تتناقض الديباجة الحالية للدستور العراقي النافذ في الصميم مع اللغة الدستورية التي يوجبها الفقه الدستوري المتعارف عليه، حيث «تختلف لغة الدستور عن لغة التشريع، فالأولى تعلو في خطابها ومضمونها على لغة التشريع، فلا تلجأ إلى التفصيل حتى تفسح للتشريع سلطة «الملاءَمة» وفقاً للظروف والمقتضيات. هذا بخلاف لغة التشريع فإنها أكثر تحديداً لما تعبر عنه. كما تختلف لغة الدستور في تحديد مراميها عن لغة البرامج السياسية للحكومات أو الأحزاب التي تقوم على العبارات الفضفاضة المعبرة عن السياسات أو الآمال»، كما يكتب أحد المتخصصين في الفقه القانوني.
أما لغة ديباجة الدستور العراقي الحالية، فهي إنشائية وصفية ركيكة مفعمة بالإسقاط الرغبوي والشعارات السياسية. ثم إنّ هذه الديباجة مفعمة بالمضامين والمشاعر والعواطف الذاتية الجياشة التي لا تخلو من الغرور والعجرفة وامتداح الذات الجمعية بشكل مبالغ فيه. ومن المسوغات الأخرى للمطالبة بحذف هذه الديباجة واستبدالها بأخرى، إيرادها للتسميات والمعاني الطائفية من قبيل «السنة» و«الشيعة» والحوادث السياسية التي لا يجوز ذكرها في الدستور، كحوادث ومجازر الدجيل وحلبجة والأنفال وانتفاضة ربيع 1991، إضافة إلى وجود أكثر من نص ديني فيها يجعل منها مبرراً قوياً، ومشجعاً على سيادة الخطاب الطائفي والسلفي التكفيري، بحجة أن ديباجة الدستور تتحدث بهذه المفردات. وتغلب على الديباجة أيضاً النظرة السلفية الإسلامية في الصياغات للمعاني والمضامين الواردة فيها، بما يجعل النص معبّراً عن وجهة نظر تيار سياسي واحد هو تيار «الإسلام السياسي السني والشيعي». إنّ هذه الديباجة تبدو كأنها منتزعة نصاً وروحاً من المنشورات السرية للأحزاب والجمعيات الإسلامية أو النشرات والكراريس السياحية التي توزع على السائحين عند مداخل المتاحف. إنّ هذا النص يتناقض مع مبدأ «السمو الدستوري» بنوعيه «الموضوعي» و«الشكلي». المقصود بسمو الدستور هو كونه القانون الأعلى في الدولة لا يعلوه قانون آخر، وقد نصت عليه أغلب دساتير دول العالم مثل دستور إيطاليا ودستور الصومال. وسمو الدستور يكون على جانبين، السمو الموضوعي: أي تناوله لموضوعات تختلف عن موضوعات القوانين العادية. أما السمو الشكلي، فالمقصود به أنّ القانون الدستوري هو الذي نتَّبع في وضعه وتعديله إجراءات معيّنة أشد من الإجراءات اللازمة لوضع القوانين العادية وتعديلها. وهذا السمو موجود في الدساتير المكتوبة الجامدة فقط. وأخيراً، إن نصها يفوح برائحة التحزب السياسي بمعناه السيئ، وسيادة روح الغلبة الفئوية والطائفية. وهذه أمور لا تصب في مصلحة استقرار البلد والمجتمع، وخصوصاً مع حالة استقطاب طائفي حاد يعيشه العراق. لذلك، أقترح على القوى الديموقراطية واليسارية العراقية، فهذه مهمتها وليست مهمة القوى الطائفية المعارضة التي تريد استبدال هيمنة الطائفة المقابلة بهيمنتها هي، أن تتبنى وتعمل على حذف هذه الديباحة واستبدالها بديباجة أخرى تمتاز بالقصر والوضوح والروح العملية والعلمية ضمن مشروع ديموقراطي شامل لتعديل الدستور وإعادة كتابته ليكون دستوراً يليق بمجتمع تعددي، حداثي ومتنوع.
شكلياً، تقع الديباجة العراقية في أكثر من 330 كلمة، في ما يقرب من 30 سطراً. وهي الجزء الوحيد من الدستور المضبوط شكلاً، رغم أنه غير مهموز في مواضع القطع. أما الأميركية، فتقع في سطرين ونصف، وتحتوي على 41 كلمة فقط، والمغربية السبعينية، أي قبل أنْ يتم تعديلها بعد صعود الإسلاميين، فكانت من خمسة أسطر، تحتوي على 75 كلمة، والسويسرية تقع في أربعة أسطر ونصف سطر فيها 65 كلمة. أخيراً، إن ديباجة الدستور الفرنسي، وهو أبو الدساتير الحديثة في العالم، تقع في أربعة أسطر ونصف سطر، فيها 72 كلمة. لنلق نظرة على النص الكامل لديباجتنا:
بسم الله الرحمن الرحيم
{ولقد كرمنا بني آدم}
نَحْنُ أبناء وادِي الرافدينِ، مَوْطِن الرُّسُلِ وَالأنبياءِ، وَمَثْوىَ الأئِمَةِ الأطْهَارِ، وَمَهد الحضارةِ، وَصُنَّاع الكتابةِ، وَرواد الزراعة، وَوُضَّاع التَّرقيمِ. عَلَى أرْضِنَا سُنَّ أولُ قانُونٍ وَضَعَهُ الإنْسَان، وفي وَطَنِنا خُطَّ أعْرَقُ عَهْدٍ عَادِلٍ لِسياسةِ الأوْطان، وَفَوقَ تُرابنا صَلَّى الصَحَابةُ والأولياءُ، ونَظَّرَ الفَلاسِفَةُ وَالعُلَمَاءُ، وَأبدَعَ الأُدَباءُ والشُعراءُ. عِرفاناً منَّا بحقِّ اللهِ علينا، وتلبيةً لنداءِ وَطَنِنا وَمُواطِنينا، وَاسْتِجَابَةً لدعوةِ قِياداتِنَا الدِينيةِ وَقِوانَا الوَطَنِيةِ وَإصْرَارِ مَراجِعنا العظام وزُعمائنا وَسِياسِيينَا، وَوَسطَ مُؤازَرةٍ عَالميةٍ منْ أَصْدِقائِنا وَمُحبينَا، زَحَفْنا لأولِ مَرةٍ في تاريخِنَا لِصَنادِيقِ الاقتراعِ بالملايين، رجالاً وَنساءً وَشيباً وَشباناً في الثَلاثين منْ شَهرِ كَانُون الثَانِي منْ سَنَةِ أَلْفَين وَخمَسْ مِيلادِيَة، مُستذكرينَ مَواجِعَ القَمْعِ الطائفي من قِبَلِ الطُغْمةِ المستبدةِ، ومُسْتلهمين فَجَائعَ شُهداءِ العراقِ شيعةً وسنةً، عرباً وَكورداً وَتُركُماناً، وَمن مُكَوِنَاتِ الشَعبِ جَمِيعِها، وَمُستوحِينَ ظُلامةَ اسْتِبَاحَةِ المُدُنِ المُقَدَسةِ وَالجنُوبِ في الانتِفَاضَةِ الشَعْبانيةِ، وَمُكَتوينَ بِلظى شَجَنِ المَقاَبرِ الجَمَاعيةِ وَالأَهْوارِ وَالدِجيلِ وَغيرها، وَمُسْتَنْطِقينَ عَذاباتِ القَمْعِ القَومي في مَجَازرِ حَلَبْجةَ وَبارزانَ وَالأنْفَال وَالكُوردِ الفَيلِيينَ، وَمُسْتَرجِعينَ مَآسِي التُركُمَانِ في بَشِير، وَمُعَانَاةِ أَهَالي المنْطَقَةِ الغَربيةِ كبقيةِ مَنَاطِقِ العِراقِ منْ تَصْفيةِ قيِاداتها وَرُمُوزها وَشُيوخِها وَتَشريدِ كفاءاتها وَتَجفيفِ مَنابِعها الفِكْرِيَةِ وَالثَقافيةِ، فَسَعينَا يَدَاً بيَدٍ، وَكَتِفاً بِكَتفٍ، لِنَصْنَعَ عِراقَنَا الجَديدَ، عِراقَ المُسْتَقبلِ، منْ دونِ نعرةٍ طَائِفِيةٍ، وَلا نَـزْعَةٍ عُنْصُريةٍ، وَلا عُقْدَةٍ مَنَاطِقِيةٍ، وَلا تَمْييز، وَلا إقْصَاء. لمْ يثْنِنا التكفيرُ والإرهابُ من أن نَمْضِيَ قُدُماً لبناءِ دَوْلةِ القانونِ، وَلَم تُوقِفْنَا الطَائِفِيَةُ وَالعُنْصُريةُ منْ أَنْ نَسيرَ مَعَاً لِتَعْزِيزِ الوحْدَةِ الوَطَنيةِ، وَانْتِهَاجِ سُبُلِ التَداولِ السِّلْمي لِلسُلْطَةِ، وَتَبني أسْلُوب التَوزيعِ العَادِلِ لِلِثَروْةِ، ومَنْحِ تَكَافُؤ الفُرَصِ للجَمْيع. نَحنُ شَعْب العراقِ الناهضِ تَوَّاً من كبْوَتهِ، والمتَطلعِّ بثقةٍ إلى مستقبلهِ من خِلالِ نِظامٍ جُمهورِيٍ اتحاديٍ ديموقْراطيٍ تَعْددُّيٍ، عَقَدَنا العزمَ برجالنا ونِسائنا، وشُيوخنا وشبابنا، على احْتِرامِ قَوَاعدِ القَانُون، وَتحقيقِ العَدْلِ وَالمساواة، وَنبْذِ سِياسَةِ العُدوان، والاهْتِمَام بِالمَرْأةِ وحُقُوقِهَا، والشَيْخِ وهُمُومهِ، والطِفْلِ وشُؤُونه، وإشَاعَةِ ثَقَافةِ التَنَوعِ، ونَزْعِ فَتِيلِ الإرهاب. نحنُ شَعْب العراقِ الذي آلى على نَفْسهِ بكلِ مُكَونِاتهِ وأطْياَفهِ أنْ يُقَررَ بحريتهِ واختيارهِ الاتحادَ بنفسهِ، وأن يَتَّعِظَ لِغَدِهِ بأمسهِ، وأن يَسُنَّ من مِنْظُومَةِ القيمِ والمُثُلِ العليا لِرسَالاتِ السَماءِ ومِنْ مسْتَجداتِ عِلْمِ وحَضَارةِ الإنْسَانِ هذا الدُسْتورَ الدائمَ. إنَّ الالتزامَ بهذا الدُسْتورِ يَحفَظُ للعراقِ اتحادَهُ الحُرَ شَعْبَاً وأرْضَاً. فلنقارن هذه الديباجة بالنماذج التالية لديباجات دساتير أخرى في دول سبقتنا في ميادين بناء الدولة الديموقراطية الحديثة، وأخرى لا تزال في مرتبتنا التجريبية. وليس عيباً أنْ نقارن لنتعلم من الآخرين فالحديث النبوي الشريف يعلّمنا أنّ «الحكمة ضالة المؤمن وحيث وجدها فهو أحق بها». لقد سبقت الإشارة إلى الجانب الشكلي وعرضنا فيها عدد أسطر وكلمات نماذج من دساتير دول العالم. أما من حيث المضمون، فجميع هذه الدساتير تعريفية وتوثيقية تخلو تماماً مما ورد في ديباجة دستورنا، وتكتفي بذكر عموميات لا يمكن أن تثير خلافاً أو تزرع أحقاداً. لنلق نظرة على ديباجة الدستور الأميركي، فهي تقول: «نحن شعب الولايات المتحدة، رغبة منا في إنشاء اتحاد أكثر كمالاً، وفي تحقيق العدالة وضمان الاستقرار الداخلي وتوفير سبل الدفاع المشترك وتعزيز الصالح العام، وضمان نِعَم الحرية لنا ولأجيالنا القادمة، نرسم ونضع هذا الدستور للولايات المتحدة الأميركية». أما الديباجة المغربية فتقول نصها: «المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، لغتها الرسمية هي اللغة العربية، وهي جزء من المغرب العربي الكبير. وبصفتها دولة أفريقية، فإنها تجعل من بين أهدافها تحقيق الوحدة الأفريقية. وإدراكاً منها لضرورة إدراج عملها في إطار المنظمات الدولية، فإن المملكة المغربية، العضو العامل النشيط في هذه المنظمات، تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها من مبادئ وحقوق وواجبات، وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالمياً. كما تؤكد عزمها على مواصلة العمل للمحافظة على السلام والأمن في العالم». وقد عُدِّلت هذه الديباجة بعد سيطرة الإسلاميين على البرلمان المغربي، فصارت أشبه بديباجتنا! وأخيراً، هذه ديباجة الدستور الفرنسي: «يعلن الشعب الفرنسي رسمياً تمسكه بحقوق الإنسان وبمبادئ السيادة الوطنية مثلما حددها إعلان 1789، وأثبتتها وأتمتها ديباجة دستور عام 1946، وكذا تمسكه بالحقوق والواجبات التي أقرها ميثاق البيئة في عام 2004. وبموجب هذه المبادئ ومبدأ حرية الشعوب في تقرير مصيرها، فإن الجمهورية تمنح الأقاليم الواقعة في ما وراء البحر والمعرِبة عن إرادتها في الانضمام إليها مؤسسات جديدة تقوم على المثل العليا المشتركة من الحرية والمساواة والإخاء وتنشأ بما يحقق تطورها الديموقراطي». فلنقارن، شكلاً ومضموناً، بين هذه النماذج وديباجة دستورنا ونحكِّم عقولنا وضمائرنا بعيداً عن هوانا وميولنا، فالعيب ليس في أنْ نبدأ بداية خاطئة أو ضعيفة بل العيب كل العيب في أن تأخذنا العِزّة بالإثم، فنقف عندها وندافع عنها تحت راية: وما أنا إلا من غزية إنْ غزت... غزوت وأنْ رشدت غزية أرشد!
* كاتب عراقي