حين تتساوى الرقّة وباريس

  • 0
  • ض
  • ض

يستطيع الغرب أن يواصل غاراته على الرقّة وأن يستخدم أفضل ما توصلت إليه تكنولوجيا الموت والدمار التي أبدع في إنتاجها، ويستطيع أن يبيد أكبر عدد ممكن من الدواعش. لكنّ هذا الغرب عاجز وبالتأكيد عن هزيمة الداعشية التي انتقلت إلى عقر داره لتزرع الموت وبوسائل بدائية ولكنّ مؤلمة في شوارعه ومطاعمه الراقية وملاعب الترفيه. لم تعد الحرب شيئاً يجري في بلاد بعيدة متخلفة لا تعني الغربي العادي إلّا حين يصادف أن يسمعها في نشرات الأخبار أو حين يتصفح جريدته في الصباحات الممطرة، وهو يستقل المترو ليقصد عمله بهدوء وطمأنينة. صار هو أيضاً شيئاً من الخبر، وصار هو أيضاً قتيلاً بالقوة أو جثة على رصيف. صار بإمكان الغربيّ أن يقلق على أطفاله وهم يقصدون مدارسهم وأن يشعر بألم وداع حبيته صباحاً التي قد لا يلقاها مساء. لقد تغيّر الزمن وعلى الغربيين أن يعيدوا حساباتهم وأن يودعوا الزمن الذي كانوا فيه في منأى عن الحدث، رغم أنّهم دوما كانوا صنّاعه.

زرع الغرب قهراً وأرسى أنظمة رذيلة مدفوعاً بمصالح النفط والسوق
لكنّ هناك فرق كبير بين موت الدواعش الهانئ الحالم بلقاء اثنين وسبعين من أجمل نساء الكون في جنات تطفح بأنهار الخمر والعسل وبين موت الغربيين الحزين وتشييعهم البارد بوردة أو بشمعة في عالم تتسع فيه رقعة الداعشية من شمال الصحراء الأفريقية حتى حدود الصين، في حين تبدو القارة الأوروبية جزيرة تتأهب لاجتياح الرايات السود في أكبر موجة سوداء عرفها التاريخ. لقد زرع الغرب سواداً وزرع قهراً وأرسى أنظمة رذيلة مدفوعاً بمصالح النفط والسوق ولم يكن ليتخيّل يوماً حتى في كوابيسه الأشدّ ظلاماً أنّ العقاب سيكون في مدنه هو بالذات. في حربه على إيران ما بعد الثورة الخمينية قام الغرب بتجنيد الإسلام الوهابي ليدفع بصدّام حسين إلى حرب أطاحت برؤوس ملايين البشر ودمّرت مدناً بأكملها وسببت من الألم والأسى ما يكفي لمئة عام مقبلة. وفي المقابل كانت أسعار النفط المتهاوية وسوق السلاح الرائج وآلاف الألغام البحرية تؤسس لنهضة اقتصادية عارمة ولرفاهية فاحشة لم يعد معها الإيطالي مضطراً للاعتماد على البطاطا كطبق رئيسي في وجباته. لقد اكتشف الغرب لعبة رابحة واستمر في ممارستها في سوريا والعراق وفي كل مكان استدعت فيه مصالح رفاهية شعوبه القيام بها. فداعش التي موّلتها دول النفط العربي لمواجهة الإيراني وحلفائه «الروافض» تمكنت من السطو على منابع النفط محققة ثلاثة ملايين يورو يومياً، وهي تستخدمها بحرفية وتقنية عالية أذهلت الأوروبيين أنفسهم الذين لطالما اعتقدوا أنّ مجموعات «التخلّف الإسلامي» لن تتجاوز حواري الموصل والرقة وبعض نواحي حلب. فأوروبا البعيدة جغرافياً قد تتعرض لبعض أنماط الإرهاب لكنّ هذه الـ«أوروبا» لم تتوقع أبداً حرب شوارع في مدنها وإعلان حالة طوارئ. لقد دخلوا الحرب حرفياً وأصبحوا على تماس مع وحوش الدولة الإسلامية وفي قلب مجتمعاتهم، وهي مجتمعات مستعدة لأن ترسل أساطيلها وطائراتها لتقتل ما أمكن، لكنّها لن تستطيع مطلقاً أن تتحمل المواجهة في بيتها مع كائنات كلّ همّها أن تقتل وتُقتل وهي تعد بالمزيد. وهو ما يجعل من باريس والرقة مدناً متساوية طالما أنّها ترتشف من الكأس ذاته. هي الورطة القاتلة، فليست نهاية الداعشية بالأمر السهل. يكفي تتبع عدد المغردّين على صفحات التواصل الاجتماعي والمزاج العام ليخرج أي باحث بنتيجة مفادها أنّ أكثرية المغرمين بداعش، فضلاً عن أغلبية في بعض دول الخليج العربي، يخرجون من شوارع مضاءة ذات أرصفة جميلة وضمان اجتماعي وبدل بطالة في أرقى عواصم العالم. وهم يعتقدون أنّ من واجبهم إخضاع ذاك العالم لمنطق الشريعة الإسلامية التي يجب أن تعمّ الكون طالما أنّ القاعدة «أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله محمد رسول الله». وهو شعار لطالما شعر معه الأميركيون بارتياح كبير وبغبطة وهم يتابعون سحل طالبان للرئيس الأفغاني الأسبق نجيب الله بعد رفض الأمم المتحدة منحه حقّ اللجوء في أحد مقراتها، منذ عقود. المعركة طويلة وعلى أوروبا أن تستجمع أنفاسها أو تُعلن إسلامها وكفى الله المؤمنين شرّ القتال. * كاتب لبناني

0 تعليق

التعليقات