بعد صدوره للمرة الأولى باللغة الإنكليزية عام 2013، عن مطبعة «هيرست»، ومن ثم عن «مطبعة جامعة أوكسفورد»، تصدر اليوم الطبعة الرابعة لكتاب «ما بعد الشيوخ: الانهيار المقبل للممالك الخليجية». وقد استعرضته وسائل الإعلام الدولية بشكل واسع، فنُشِرت مقالات حوله في «ذا إيكونومست»، و«ذا إندبندنت»، و«ذا غارديان»، والكثير من الصحف والمجلات الرائدة. كما اقتُبِسَت بعض أقسام الكتاب ونشرتها مجلتا «فورين أفيرز»، و«فورين بوليسي». وفي وقت سابقٍ من عام 2014، صدرت نسخة باللغة الفارسية عن الكتاب في طهران. ومع اقتراب نهاية عام 2014، يسرني التصديق على هذه الترجمة الرسمية إلى اللغة العربية لكتاب «ما بعد الشيوخ»، والتي آمل أن تساعد في إيصال أفكار الكتاب إلى شريحة أكبر وأكثر نقداً من القراء.


ومما لا شك فيه أن الكثير قد تغير منذ نشر الإصدار الأول للكتاب، في ظل الاضطرابات غير المسبوقة التي ما زالت تواجهها منطقة الخليج، (عُرف المسطح المائي الذي يقع إلى الشرق من شبه الجزيرة العربية، وإلى الغرب من إيران بأسماء مختلفة عبر التاريخ، بينها البحر الجنوبي، والبحر السفلي، وخليج البصرة، بالنسبة لسكان بلاد الرافدين قديماً. وسماه العرب كذلك خليج عُمان، وخليج القطيف، وخليج البحرين، وغيرها من التسميات. إلا أن أول من أطلق عليه «بحر فارس» فهو الاسكندر الأكبر المقدوني بناءً على المعلومة التي زوده بها قائده البحري (نيارخوس) عام 326 ق. م. حين عودته بأسطوله من الهند عن طريق مضيق هرمز، فكان من الطبيعي أن يمر بمحاذاة الساحل الفارسي فلم يعلم بأن هناك ساحلاً عربياً لهذا الخليج أيضاً لذا عرّف المنطقة المائية التي عبرها، لقائده الاسكندر، باسم «بحر فارس». وقد استخدم التسمية نفسها الملك الفارسي (داريوش الأول) بين أعوام 486-521 ق.م.، ثم تسربت هذه التسمية كذلك لكل دول وكيانات الغرب الأوروبي، وبقيت متداولة حتى عند بعض الرحالة والجغرافيين العرب في تلك العصور. إلا أنه في ستينيات القرن العشرين استخدمت جامعة الدول العربية اسم الخليج العربي بدلاً من الخليج الفارسي.

اليوم يمكن لأيّ تغريدة ناقدة أن ترمي مواطناً خليجيّاً شاباً خلف القضبان

ولكن لم يتم تثبيت هذه التسمية في الخرائط والأطالس والموسوعات الجغرافية الصادرة باللغة الانكليزية. وبعيداً من أي لغط وسوء فهم لهذه التسميات، سوف نستخدم مصطلح «الخليج» بدلاً من الخليج الفارسي الذي استخدمه المؤلف في الكتاب، باعتبار أن هذه التسمية أصبحت مشهورة إعلامياً في عصرنا الحاضر) والعالم العربي في أعقاب ثورات الربيع العربي في عام 2011. على مستوى خارجي، برزت جهود خطرة، ومسببة للخلافات، قامت بها بعض القوى، وكان أغلبها من الممالك الخليجية، وقد هدفت في معظم الأحيان إلى إخماد شعلة الكوسموبوليتية العربية، ومظاهر النظام السياسي العربي الجديد، والتي حظينا بشرف رؤيتها في ميدان التحرير في القاهرة، وفي غيرها من المدن العربية على مدار ذلك العام. وباعتقادي، تنبثق هذه الجهود من ثلاثة معسكرات: أولًا، محور مناهض للثورة بشكل صريح، برئاسة الرياض وأبو ظبي، اللتين تسعيان إلى دعم الديكتاتوريات الجديدة وترسيخ حكمها – وتحديداً في مصر – وذلك لتقويض محاولات إنشاء مزيد من الحكومات التمثيلية في المنطقة؛ ثانياً، معسكرٌ يدَّعي تأييده للديمقراطية، تموله الموارد الهائلة في قطر، ويدعمه النفوذ التركي الكبير – ويبدو أنهم يستخدمون منظمات إسلامية سياسية موجودة، كآلية رجعية لبلورة النتائج التي تبدو بعيدة من روح الربيع العربي في المنطقة؛ أما ثالثًاً، فـ «معسكر المقاومة» الذي يضم نظام الأسد في سوريا، وحكومة بغداد المحاصرة، إلى جانب إيران وحلفائها. وهؤلاء أخذتهم ثورات الربيع العربي بغتةً، ولم يضطروا إلى التصدي للضغوطات والثورات المحلية فقط، إنما للمحاولات الانتهازية لكل من المحاور الرجعية المناهضة للثورة. وقد وجدوا فرصة ذهبية لإزالة أعدائهم القدامى. وفي تلك الأثناء، شعر المجتمع الدولي بالخطر جراء قيام داعش (الدولة الإسلامية في العراق والشّام)، التي تشكل، من دون أدنى شك، المظهر الأسوأ حتى الآن من بين الجهود المناهضة للربيع العربي، وهي، على الأغلب، مرتبطة بأحد هذه المعسكرات أو أكثر.
وعلى نحو مشابه، في ما يتعلق بالمستوى المحلي، فإن دعائم حكم الممالك الخليجية على وشك الانهيار سريعاً. وعلى الرغم من أن الهدف من كتاب «ما بعد الشيوخ» لم يكن يوماً التنبؤ بكرة بلورية، إلا أنني مدرك تماماً أن الكثير من المناقشات التي طرحتها في بداية عام 2013، أثبتت اليوم صحتها للأسف. وأدت المحاولات التي قامت بها هذه الأنظمة لــ «احتواء» النسخة الخليجية من الربيع العربي اليوم بشكل ملحوظ، إلى اعتماد سياسات قمعية هائلة، وغير مسبوقة، مع انتشار الاعتقالات السياسية في المملكة العربية السعودية، والبحرين، والكويت، وحتى في الإمارات العربية المتحدة – التي كانت في ما مضى عزيزة القوى الغربية «الليبرالية نسبيّاً». واليوم، يمكن لأية تغريدة ناقدة أن ترمي مواطناً خليجيّاً شاباً خلف القضبان. وقريباً، سيكون لنشوء «الدول البوليسية» في الخليج، في فترة التحديث السريع، وتكنولوجيات الاتصالات القوية الجديدة، نتائج خطرة على العقود الاجتماعية وصيغ الشرعية للحكام المتعددين. ويمكن أن تكون استراتيجية «تشويه سمعة» المعارضة، التي ناقشناها في «كتاب ما بعد الشيوخ»، هي الأكثر خطورة، فهي تتفاقم حتى تكاد تخرج عن السيطرة، في ظل تحريض كل من البحرين، والمملكة العربية السعودية، بشكل فاعل، على النزاع الطائفي؛ في حين أن الإمارات العربية المتحدة وقطر اليوم في مهب حرب باردة مع بعضهما بعضاً حول أسلوب التعامل مع الإسلام السياسي – وتعتقد أبو ظبي أن الإخوان المسلمين منظمة إرهابية، أما الدوحة فما زالت ترى أنها ثقل وازن ضروري مقابل السيطرة السعودية الإقليمية. وأخيراً، على الجبهة الاقتصادية، لم تصل جهود التنويع بعيداً من صادرات النفط والغاز إلى أي نتيجة بعد، في ظل اندفاع الممالك الخليجية كافة تقريباً، إلى نقطة يتجاوز فيها إنفاق حكوماتها – الذي ارتفع بشكل هائل منذ بداية أحداث الربيع العربي – العائدات النفطية المتدنية. وتدل مقالتي، التي نشرت في صحيفة «نيويورك تايمز» في تشرين الأول/أكتوبر من عام 2013، حول أسعار النفط التي تتهاوى بسرعة في أعقاب التطورات الكبرى في إنتاج النفط في الولايات المتحدة، على تدهور الوضع ربما بشكل أسرع مما توقعته سابقاً في الكتاب. واليوم، أسعار النفط متساوية في أكثر من نصف هذه الدول، وهي أعلى من أسعار النفط الحالية. وقريباً جداً، ربما في الأشهر القليلة المقبلة، سنرى أن الكثير من الممالك الخليجية ستضطر إلى خفض المعونات وغيرها من عمليات نقل الثروات إلى مواطنيها – وهو حدث مهم سيكون له تأثير عميق ونهائي، على الأغلب، في شرعية الممالك الخليجية وشعبيتها.

* مؤلف كتاب «ما بعد الشيوخ: الانهيار المقبل للممالك الخليجية» الذي يوقّع في جناح مركز «أوال» للدراسات والتوثيق في معرض بيروت الدولي للكتاب، اليوم الثلاثاء 2 ديسمبر/كانون الأول، الساعة السادسة والنصف عصراً.