الرئيس المكلف مبسوط. السعادة تشعّ من عينيه، وتفيض من وجهه. براءة الفرح الطفولي في صوته تسبق خبث السياسة، ودهاء التكليف. ولا لوم عليه، فهو أمام لحظة انتظرها طويلاً. لم تكن لديه العدة ليستعد ويُعد لها، ولكنها جاءت. ويسعده على نحو استثنائي أن هذه اللحظة تبرر نفسها من خلال الحديث عن إرثه العائلي، وليس عن شخصه؛ فهو مجرد وريث، وقيّم على وقف سياسي، يحمل ثقل أن يكون بمكانة السلف، وأن يبلغ ما بلغوا.وهو ببساطة سعيد أن اللحظة آلت إليه، بعدما دالت عقوداً عن عائلته!
ومَن عائلته؟ بيت سياسي يقبع في رئاسة الوزراء، أو في مقاعد احتياطي المنصب السني (ولا عنوان وطنياً آخر). هو تنافس العائلات في الطائفة، الذي يحتاج إلى إقرار وتواطؤ الطوائف، وتصاريف إقليمية مُرّة. في حين كان هو، ببساطة، واحداً من ضحايا «طائف» والده. «الطائف» الذي لم يمس فعلاً الطائفية، ولكنه أوجد تراتبية جديدة للطوائف. وفي هذه التراتبية، يمكنك أن تكون فقط مسيحياً أو شيعياً أو حريرياً...!

ولا خانة لمن لم يذكرهم «الطائف»، الذي أُعد للبلد الطائفي المعقد، وله سمعة علمانية هائلة!
مهما يكن من أمرٍ، فالرئيس المكلف مبسوط، والسعادة تشع من عينيه، ويجري مشاوراته (لعل عمرها أقصر من عمر حكومته!) ويبحث عن وزراء، وعن وفاق يمكنه من اختيارهم، ويريد أن يبحر، فقد حدث في الكون أمر جلل. اشتاقت بيروت لحكومات البيوتات السياسية المعروفة! ومعه حق. ألف حق!
ومن يستطيع أن ينكر أن الوفاق اللبناني المفاجئ على شخصه ليس غير ذي معنى؛ فالطائفة الحريرية ش. م. م. التي خسرت الحكومة بـ«ميقاتي»، كانت تؤمل نفسها باستعادتها بكامل وزاراتها على وقع انتصارات الإخوان في «جبهة النصرة» تحت قيادة ابنها بالتبني عقاب صقر، الذي غابت أيامه الجهادية عن البال، ولم تحضر لياليه!
ثم إذ بها تتنازل، فجأة، عن ذلك كله وتقبل برائحة الماضي، الذي تغيب هي نفسها عنه، في حين تحضر فيه أسماء سبق أن وقع عليها حكم «الاجتناب» بفتاوى قاطعة مانعة من قادة كتائب «المستقبل»، بل ربما تسليماً بقدر العودة السلمية والتوافقية إلى عهد شخصيات وقع عليها حكم «التحريم»، كالراحل حافظ الأسد، عقدة العقد اللبنانية!
شكراً لـتكليف «تمام»، الذي نبهنا إلى أن «سعد» يمكن أن يتنازل وينحني أمام الضرورة التاريخية، في لحظة لا أقل من أن توصف بالإلهية!
وبين «تمام» و«سعد» ما لا يدركان. بيروت التي اصطفت بيوتات سياسية تختار من بيوتاتها وتهمل أعطية خادم الحرمين، الذي يضطر للمباركة رغم أن «السما زرقا». بينهما كذلك الوزارة والرئاسة التي احتكرها الحريري ثم الطائفة الحريرية ش. م. م. (شركة مساهمة مغلقة).
سعادة الرئيس المكلف لا يحملها وجهه فقط، بل وجوه سواه ممن لا يحالفون حلفاءه، ولا يتفقون معه بالرأي. وهو كأي تائه، بذل الغالي والرخيص في سبيل هدف لم يتجدد بمرور الأيام، يستحق سعادة خصومة، وكذلك نية أصدقائه المبيّتة بالغدر.
ولكنه، مع ذلك، لن يخرج دون انجازات جليلة!
كان تكليفه أهم خبر يمكن أن يبثه التلفزيون الرسمي السوري إلى جانب القضاء على المجموعات الإرهابية المسلحة، سواء بسواء. وأبلغ وأصدق اطلالة لـ«سعد» تخبرنا عن حاله في الضيافة السعودية، في لحظة تحول «الحريرية» إلى مجموعة جهادية متفرعة عن «دولة الخلافة السعودية». وأوضح الأمثلة على التصاريف التي قادت الجيش اللبناني إلى سدة السياسة، ابتداء من قفزة الشهابي وجميل لحود إلى عثرة ميشال سليمان.
والأهم من ذلك، فإن التكليف، بكل سعوديته، يخبرنا أن «البيوتات» السياسية السنية يمكنها التحرر من «الحريرية الوهابية»!
وبالطبع، أول من يخيب أمله بتمام سلام هو نفسه «تمام»، ثم حلفاؤه، ثم خصومه. ولكن الواقع يقول إن الكل سيكونون سعداء: «تمام» نجح في ما كان يطمح إليه، إذ بلغ مكانة السلف وأعاد العائلة إلى دائرة المرشحين للمنصب السني، ثم حلفاؤه الذين يحسبون أنهم «يتكتكون»، ثم يعون أنهم كانوا يتنازلون، ثم خصومه الذين سيكتشفون أنهم لم يكونوا مضطرين له، أبداً!
رحلة طويلة من شركة «الشرق الوسط للطيران» إلى «سعودي اوجيه»، ثم عودة بالعكس!
وعلى أية حال، لن يكون «تمام» ثقيل الوطأة على الرئاسة، ولو من قبيل استعادة إرث أبيه، الذي لم تعمر حكومته الأولى أكثر من ستة أيام، بينما حكوماته التالية وحتى الرابعة كانت حكومات أشهر، وكذلك عمره في الوزارات. وهنا، يمكنه أن يستعيد كامل اكسسوارات أبيه: صحافة السبعينيات، وقرنفلة حمراء في عروة سترته، وسيجاراً كوبياً معتبراً، وحزمة من الشعارات التوافقية، مثل «التفهم والتفاهم» و«لا غالب ولا مغلوب»، لتسند الدعوة إلى «حكومة مصلحة وطنية»!
وبهذا، يمكنه أن يكون مطمئناً إلى أنه «تمام» و«صائب» و«سلام»، أيضاً!
* كاتب أردني