لا ينقص الخليج كي ينال دمغة استكمال شروط الانضمام إلى نادي المستبدين سوى استكمال أمير الكويت الجديد، مشعل الأحمد، الشروط الإلزامية للعودة إلى «بيت الطاعة» والانضواء في «نادي الملوك». ليس في قرارات أمير الكويت في العاشر من أيار الجاري ما يعدّ خروجاً عن التقاليد السياسية الخليجية، وإن كانت وصفة مكتملة الأركان لانقلاب قصر آخر في الخليج بعد «انقلاب قصر» الرياض في 23 حزيران 2017.في خطاب متلفز في العاشر من أيار الجاري، أعلن الأمير مشعل حل مجلس الأمّة ووقف العمل بالمواد 51 و65 (فقرة 2 و3) و71 (فقرة 2)، و79 و107 و174 و181 من الدستور، وتتعلق بصورة حصرية بالسلطة التشريعية وصلاحياتها الدستورية، وذلك لمدة لا تزيد على 4 سنوات «يتم خلالها دراسة الممارسة الديموقراطية في البلاد، وعرض ما تتوصل إليه الدراسة لاتخاذ ما نراه مناسباً». ونصّ الأمر الأميري على أنّ «الأمير ومجلس الوزراء سوف يتولّيان اختصاصات مجلس الأمّة، على أن تصدر القوانين خلال هذه الفترة بمراسيم قوانين».
مهما تضاربت التفسيرات للأوامر الأميرية، يبقى أنها رسمت مساراً جديداً في الحياة السياسية الكويتية في المرحلة المقبلة، وأنّ ثمة وضعاً استثنائياً سوف تعيشه الكويت في ظل اختلال العلاقة بين السلطات الثلاث، وتعطيل دور السلطة التشريعية التي باتت في عهدة رأس السلطة التنفيذية.
محلياً، وفي ضوء التجربة الديموقراطية المحدودة وتعثّر مسيرة الدولة، في العموم، أو ما يطلق عليه باللفياثان الأعرج، فإنّ قرارات الأمير يصدق عليها الطابع الانقلابي. ولكنْ ثمّة سياقان ماكرويان يمكن عبرهما العثور على تفسير منطقي لحزمة الأوامر الأميرية، وهما:

السياق الدولي: العجز الديموقراطي
رصد صموئيل هنتغتون ثلاث موجات عالمية لدخول الدول إلى نادي الديموقراطية، فكانت الموجة الطويلة الأولى في الفترة ما بين 1828 - 1926، وتعود جذورها إلى الثورتَين الفرنسية والأميركية. والموجة الثانية بعد الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء، وبلغت الديموقراطية ذروتها في عام 1962 مع دخول 36 دولة نادي الديموقراطية. وبدأت الموجة الثالثة مع ثورة القرنفل في البرتغال سنة 1974 وامتداداً إلى تسعينيات القرن الماضي، لتشمل بحلول عام 1995 عشرين دولة في قارات أوروبا وأميركا اللاتينية وآسيا. وجرى تصنيف ثورات الربيع العربي التي انطلقت في أواخر عام 2010 على أنّها الموجة الرابعة. وقيل حينذاك إن 60 في المئة من دول العالم باتت داخل الموجة الديموقراطية في الفترة ما بين 1970 - 2010. والحال أن هذا التقدير المتفائل واجه انتكاسة حادة لم تقتصر على الثورة المضادة في بلدان الربيع العربي وعودة الاستبداد السياسي بأشدّ شراسة من الديكتاتورية المستقرة والتأسيسية.
يجادل كارل بوبر بأن الوصول إلى دولة مثالية بالاتكال على حكم مركزي قوي أقلّوي قد يفضي إلى نظام ديكتاتوري. في الواقع، إنّ هذه النتيجة ممكنة في أيّ صيغة كانت، وإن الأقلّوية صفة السلطة دائماً، وإن ادّعت تمثيل الأغلبية، فالسلطة في جوهرها ممثلة لحكم أقلّوي.
إنّ الاعتقاد بأن تطوّر مسار الديموقراطية حتمي ولا رجعة عنه، وأنّ قدر الدول هو الاندماج طوعاً أو كرهاً في هذا المسار، لم يصمد طويلاً. فالعجز الديموقراطي أصبح آفة عامّة عالميّة، وإنّ خروج دولٍ من النادي الديموقراطي يكاد يكون سمة القرن الحادي والعشرين. لا استثناء في ذلك، فهناك تدهور مقلق للغاية لقوى الديموقراطية في أميركا وأيضاً أوروبا. ويرجع ذلك إلى صعود الإمبريالية القبيحة مدعومة بالتحالف غير المقدّس للنخب البلوتوقراطية واليمين المسيحي، إلى جانب الاستياء الهائل للعديد من الناخبين الذين لا يرون اختلافاً كبيراً بين حزبين فاسدين، مع سخط الشباب العميق.
إنّ «لحظة الخليج» التي كان يتطلّع البعض إلى أن تكون بمنزلة انتقال لمراكز الجاذبية من القاهرة ودمشق وبغداد إلى الرياض وأبو ظبي والدوحة، هي، في حقيقة الأمر، لحظة انتقال السلطة من «قطبية تعدّدية» إلى «قطبية أحادية»


يتحدّث الفيلسوف والناشط السياسي الأميركي كورنل ويست، عن هيمنة السوق وفرقها على حساب القيادة الديموقراطية الحقيقية، وأنّ عزوف الشباب الأميركي عن التصويت لا مبرّر له سوى أنهم باتوا على معرفة تامّة بأنّ القيادة السياسية محصورة في حزبين متطفّلين على أموال الشركات ومصالحها. وبحسب مؤشر الديموقراطية في وحدة الخبراء الاقتصاديين في مجلة «ذي إيكونوميست» الصادر في شباط 2024، فإنّ أقل من 8% من سكّان العالم يعيشون في ديموقراطيات كاملة. والديموقراطية الأميركية، الأكبر في العالم ذات يوم، تراجعت إلى ما دون ترتيب تشيلي وجمهورية التشيك وليتوانيا ومالطا. وتؤكد مؤشرات أخرى عن منظمات تعنى بمراقبه الانتقال الديموقراطي على مستوى العالم أن هناك عجزاً ديموقراطياً غير مسبوق يشهده العالم. ونحن أمام انحسار لموجات الديموقراطيه على الرغم من التفاؤل الذي أطلقه مصمّمو موجات الديموقراطية. ثمّة موجة ديكتاتورية تجتاح العالم منذ مطلع الألفية الثالثة التي بدأت بقانون مكافحة الإرهاب وقانون المواطن (Patriot Act) الأميركي الصادر بعد هجمات الحادي عشر من أيلول سنة 2001، وتالياً قانون مكافحة الفساد. تنطوي هذه القوانين على تفويض جديد للحكومات الاستبدادية بمواصلة الدرب الذي سلكته على قاعدة «ليس بالإمكان أفضل مما كان»، فوجد المستبدّون ضالّتهم لشرعنة العودة إلى الأزمنة المظلمة.
إنّ أوامر حاكم الكويت ليست بدعاً ولا خروجاً عن النص الخليجي، وعليه، «لا نفرّق بين أحد من الطغاة»، فليس هناك من هو أفضل من الآخر، أو من هو استثنائي في هذه المنطقة الموصومه بالاستبداد.

السياق الإقليمي: الانتقال من الأوليغارشية إلى الأوتوقراطية
شهدت دول مجلس التعاون الخليجي في الأعوام العشرة السالفة انقلابات متفاوتة الصدى، في إطار إعادة تشكيل السلطة وتوزيع مراكز القوى داخل كل دولة، والتي مهّدت لانحلال حكم القبيلة الكبيرة والتأسيس لحكم الأسرة النواة. عوامل مساعدة ساهمت في تسريع عملية التحوّل الانقلابي داخل العوائل الحاكمة، من بينها: ترهّل الجيل القديم، أو موت الأقطاب الكبار (حرّاس الموروث السلطوي)، وصعود جيل الشباب (الأمراء والشيوخ) إلى المراكز القيادية، وتعديل شروط الحماية لمصلحة القوى الاستعمارية الحديثة (الولايات المتحدة وبريطانيا بدرجة أساسية)، واستعداد الجيل الجديد لتقديم امتيازات للأجنبي كان يرفضها الجيل السابق بصورة جزئية أو كلية، فكانت أشبه بتقديم أوراق اعتماد الجيل الجديد إلى «الراعي الأجنبي»، الذي لن يتردد في قبول العرض طالما أن مصالحه مكفولة، ومضاعفة، تمهيداً لعودة الاستعمار القديم في حلّة جديدة.
وفيما لا يزال منصب وليّ العهد شاغراً في قطر منذ عام 2013، بعد صعود تميم بن حمد إلى سدّة الإمارة، والاقتصار على نائب مؤقت له، بانتظار نضوج اللحظة المناسبة لتعيين ابنه وليّاًَ للعهد، كان الملك سلمان، منذ تولّيه العرش في 23 كانون الثاني 2015، ينفّذ خطة انقلاب محكمة وهادئة كان قد أعدّها قبل رحيل سلفه وخصمه القديم عبد الله بن عبد العزيز، بهدم كل ما بناه الأخير لضمان عبور آمن لابنه الأكبر متعب إلى العرش. وفق خطة الانقلاب، تمكّن سلمان، في غضون سنتين، من إبعاد أميرين كبيرين من ولاية العهد (أخوه الأمير مقرن بن عبد العزيز في 29 نيسان 2015 وابن شقيقه القوي ورجل الأمن القومي الأول في المملكة محمد بن نايف في 23 حزيران 2017)، والطريف في الإعفاء في الحالتين أنّه جاء «بناءً على طلبه». وكانت «غزوة الريتز» في 4 تشرين الثاني 2017 آخر فصول «انقلاب القصر»، وتالياً انتقال الحكم من عائلة رب العائلة، ابن سعود، إلى رب البيت سلمان.
في سلطنة عمان التي عاشت لعقود من دون منصب وليّ عهد لعدم وجود أبناء للسلطان السابق قابوس بن سعيد (توفي في 10 كانون الثاني 2020)، أعلن السلطان الجديد هيثم بن طارق آل سعيد في 11 كانون الثاني 2021 عن تسلّم ابنه البكر ذي يزن (مواليد 21 آب 1990) ولاية العهد، وهو الأول في تاريخ السلطنة الحديث.
في البحرين، التي يقودها عميد الملوك في منطقة الخليج، خلت حلبة التنافس على السلطة بموت الرجل القوي في النظام الخليفي، خليفة بن سلمان، في 11 تشرين الثاني 2020، وضعف الخوالد، أحفاد خالد بن علي آل خليفة، الفرع الذي حكم البحرين في المرحلة التأسيسية. توسّل الملك حمد بدستور 2002 لتعزيز صلاحياته ونفوذه في الدولة في مقابل منافسه وعمه خليفة بن سلمان، صاحب النفوذ الأقوى في مؤسسات الدولة وفي العائلة الحاكمة، فكان مرضه وموته، والانقلاب على الدستور، وضرب المعارضة، وحل الجمعيات السياسية، وقمع رموز ثورة 14 شباط، مقدّمات تمهيدية لإعادة تشكيل السلطة وحصرها في أسرة الملك، بعد تعيين نجله الأكبر وولي عهده سلمان بن حمد رئيساً للوزراء في 11 تشرين الثاني 2020، وبذلك تكون البحرين قد دخلت نادي «الأوتوقراطيين» الجدد.
في الاتحاد الإماراتي المؤلّف من سبع إمارات منذ 1974، تشكّل فيها أبو ظبي الإمارة الأمّ، وعلى الرغم من انبعاث سؤال الخلافة فور وفاة الحاكم السابق خليفة بن زايد، في 13 أيار 2022، فإنّ حاكم الإمارات الجديد محمد بن زايد حسم الجدل ونصّب ابنه خالد (مواليد 8 كانون الثاني 1982) وليّ عهد أبو ظبي منذ 29 آذار 2023.
لناحية التركيبة السياسية في الكويت، فإنّ توزيع السلطة على مدى عقود كان يستند إلى ثنائية قطبية ممثلة في جناحَي السالم والأحمد. وكان مبدأ تقاسم المناصب راسخاً لعقود طويلة في تقاليد أسرة الصباح، ونجح الجناحان في ضبط خلافاتهما، ومنع أيّ تسريبات يمكن أن تحدث تشويشاً على وحدة السلطة، وتالياً وحدة العائلة. ومنذ رحيل الأمير صباح السالم الصباح سنة 1977، توطّن جناح الأحمد قصر السيف العامر حتى اليوم، ما خلا فترة قصيرة للغاية تولّى فيها الشيخ سعد بن عبد الله السالم الصباح سنة 2006، ثم تنحّى لدواعي المرض ثم موته في 2 كانون الأول 2008.
ومنذ مبايعته أميراً على الكويت في 16 كانون الثاني 2023، بدا مشعل الأحمد الصباح متأهباً للانقضاض على خصومه المحليين، في سياق استكمال ما بدأه إبّان فترة مرض سلفه، نواف الأحمد، في سياق إعادة رسم خريطة تحالفات مضبوطة على مقاييس خارجية، وسعودية بدرجة أساسية. كانت سياسة الأمراء السابقين تقوم على تحقيق أكبر قدر من التوازن بين المكوّنات الاجتماعية والسياسية الكويتية، وكانت تلك السياسة ضمانة لوحدة الكويت واستقرارها، ولكن الأمير الجديد أظهر نزوعاً جليّاً نحو تجاوز الداخل وتوازناته، واستنساخ نموذج الانقلابات في دول مجلس التعاون الأخرى، في ظل حديث عن اختزال السلطة في بيت مشعل، وأن مهلة الأربع سنوات التي حدّدها بعد تعليق مواد في الدستور الكويتي ذات صلة بصلاحيات السلطة التشريعية وتعطيل مجلس الأمّة، هي كفيلة بأن تمنح الأمير فرصة تركيز السلطة وتشكيلها بالطريقة التي تجعل منه «الحاكم بأمره» في بلد كانت التعدّدية علامته الفارقة خليجياً.
لعقود خلت، راهنت السعودية، أو الشقيقة الكبرى، على إفشال التجربة الديموقراطية في الكويت، التي دفع الكويتيون أثماناً باهظة من أجلها، برغم من عيوبها البنيوية المعروفه لدى الكويتيين، ولكن مرجعية دستور 1962 كانت حصانة للتجربه الديموقراطيه، وقاعدة ارتكاز لتطويرها ومعالجة عيوبها، وكان من ثمار الحركة النضالية الكويتية إقرار مجلس الأمّة وتثبيت دور الشعب كسلطة تشريعية عبر ممثليه في مجلس الأمّة. ولكن هناك في دول الخليج الأخرى، وفي طليعتها الشقيقة الكبرى، من لا يعجبه أن تكون هناك تجربة ديموقراطية على تخومها، يمكنها أن تشكّل مصدر إلهامٍ لشعوب الخليج. إنّ إجهاض التجربة الديموقراطية في الكويت، وإن بصورة مؤقتة، سوف تعمل دول الخليج على استدامته، وتالياً العمل على إلغاء الديموقراطية بالكامل، وتمكين السعودية من لحظة الخليج الجديدة، لحظه الاستبداد التي يراد تخليدها في هذه المنطقة.
هناك، من دون ريب، من يعمل على ترويج فكرة ماكرة فحواها أنه في ظل الحكم الفردي وإلغاء أي دور للشعب يمكن للدولة قيادة قطار التنمية والتقدّم، وهذه الفكرة من تركة الاستبداد الطويلة، التي تراكمت في هذه المنطقة على مدى عقود. وعليه، هناك من يريد إقناع شعوب المنطقة بأنّ التقدّم صنوه الحكم الفردي، وهذه من أكبر آثام ثقافة الاستبداد التي يراد تعميمها شعبياً.
إنّ لحظه الخليج الراهنة هي، من دون ريب، لحظة بائسة، وإنّ إجهاض التجربة الديموقراطية في الكويت يمثّل انتكاسة لنضال شعبها ونضال شعوب الخليج الأخرى من أجل الديموقراطية، ودفعت من أجله أثماناً باهظة من أرواح العشرات من الثائرين من أجل الحرّية.
إنّ «لحظة الخليج» التي كان يتطلّع البعض إلى أن تكون بمنزلة انتقال لمراكز الجاذبية من القاهرة ودمشق وبغداد إلى الرياض وأبو ظبي والدوحة، هي، في حقيقة الأمر، لحظة انتقال السلطة من «قطبية تعدّدية» إلى «قطبية أحادية» ومن حكم القبائل إلى حكم البيوتات. بكلمات أخرى، إننا أمام انقلابات فرعية داخل القبائل الحاكمة، وليس فقط داخل الدولة. ونحن، أيضاً، أمام انتقال في السلطة من الحكم الأوليغارشي القبلي إلى الحكم الفردي الأوتوقراطي، إذ يحكم البلاد بيت أو جناح داخل العائلة، وتكون له الغلبة في إدارة شؤون الدولة.

* كاتب من الجزيرة العربية