أقرَّ مجلس النواب العراقي يوم 22 أيار الجاري قانوناً جديداً للعطل الرسمية. القانون الجديد أثار ردود فعل مختلفة وطرح علامات استفهام كثيرة؛ فهو حذف من جدول العطل الرسمية، ولأول مرة، ذكرى الثورة الجمهورية في 14 تموز/يوليو، والتي حدثت سنة 1958، ونقلت العراق من دائرة الهيمنة والنفوذ الغربي البريطاني إلى حالة من الاستقلال الوطني الناجز، فأخرجته من حلف بغداد - السنتو (CENTO) والذي شكّلته بريطانيا الاستعمارية لمواجهة الكتلة السوفياتية (ضم في عضويته الدول الدائرة في المدار الغربي البريطاني، وضم إلى جانب بريطانيا العراق وتركيا وإيران وباكستان). كما أخرجت ثورةُ تموز العراقَ من المنطقة الإسترلينية والتبعية الجيوسياسية للغرب وفتحت الباب واسعاً أمام تغيرات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية عميقة في البلاد، لعل من أهمها تطبيق قانون الإصلاح الزراعي الذي فكّك المنظومة الإقطاعية الزراعية، وسلسلة التأميمات وعمليات التنمية الاقتصادية والتصنيع الواسعة، واستعادة السيادة الوطنية على الثروة النفطية.وقد جوبهت الثورة وإنجازاتها بنقمة شديدة ومناهضة حادّة من أعدائها الطبقيين والاستعماريين، بل وأثارت مناهضة القيادات الدينية المحافظة، وخصوصاً الشيعية في عهد المرجع محسن الحكيم، في حين انحازت جماهير جميع الفئات والطوائف إلى الثورة وبرنامجها الاستقلالي الاجتماعي. ويبدو أن ساسة المنظومة الحاكمة اليوم، والحليفة للولايات المتحدة وبريطانيا، ورثوا هذا العداء الطبقي والجيوسياسي لثورة 14 تموز، وجاهر بعضهم بمعاداتها، كما فعل السفير العراقي في لندن والذي كان مرشحاً لمنصب رئيس مجلس الوزراء، محمد جعفر الصدر، الذي قال عنها في يوم ذكراها سنة 2020، في تغريدة أثارت ضجة في حينها، بأنها «يوم مشؤوم في تاريخ العراق الحديث»!
لنلق نظرة على أبرز الفقرات الواردة في القانون الجديد محاولين تحليلها وبيان خطورتها:
1- حذف العطلة الرسمية بمناسبة ثورة 14 تموز 1957 التي أُعلنت فيها الجمهورية العراقية، وهو فعل لم يجرؤ على القيام به حتى القوميون والبعثيون الذين انقلبوا على الثورة وقتلوا قائدها ورفاقه، مع ما يرمز إليه هذا الإلغاء من تثبيت موقع العراق الراهن في حظيرة الهيمنة الغربية والأميركية تحديداً.
أمّا التبرير الذي ساقه أحد أعضاء اللجنة النيابية القانونية، النائب محمد الخفاجي، لهذا الحذف، فهو عذرٌ أقبح من ذنب كما يقال. فقد قال في معرض تبريره لهذا الإلغاء: «أمّا يوم 14 تموز عام 1958، ذكرى إعلان النظام الجمهوري وإسقاط النظام الملكي فإنه يوم جدلي بسبب حصول عمليات قتل وانقلاب، وتمت معاملته كيوم 9 نيسان 2003، الذي لم يُدرج في قانون العطلات». والمتحدث هنا يساوي بين ذكرى ثورة شعبية تقدمية حرّرت العراق من الهيمنة الاستعمارية، ويوم 9 نيسان الذي سقطت فيه بغداد عسكرياً ودخلتها الدبابات الأميركية، وهو اليوم الذي طالب بعض الساسة الحاليين باعتباره عطلة رسمية، بل إن أحد ذوي العمائم منهم تمادى وطالب بإقامة تمثال ذهبي للجندي الأميركي الذي «حرّر» العراق! وسنتوقف عند هذا التبرير بتفصيل أكثر بعد قليل.
2- إضافة عطلة أُطلق عليها «عيد الغدير» وتصادف الثامن عشر من شهر ذي الحجة في السنة الهجرية. وهي مناسبة دينية خلافية يحتفل بها المسلمون الشيعة، باعتبارها اليوم الذي نُصِّبَ فيه الإمام علي بن أبي طالب وصياً وولياً على المسلمين من قبل النبي محمد في حجة الوداع بموضع يُسمى غدير خم سنة 10 هـ. والمسلمون الشيعة الاثنا عشرية (الإمامية) يستندون إلى تلك الحادثة لتأكيد أحقية الإمام علي بالخلافة والإمامة بعد وفاة النبي. ولكنّ المسلمين السُّنة يرفضون هذا التفسير والاستنتاجات، مثلما يرفضون فرضها كعطلة رسمية على عموم العراقيين.
إنّ قانون العطل الرسمية الجديد يمكن اعتباره خطوة حاسمة على طريق قيام وترسيخ الدولة الطائفية الدينية ونهاية للجمهورية الأولى


كما أشار أكثر من محلل ومراقب إلى خطورة هذا الصنيع مستقبلاً لأنه سيكون عاملاً من عوامل التشنج الطائفي وزيادة حدة الاستقطاب والشحن العدائي، ما قد ينجم عنه من تشكيل منظمات تكفيرية وطائفية جديدة تلعب على حبال الموت وعواطف الناس وتستغل الحماقات التي يرتكبها الساسة الطائفيون المحكومون بالغريزة لا بالعقل فيدفع ثمنها الأبرياء من جميع الفئات والطوائف.
3- اعتبار مناسبة ميلاد السيد المسيح عطلة خاصة بالمسيحيين العراقيين فقط. وقد احتجّ نواب مسيحيون على ذلك وطالبوا باعتبارها عطلة لكل العراقيين. وهذا المطلب ليست له سابقة في التاريخ العراقي حيث كان يُكتفى باعتبار بداية العام الميلادي عطلة عامة، أما تواريخ ولادة السيد المسيح فهي عطل خاصة بالطوائف المسيحية.
ومثل المسيحيين، احتجّ التركمان العراقيون وطالبوا باعتبار يوم 26 كانون الثاني يوماً للشهيد التركماني. وهذا المطلب له سوابق، حيث قررت سلطات الإقليم الكردي جعل يوم 12 آذار يوماً للشهيد الكردي، وهناك يوم آخر للشهيد يحتفل فيه الساسة الشيعة في 13 كانون الثاني من كل عام ويصادف ذكرى مقتل السيد محمد باقر الحكيم في تفجير انتحاري، وهم يسمونه «يوم الشهيد العراقي» ضمن سيرورة الإملاء والفرض على المكوّنات الأخرى. كل هذه الأيام الخاصة بشهداء الطوائف والعرقيات تؤكد أن العراق ككيان جيوسياسي سائر في طريق التفكّك والتقسيم الجيوسياسي كمُنتج لطبيعة النظام الحاكم ودستوره المكوّناتي المانع للاندماج المجتمعي والقادم أدهى وأمرّ.
بالعودة إلى المبررات التي ساقها عضو اللجنة القانونية النيابية السالف الذكر لحذف ذكرى ثورة 14 تموز الجمهورية، والتي تتلخّص في نقطتين: الأولى، إنها مناسبة جدلية، والثانية حصول عمليات قتل وانقلاب خلالها، فهي، إلى جانب كونها ساذجة، فهي غير دقيقة مضموناً ومقطوعة عن سياقها التأريخي الحقيقي. دعونا نتفحص مضمون هذه الحجة؛ يقول المتحدث إن يوم الثورة يوم جدلي، أي إنه موضوع خلاف، وهذا صحيح وكل ثورات العالم جدلية وصراعية بين جماهير الثورة والطبقات الثائرة وأنصار الفئات والطبقات الرجعية التي أطاحتها. وإنها انقلاب، وهذا صحيح أيضاً، فهل يريد المتحدث إدانة جميع الانقلابات العسكرية بغضّ النظر عن سياقها وأهدافها كما يريد الخطاب الاستعماري الغربي الذي يصف هؤلاء الانقلابيين بـ«الإرهابيين»؟
أمّا بالنسبة إلى الدموية التي تُتهم بها الثورة، فوفق غالبية المصادر التأريخية الرصينة بلغ عدد القتلى خلالها نحو ثلاثين قتيلاً من ضمنهم بعض أفراد العائلة المالكة ونوري سعيد وولده صباح. ومن بينهم أيضاً اثنان من الوزراء الأردنيين، واثنان من الأميركيين، واثنان من الألمان وإنكليزي واحد. فليقارن من شاء المقارنة بين عدد القتلى في هذه الثورة وأعداد قتلى ثورات أخرى خارج العراق أو حتى بالانقلاب الدموي الذي حدث ضدها (مثلاً، يؤكد بعض المؤرّخين الفرنسيين أن عدد قتلى الثورة الفرنسية، يراوح بين 117 و250 ألف قتيل، فيما يذهب مؤرّخون آخرون إلى القول بأرقام أكبر باحتساب ضحايا الحروب التي أثارتها تلك الثورة ويقولون إنها قضت على عشر السكان الفرنسيين آنذاك!).
وهنا ثمة سؤال يُطرح على أهل النظام الحالي في العراق؛ هل لديكم إحصائيات بأعداد العراقيين الذين تسببتم بقتلهم، بإصراركم على خيار الحكم الطائفي والهيمنة المذهبية بعد عام 2003، فأطلقتم العنان للقوى التكفيرية لتلغ في دماء العراقيين وفشلتهم في حمايتهم؟ هل قدّمتم قوائم بأسماء الشهداء من المتظاهرين السلميين كما وعدتم، وهم بالمئات والجرحى بالآلاف، الذين حصدهم الرصاص الحكومي خلال الانتفاضة السلمية في تشرين الأول سنة 2019؟
إنّ كاتب السطور، لا يقلل أبداً من شأن عشرات القتلى خلال اليوم الأول من الثورة التموزية، وفي مقدمتهم الملك الشاب فيصل الثاني وجدته الملكة نفيسة وعمّته الأميرة عابدية. وكنت قد نشرت مقالة بعنوان «من أجل ردِّ الاعتبار للملك الشهيد فيصل الثاني» في 27 تشرين2/نوفمبر 2010، وكرّرت نشرها في عدة مناسبات في ذكرى الثورة طالبت فيها بإعادة الاعتبار للملك القتيل المظلوم ولجدته وخالته والاعتذار باسم الدولة العراقية لذكراهم عمّا حدث لهم والتعويض على أسرتهم.
من ناحية أخرى، ولكي نضع الحدث في سياقه التأريخي الحقيقي، فإنّ سيل الدم لم يبدأ مع ثورة 14 تموز، بل بدأ قبلها في «مذبحة الجسر» خلال انتفاضة كانون 1948 ضد المعاهدة الاستعمارية التي عقدها النظام الملكي التابع مع بريطانيا وقتل فيها المئات بالرصاص وغرقاً في دجلة، و«مجزرة السجن المركزي» سنة 1953 ضد السجناء اليساريين العُزّل، وإعدام القادة الثوريين فهد وحازم وصارم، وإعدام العقداء الأربعة الذين حاولوا إنهاء التبعية لبريطانيا في ما سمي ثورة رشيد عالي الكيلاني سنة 1941، وقصف قرى الفلاحين في الفرات الأوسط بالطيران وتدميرها سنة 1935، وعمليات قمع معروفة ضد الأقليات القومية والدينية وغير ذلك وفير.
إنّ قانون العطل الرسمية الجديد يمكن اعتباره خطوة حاسمة على طريق قيام وترسيخ الدولة الطائفية الدينية ونهاية للجمهورية الأولى. وربما سيؤدي لاحقاً إلى اضطرابات وتوترات ذات طبيعة فئوية وطائفية قد تنتج عنها هجرة واسعة للمكوّنات العراقية الأخرى التي قد تعتبر نفسها مستهدفة بهذا القانون وفي مقدّمتهم العرب السنّة والمسيحيون.
إنَّ هذا القانون يأتي خطوة حاسمة وصريحة وكارثية على طريق قيام وترسيخ الدولة الطائفية الشيعية، ويحوّل البلاد إلى عامل طرد لسكانه من الطوائف والمذاهب الأخرى وسيفتح الباب أمام هجرة واسعة النطاق للعرب السنة والمسيحيين الذين لم يبق منهم الكثير، وسينتهي كل هذا بتدمير المجتمع العراقي التعددي الموروث منذ عهود سحيقة وتحويله إلى مجتمع أحادي استبدادي.
فبعد أن عوَّمت المنظومة الحاكمة، هوية العراق الحضارية العربية وفرّغتها من محتواها الحقيقي الثقافي والحضاري بوصفه موطن الساميين (الجزيريين) الأوائل منذ الأكديين، وموئل الحضارة العربية الإسلامية البالغة ذروة مجدها مع بغداد العباسية عاصمة التآخي والعلوم واعتبرته بلداً متعدد القوميات، وقد فعلت ذلك وثبّتته في دستورها لسنة 2005 والذي سنّته تحت حراب الاحتلال الأميركي وفي حمايته وبعد صفقة مريبة عقدها الساسة الشيعة مع ساسة الإقطاع الكردي وبطريقة احتيالية ولا تمّت إلى الديموقراطية بصلة، بعد أن فعلت ذلك... ها هي اليوم تحذف رمزاً استقلالياً ملهِماً في تأريخ العراق الحديث إن لم يكن هو الأهم، وإضافة مناسبة طائفية مذهبية إلى قائمة العطل الرسمية في حركة نافلة ستستفز يقيناً أبناء الطوائف والمذاهب الأخرى وتفتح الباب واسعاً على توترات خطرة وردود فعل وخيمة.

* كاتب عراقي