أثار قرار وزير الداخلية الفرنسي بعدم توقيع القرار القضائي بترحيل المناضل جورج إبراهيم عبد الله ردود أفعال لدى الأوساط المهتمة بقضيته، وهي ردود أفعال يخشى ألا تبقى في الإطار السلمي في التعبير لفترة طويلة. وكان لبنان قد شهد، فور إعلان القضاء الفرنسي قرار الإفراج عن عبد الله وترحيله، مظاهر فرح وابتهاج نظمها اتحاد الشباب الديمقراطي، قبل أن يعود هؤلاء و«الحملة الدولية» لاطلاق سراح عبدالله إلى إعادة تزخيم الحملة الضاغطة لتحريره من الأسر الأميركي ـــ الفرنسي. ولاقى كل من الابتهاج، ومن ثم الضغط، حملة انتقادات متنوعة شملت مواضيع مختلفة. وظهر أنّ المشترك بينها جميعاً لم يكن شيئاً أقل من تشوُه وجدان النخب الفكرية والسياسية في لبنان. ليس في الأمر تخويناً أو شيطنة للنقد، وليس فيه أيضاً تقديس لموضوع النقد، فالمسألة تتعلق بأمر آخر تماماً يرتبط بالدافع والغاية من النقد، أي من أخلاقيته. في ساحة نقد ظروف القضية والتحركات بشأنها، تقدّم كتبة متمرسون ويتقنون السفسطة إلى أبعد حد. اصطاد بعضهم جزئية من هنا أو هناك، وأعمل فيها مبضعه لتسفيه الموضوع الأصلي، ونسيَ هذا البعض أنّه، بذلك، يعلن عجزه عن التصدي لجوهر القضية بطريقة توازن بين الأخلاق والسياسة (بمعناها غير النبيل). وفي ساحة التضامن، تقدّم شباب متحمس وجريء لا يزال مقتنعاً بنبل قضايا النضال من أجل تحرير الأوطان ومتمرّس بالمبادرة، لكن البعض منه يهمل أهمية الخبرة وفائدة التجربة فقدّم، بذلك، للمصطادين في الماء العكر فرصة اقتناص العثرات أو الأخطاء. وفي الساحتين غاب «أهل المعرفة والخبرة» عن المشهد، وفي ذلك تكثيف لتفاصيل المشهد الأوسع على الصعيد العربي، وهو ما ينبغي أن يكون موضع بحث آخر. في السياق، يمكن فهم هذه الحملة التي انطلقت لتسخيف تحركات الشباب الموجهة ضد المصالح الفرنسية وأشكال التعبير التي يعتمدونها. تضمنت تلك الحملة اتهامات للشباب بالحنين إلى ماضٍ انتهى وكان خطأ، بدل الحفر في الحاضر والمستقبل، كما وبصبيانية تحركاتهم أو تشوُش خطابهم واستحضر البعض القانون الدولي قيداً على الشباب متناسياً أنّ الأجدى رفعه في وجه سلطة «ديمقراطية» لا تحترم أبسط مبادىء القانون. أركان هذه الحملة من الجيل النادم صراحة عن خطيئة «الظن» أيام الصبا بعدالة قضية فلسطين وضرورة القيام بما في الوسع من أجل استعادتها. وأسباب هذا الندم ليست دائماً وفقط خليجية، فتغيّر المصالح أو الآراء أو المواقف ليس ظاهرة غير أخلاقية وقد آن أوان الإقرار بذلك، لكن ما هو غير أخلاقي أن يتغيّر الفرد أو المؤسسة ويصرُ على نفي ذلك كمن يريد الغنم من كل الاتجاهات. للنادمين ولليبراليين الجدد ولأنصار ثقافة انصياع الضعيف لقانون القوي واتباع ديانة إرضاء السيد الأبيض، لكل هؤلاء الحق في «تجريم» جورج عبد الله وتتفيه رشق البيض، ونعت حماسة الشباب بالصبيانية أو الانفعالية المغرقة في النوستالجيا إلى آخر نوتات المعزوفة، لكن لنا، في المقابل، كلّ الحق في أن نلاحظ أنّ هذه المواقف لا تنطلق من موقع الحرص بل من موقع نقيض. لنا كلّ الحق في أن نلاحظ أنّ النقد المسوق كان سياسياً فاقداً أيّ معنى أخلاقي ولم يهدف إلى «تنوير» الشباب بفكرة ناضجة عن كيفية خوض معركة تحرير عبد الله، بل إلى العكس تماماً. ولم يهدف كذلك إلى إضافة مسحة «عقلانية» إلى «الحنين» إلى ماض لا يمكن أن يتكرّر، بل إلى «تنظير» رداءة ذلك الماضي وضرورة التبرؤ من تاريخ صاخب بالنضالات. بهذا المعنى فإنه يحق لنا، نحن المتمسكين بعناد بالقضايا العادلة، والمنفتحين بمرونة على البحث في وسائل كسبها أن نقابل «الحق في التجريم» بـ«الحق في التخوين». ومع أنّ هذه الفكرة هي على قدر عال من البداهة، فإن الليبراليين الذين يرفعون تقديس الحرية والحق في التعبير راية لهم، يرفضونها ويدينونها. فهم لا يقرون بحرية أو حق المختلفين معهم في الرأي، عندما يقود ذلك إلى تعرية مواقفهم. وكشفت بعض المقالات والتعليقات مدى التشوُه الذي أصاب وجدان هؤلاء حيث إنهم، من شدّة انزعاجهم من اكتشاف بؤرة «وطنية ـــ ديموقراطية» تمثّلت في شباب صلب ومتمسك بقضية «ماضوية»، صوّبوا نيرانهم ضدها وتناسوا جوهر الموضوع. لقد أنهى جورج عبد الله محكوميته ولم يعد مطلوباً أمام القضاء بل بات معتقلاً دون سبب أو تهمة من قبل حكومة تدّعي، مثلهم، احترام حقوق الإنسان. تهرّبوا من مواجهة هذه القضية لأنها بالتحديد تكشف زيف مزاعمهم وعدم أخلاقيتها وذهبوا إلى تفريغ أحقاد قديمة، وتأكيد تبرؤهم من حق الشعوب في المقاومة وترويج ثقافة الخنوع بحجة احترام القيم الليبرالية. في هذه المعركة بالذات انكشفت الليبرالية المحلية باعتبارها «لاوطنية»، وانضمت إلى جمع القوى المغرقة في تبعيتها للخارج، وفقدت بذلك ما كانت تفاخر به من استقلالية مزعومة. وبسبب وعيها لانكشاف هذه الحقيقة عارية أمام الجميع تقوم بالترويج لوجود «أجندات مشبوهة» تقف «خلف» المحتجين والمتضامنين. لا يدرك الليبراليون الحقيقة المرّة التي عاناها ويعانيها شباب الحملة من أجل تحرير جورج إبراهيم عبد الله، وهي أنه ما من أحد... خلفهم!
رشقات البيض، التي أطلقها شباب لا يزال بعضه يكابر أمام اتضاح حاجته إلى الاستفادة من تجارب التاريخ الذي لا يريد التبرؤ منه، أضاءت على مواقف لأسماء مكرّسة غزا الشيب رؤوس بعض أصحابها. والمفارقة أنّ يلتقي يساريون من ذلك التاريخ، لكن من أصناف متناقضة اليوم، على نفس الموقف من قضية جورج إبراهيم عبد الله. فلا تختلف آراء اليسار الليبرالي عن آراء قيادات شيوعية بارزة وتمتشق «الخطاب» الثوري غبّ الطلب. فهل هي إشكالية جيل أحبط ولا يريد لغيره أن ينجز، أم أنّنا أمام هيمنة ثقافة النيوليبرالية داخل الأوساط اليسارية؟ بين الجيلين، جيل بات ملحّاً أن يتحرك.
* عضو اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي اللبناني