشأة داخل قسم الأدب، الجزء الذي له فاعلية محلية، النسوية والجنسانية، وإعادة تأسيسهما على مقدمات تحليلية بدلاً من القارية (وهو ما سَمح لأفراد من قسم البيولوجيا بالتحدث بثقة في السياسة خلال السنوات القليلة الماضية، والهجوم بكل ثقة على منجزات قسم الأدب، علماً بأن البيولوجياتية هي جوهر الفاشية). وفي المقابل، إسكات الدراسات ما بعد الكولونيالية من خلال التهجُّم على المقدمات المنهجية التي أَسّستْ لها وتهميش نصوصها باعتبارها «woke» غير عقلانية تسبّبتْ بها خطابات قسم الأدب و«مبالغاتها».
هكذا فإنه بحلول السابع من أكتوبر 2023، كانت الدراسات ما بعد الكولونيالية قد أُسكتتْ ومبانيها المنهجية قد تمّ تهميشها واستبدالها من قِبَل قسم الفلسفة التحليلي في الولايات المتحدة بدعم من الإستابلشمنت الأنكلوساكسوني. مقابل صمت قسم الأدب في الولايات المتحدة تجاه الحرب على غزة في البداية (صمت مُهَيكَل، إسكات مؤسساتي)، كان قسم الفلسفة يُنتِج كمّاً هائلاً من النصوص المروّعة (المسؤول السياسي الأول عن الإبادة الراهنة هو بيرني ساندرز وليس جو بايدن، ساندرز هو الذي أعطى الطابع «الأخلاقي» للحرب، وساندرز «التقدمي» ما كان ليفعل ذلك لو أن قسم الأدب والدراسات ما بعد الكولونيالية والمناهج القارية لا تزال فاعلةً، ساندرز هو نتاج الإسكات الذي تراكم على مدى السنوات الثماني الماضية والذي سَمَح لقسم الفلسفة التحليلي بالحديث في السياسة بدل أن يبقى في الرياضيات البحتة).
كوْن الفلسفة التحليلية لا تتضمّن شيئاً اسمه «نقد السلطة» أو «نقد الإمبريالية» أو «المقاومة»، فإنّ فهْم الحرب في غزة من خلال «معضلة القطار» (سائق القطار لديه خياران، إمّا يَقتل شخصاً واحداً أو مجموعة من الأشخاص، فهل هناك تبرير أخلاقي لقتل هذا الشخص) أو «نظرية الألعاب»، لا يؤدي إلا إلى الإبادة (شخص أ في مربع واحد هاجم شخصاً ب في مربع اثنين، ماذا يجب على شخص ت أن يفعل في هذه الحالة؟). «التناسبية» (proportionality) وكيفية قياسها كانت محور كل نقاشاتهم حول الحرب على قطاع غزة، نقاشات لاتاريخية، مثلاً هل يجب حساب التناسب من خلال إضافة عامل الصدمة النفسية التي حدثت للإسرائيليين في السابع من أكتوبر. وحتى مَنْ أراد الدفاع عن الفلسطينيين، وهم كانوا قلّة شبه معدومة في البداية، حاول تبرير ذلك من خلال مفهوم التناسبية، وأن الفلسطينيين قاموا بذلك لأن ظلماً سابقاً لحق بهم. قسم الفلسفة التحليلي في الولايات المتحدة يَتظاهر اليوم في الجامعات لأنه بأيّ مقياس فإنّ الحرب لم تعد تناسبية عددياً وليس لأن الحرب من أساسها خاطئة. قسم أخلاق الحرب في الجامعة العبرية في القدس المحتلة هو الأكبر في العالم، وكان يُرحَّب بهم في نقاشات الفلسفة التحليلية بشكل واسع في الولايات المتحدة؛ طبعاً، كانوا يفاخرون في بداية الحرب بأن الجيش الإسرائيلي هو أكثر جيش أخلاقي في العالم وأن متخصصين في قسم أخلاق الحرب يرافقون الجيش.
وقبل اتهام الجمهوريين بدفْع المحكمة العليا في الولايات المتحدة لإلغاء «التمييز الإيجابي» في الجامعات (Affirmative Action)، علينا أن نتذكّر أن التحليليين هناك هم الذين قَدَّموا «التبرير الفكري» لإلغائه. والتحليليون هم الذين يهاجمون اليوم حملة «إلغاء ميزانية الشرطة» باعتبارها أفكاراً ما بعد حداثية هدّامة للنظام العام. وبفضل اندفاعهم الانتقامي من قسم الأدب، عدنا نرى علماء بيولوجيا يتحدثون في السياسة. وهناك «فيلسوف» في جامعة كامبريدج رأى أن السود هم بيولوجياً أقلّ ذكاءً (تحت عنوان «race realism») نجد الفلاسفة التحليليين يدافعون عنه بزعْم الحفاظ على حرية التعبير حتى لو كانوا لا يوافقونه الرأي والتمسّك بالطاولة المستديرة المذكورة آنفاً.
الهجوم أخيراً على جوديث بتلر وعلى إيبرام كندي، باعتبارهما «نسبويين ما بعد حداثيين»، ومحاولة إعادة تفسير فرانز فانون بحيث يُنزَع من نصه شرعنة المقاومة المسلحة (طبعاً كتّاب من خارج قسم الأدب يقومون بهذه المهام)، يَندرج في هذا الإطار، إذْ إن هناك غرفة صدى متطرفة داخل مؤسسة الفلسفة في الولايات المتحدة لا يمكن إيجادها بين أي جماعة بحثية أخرى.
نضالنا هو نضال أقسامي: مَنْ ينتج المعرفة ذات السلطة حول هذا الموضوع أو ذاك (أي مَنْ يساهم في إنشاء هذا الموضوع أو ذاك)، وعلينا أن نتفاوض حول عملية الإنتاج هذه، وأن نكون أكثر طموحاً في طرح أنه ليس هناك مقدمة فكرية تَسمح بأن تَحتكر دولة ما أو مجموعة صغيرة جداً من الدول الأبحاث حول الكومبيوتر الكمي وحول الذكاء الاصطناعي (مسبقاً رأينا الإبادة تُنفَّذ بهذه الأدوات، وبالتالي التفاوض عليها أصبح ضرورة؛ يَرغب التقدّمي الأميركي في أن يُشرِك السود الأميركيين في برامج الذكاء الاصطناعي، لكن أن يُشرِك الفلسطينيين أكبر ضحايا الذكاء الاصطناعي في هذه الأبحاث؟). على الفيلسوف الأميركي التحليلي أن يَتأقلم مع حقيقة أننا في الأطراف والمهمشين نجد النصوص القارية أكثر قرباً إلى تجاربنا الغنية والمتنوعة من نصوصهم الاختزالية. إمّا أن تكون تقدّمياً فوكولدياً وإمّا أن تكون «تقدّمياً» راولزياً، أي تقدّمياً مزيّفاً (للأسف هناك مَنْ يَعتبر أنّه يمكن فهْم ماركس من خارج التقليد الألماني التاريخاني، فهم شارداني أخلاقي أو فهم تحليلي لاتاريخاني). هؤلاء ليسوا رفاقاً تقدّميين، إنهم عصب الإمبريالية. وإذا كان من الممكن تقديم مادة تحليلية أفضل، فبالتأكيد لن تكون على يد الأنكلو - إمبرياليين، إذْ علينا التخلُّص من فكرة أنه يمكن لأيٍّ كان أن يُنتِج معرفةً حول أيٍّ كان وأي موضوع.
ما يميّز حرب غزة الحالية عن سابقاتها، هو أن الحزب الديموقراطي في الولايات المتحدة، الذي كان يوماً حزب مزْج الشعارات التقدّمية بمشاريعه الإمبريالية، فَقَد قدرته على ابتداع المزيد من هذه اللغة، واضطرّ إلى استخدام لغة ما قبل حركة الحقوق المدنية وما قبل تظاهرات 1968، لغة الحرب العالمية الثانية الإمبريالية بوضوح والتي لا يمكن تمييزها عن لغة جورج بوش الابن أو دونالد ترامب. كما رأينا، فإن هذا التصلُّب المفهومي مردّه إلى اندفاعة قسم الفلسفة التحليلي لإعادة تأسيس السياسة في الولايات المتحدة بدعم من الإستابلشمنت الأنكلوساكسوني الذي يَرى أنّ التحليلية الوضعانية هي السمة المميِّزة للعالم الأنكلوفوني عن باقي أوروبا والعالم. أهم الفلاسفة التحليليين في الولايات المتحدة يوردون تفسيرات غير لائقة بأكاديمي، مثل أن ما قامت به «حماس» هو استعادة للانتقام القَبَلي ما قبل الحداثي (مَنْ يطّلع على تفسيرات الظواهر السياسية لدى الفلاسفة التحليليين وسلسلة الأوراق البحثية الصادرة خلال السنوات الأخيرة عنهم، سيَجد أنها ليست أفضل حالاً من تفسيرات دارسي الرياضيات والبيولوجيا للسياسة). بدلاً من الانشغال بأزمة الجمود في قسم الرياضيات والحاجة إلى تجاوز مسائل هيلبرت التي هَيمنتْ على مؤسسة الرياضيات خلال القرن الماضي، والعودة إلى النقاشات الفلسفية الرياضية الإبداعية لغويدل وتورينغ، يريدون أن يتحدّثوا باعتبارهم سلطة معرفية في السياسة.
لطالما سعى التحليليون الأميركيون (التحليليون الآخرون قد يكون إنتاجهم مختلفاً) في اندفاعهم المحموم للتسييس ضدّاً بقسم الأدب في الولايات المتحدة للقول إن التحليلية ليست مجرد قصاصات تجريدية وأنه يمكنها أن تقدِّم إضافة مفيدة في السياسة؛ حسناً، لقد أتت الحرب على غزة، ورأينا بديع إنتاجهم، ونأمل أن تكون هذه آخر إباداتهم «التجريدية».
* باحث