في بداية القرن الماضي أعلن الشريف حسين بداية الثورة العربية الكبرى (1916) للتحرر من الظلم والاستعباد العثماني الذي أذاق العرب الويلات بعد رسائل ثمانية تبادلها مع المفوض السامي البريطاني في مصر السير هنري ماكماهون (من 14تموز 1915 حتى 10 آذار 1916) اعترف فيها الأخير بإنشاء مملكة عربية مستقلة، مع تعهد بأن لا تعقد بريطانيا معاهدة سلم لا تأخذ بالحسبان حرية المقاطعات العربية في الإمبراطورية العثمانية. لا شك أن للشريف حسين أسباباً موضوعية (وبعضها شخصي) تسبغ مشروعية داخلية للثورة على العثمانيين، إلا أن هذا ما كان ليحدث لولا تغير موازين القوى وعلاقات الدول فيما بينها، على خلفية الحرب العالمية الأولى (1914)، الأمر الذي دفع البريطانيين والفرنسيين (على نحو أقل) إلى تحريض ومساعدة الشريف حسين بالمال والسلاح والتدريب لكسر ميزان القوى القتالية والحضارية بين العرب والسلطة
العثمانية.
بسبب الانغلاق عن العصر حضارياً ومعرفياً، لم يدرك الشريف حسين أن ثورته كانت محدودة في نهاية المطاف بسقف الدول التي ارتمى في أحضانها، فحنثت بوعودها وبدأت فرض مشروعها التقسيمي باتفاق سايكس بيكو (أيار 1916)، الذي هزم أول محاولة عربية لإنشاء الدولة/ الأمة في العصر الحديث، والذي تجلى وقعها الفاجع في معركة ميسلون (تموز1920) حين هزمت القوات الفرنسية بقيادة هنري غورو وزير الحربية يوسف العظمة، الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل: لِمَ لم تقدر قوات الشريف حسين على هزم الفرنسيين والبريطانيين لمصلحة تحقيق مشروعها بعد هزم
العثمانيين؟
رغم أنّ السؤال تاريخي بحت، ويحتاج إلى أبحاث خاصة، إلا أن ثمة نقاطاً جوهرية يمكن الاطلاع عليها، ويمكن إجمالها بثلاث: أولاها: فقدان الشريف حسين فهم أهمية عامل الاستقلالية الذاتية في بناء الجيش، حيث كان البريطانيون هم الذين أشرفوا على تدريب قوات الشريف حسين، وبالتالي فهم يدركون قوة هذا الجيش ونقاط ضعفه، فضلاً عن إشرافهم على أن يكون التسليح محدوداً بحدود هزم العثمانيين دون الوصول إلى بناء جيش قوي قادر على تحقيق حلم الشريف حسين في مملكة عربية، وبالتالي فإن هزيمة يوسف العظمة عسكرياً في ميسلون هي نتيجة منطقية لما سبق.
الثانية: تتمثل في غياب الآليات والخطط اللازمة لتحقيق مشروع الشريف الحسين، المتمثل في سؤال كيف نسقط الاستبداد العثماني لمصلحة الدولة العربية لا لمصلحة الخارج؟ لأن الاستناد إلى الظلم والاستبداد العثماني وحده كإيديولوجيا يضمن الحرية، لكنه لا يضمن بناء الدولة. إن تحديد الهدف بمجرد التحرر من النظام المستبّد بعيداً عن شقه الآخر (بناء الدولة) يعني وضع خطط خاطئة أو محدودة.
الثالثة: عدم قدرة الشريف حسين على فهم لعبة الأمم القائمة على المصالح، حيث دخل اللعبة بعقلية «مسك الشوارب» لإلزام الدول بالإيفاء بتعهداتها بعيداً عن ميزان القوى، وبالتالي فإنه وضع ثورته تحت مقصلة هذه القوى، مع عدم وجود قوى داخلية قادرة على مقاومة هذا الخارج، بسبب مفاعيل الاستبداد العثماني في الداخل، فالجهل والأمية والفقر والفوات التاريخي لن تصب في مصلحة بناء الدولة، وإن أدى ظلم العثمانيين إلى طلب الحرية منهم والثورة عليهم.
إن محاولة إسقاط ما سبق على ما يحدث في سوريا، سيجعلنا نلحظ وجود تشابه كبير بين الأمس واليوم. فالانتفاضة السورية التي اندلعت بسبب مطالب داخلية مشروعة بالتحرر من الاستبداد الجاثم على صدر الشعب السوري عقوداً خمسة بقيت متمسكة بأجنداتها الوطنية إلى أن بدأ تدفق السلاح، وتشكّل الجيش الحر الممول والمدرب من قبل دول لا تريد إلا إسقاط النظام السوري، بعيداً عن حلم السوريين ببناء الدولة الوطنية العلمانية المستقلة، فيما يتقاطع السوريون معهم بالتحرر من نظام الاستبداد دون أن يدركوا أن سقف مطالبهم محدود بتلك الدول التي وضعوا ثمار ثورتهم في سلالها. قد تنجح هذه الدول والقوى الداخلية في إسقاط الاستبداد السوري (كما حصل مع الشريف حسين)، لكنها ستكون عاجزة عن بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التي لا تريدها الدول الداعمة تلك، حتى لو امتلك هؤلاء إرادة التخلي لاحقاً عن تلك القوى، وحاولوا بناء دولتهم، فإن الأمر نفسه يبدو محدوداً بما يلي:
الجيش الحر هو بإشراف وتدريب هذه القوى الجديدة وأجهزة استخباراتها، ولعل ما تسرب بعد مؤتمر روما عن قيام واشنطن بتدريب كوادر من هذا الجيش في إحدى قواعدها في المنطقة يدل على ذلك، علماً أن هذا التدريب وهذا التجهيز سيكونان محدودين بكسر توازن القوى مع النظام لا الانتصار عليه عسكرياً لأجل استنزاف الداخل السوري فحسب، وهو ما نفهمه بوضوح من عبارة «معدات غير قاتلة» الهادفة إلى «تغيير حسابات الأسد» فقط وفق تعبير جون كيري! هنا تملك هذه الدول كل المعلومات عن قوة الجيش الحر ونقاط ضعفه، مما يسهل عليها لاحقاً إطاحة أي نزوع استقلالي لهذا الجيش، إن لم تتمكن من إلحاقه بمشاريعها.
تقوم استراتيجية المعارضة على إسقاط النظام السوري بأي ثمن، بعيداً عن إرفاق الأمر بكيفية بناء الدولة الوطنية الديمقراطية والوصول إليها، مما يعني الاكتفاء بالحرية بعيداً عن تحقيق الديمقراطية وبناء الدولة وإعادة الحياة السياسية التي تحتاج إلى مشروع يأخذ بالحسبان «قدرات المجتمع وثقافاته وتراكيبه، ويمتحن تأهيله لإنجاز مهمة تاريخية كهذه» (حازم صاغية، الانهيار المديد). وهو أمر لا يبدو متوافراً بسبب تركة الاستبداد المغروسة في مجتمع يعاني فواتاً تاريخياً منذ خمسة عقود عن محيطه، فكيف عن العالم؟!
عدم قدرة المعارضة السورية حتى اللحظة على فهم طبيعة الصراع الدولي وموقع الأزمة السورية فيه، وهو ما يتجلى بغياب سياسيين سوريين على مستوى اللحظة الراهنة، فهم يمارسون السياسة بعقلية «مسك الشوارب»، ولعل إخفاق كل ما دعت إليه المعارضة الخارجية تحديداً (تدخل عسكري، ممرات آمنة، حماية دولية، مناطق عازلة، دعم قوي للمعارضة المسلحة) يدلّ على مدى العقم الذي دفع الداخل السوري ثمنه مضاعفاً، فالقضية العادلة وحدها لا تضمن انتصاراً ولا تغيّر حسابات الدول التي لها مصالحها.
محصلة القول تكمن في أننا نعيش لحظة مشابهة لما حصل في بداية القرن السابق، مع فارق يكاد يمثل مفارقة تاريخية تشبه مهزلة التاريخ الذي يكرّر نفسه على حد قول ماركس، وهي أننا في المرة الأولى تحرّرنا من العثمانيين لنقع في فخ الفرنسيين، وفي هذه المرة نستنجد بالأتراك إلى جانب الفرنسيين والبريطانيين والأميركيين، ليبقى السؤال نفسه: قد نسقط النظام ونتحرر منه بسبب التقاطع مع تلك القوى، لكن هل ستسمح تلك الدول ببناء الدولة الوطنية الديمقراطية المنشودة؟ وهل نمتلك إرادة الخروج عنها والانتصار عليها بعدما أصبحت تعرف لون «الألبسة الداخلية» للمعارضة السورية والجيش الحر؟
لا يعني ما سبق نهائياً الاستنكاف عن إسقاط الاستبداد (الساقط لا محالة) تحت حجة الأجندة الخارجية هذه، بل يعني البحث في آليات إسقاط الاستبداد، مرفقاً ببناء الدولة السورية القوية التي يحلم بها السوريون، فالأمران مترابطان لا انفكاك بينهما حتى تكتمل الثورة.
* شاعر وكاتب سوري