تدهم لبنان واللبنانيين استحقاقات وتحديات بالغة الأهمية والخطورة، أبرزها:أولاً، استحالة إجراء الانتخابات قبل انتهاء ولاية مجلس النواب في 20 حزيران 2013، نتيجةَ رفض شبه جماعي لقانون الانتخابات الأكثري للعام 1960، وتعذّر التوافق على قانون بديل.
ثانياً، تفاقم الأزمة السورية واحتمال تحوّلها حرباً اقليمية تفيض بتداعياتها السياسية والأمنية على لبنان، وتصاعد المخاوف من صدامات دموية بين بعض الجماعات الأصولية وخصومها المحليين، ومحاولات تطويرها إلى فتنة مذهبية.
ثالثاً، اشتداد الضائقة المعيشية وما يتسبّب في احتدامها من بطالة وهجرة واضطرابات اجتماعية وأمنية.
رابعاً، استقالة حكومة نجيب ميقاتي تحت وطأة أزمة سياسية مزمنة تهدد بانهيار ما تبقّى من مؤسسات النظام السياسي الطوائفي.
خامساً، احتمال انعكاس مصالح محلية مع تدخلات خارجية على مساعي تأليف حكومة جديدة برئاسة النائب تمام سلام، الأمر الذي يطيل الأزمة ويعمّقها.

إذ تقف البلاد على حافة الهاوية، يقترح البعض تأجيل إجراء الانتخابات إلى موعد لاحق بدعوى استكمال الإجراءات التقنية اللازمة. لكن، ما جدوى التأجيل إذا لم يتمّ التوافق، مسبقاً، على قانون عادل للانتخابات يضمن إجراءها؟
البعض الآخر يدعو إلى تأجيل الانتخابات لمدة ستة أشهر أو أكثر وبالتالي تمديد ولاية مجلس النواب لمدة مماثلة، مراهناً على امكانية التوصل إلى اتفاق على قانون انتخابات جديد خلال مدة التأجيل والتمديد. لكن، مَن يضمن عدم قيام رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة أو عشرة نواب بالطعن بدستورية قانون التمديد لمجلس النواب؟ ومَن يضمن عدم استجابة المجلس الدستوري لمراجعة الطعن والحكم تالياً بإبطال قانون التمديد؟
إلى ذلك، ثمة احتمال ثالث يبدو قابلاً للتحقق وهو عجز أهل النظام عن التوافق على تأليف حكومة جديدة وبالتالي على قانون جديد للانتخابات من جهة، وتفاقم الاضطرابات الأمنية من جهة أخرى، بحيث تصل البلاد إلى 20 حزيران 2013 من دون انتخابات وبلا مجلس نواب وبالتالي إلى فراغ تشريعي.
إزاء وضعٍ خطير كهذا ما العمل؟
السؤال موجّه، بالدرجة الأولى، إلى الحكومة ــ حتى في حالة تصريف الاعمال ــ لأنها أبرز ما سيكون قد تبقّى للبلاد من مؤسسات دستورية. ماذا تستطيع الحكومة عمله في الظروف الاستثنائية الضاغطة؟
لعلها ستكون مدعوة، أولاً، إلى الإقرار بأنها باتت فعلاً في ظروف استثنائية معقدة. وأنها مسؤولة، ثانياً، عن تسيير الشؤون العامة، وحفظ الأمن، وتأمين الخدمات العامة والضرورات الحياتية. وأنها مطالَبة، ثالثاً، باتخاذ التدابير اللازمة لإعادة البلاد إلى حياتها الطبيعية، ولا سيّما ما يتعلق منها بالانتخابات النيابية، وانبثاق حكومة ديموقراطية شرعية.
ما من شك في أن الحكومة لا تستطيع النهوض بمسؤولياتها ومهامها السابقة الذكر من دون القدرة على اتخاذ قرارات ذات طابع تشريعي، فهل لها الحق بالتشريع في الظروف الاستثنائية؟
الجواب: نعم، باعتماد نظرية الظروف الاستثنائية التي صنعتها اجتهادات المحاكم والمجالس الدستورية والإدارية في بعض دول أوروبا، والاستئناس بدساتيرها وتجاربها، ولا سيّما فرنسا وإيطاليا، التي استمد منها لبنان بعض قواعد دستوره.
تجد نظرية الظروف الاستثنائية جذورها في القاعدة الشرعية القائلة «الضرورات تبيح المحظورات». وقد راعى القانون اللبناني احكام حالة الضرورة إذ نصّت المادة 229 من قانون العقوبات على أنه «لا يُعاقب الفاعل على فعل ألجأته الضرورة إلى أن يدفع به عن نفسه أو عن غيره أو عن ملكه أو ملك غيره خطراً جسيماً محدقاً لم يتسبب هو فيه قصداً شرط أن يكون الفعل متناسباً
والخطر».
ما تبيحه حالة الضرورة للفرد تبيحه أكثر للسلطة. فبحسب نظرية الظروف الاستثنائية تصبح قرارات السلطة شرعية في ظروف غير عادية لكونها ضرورية لتأمين النظام العام، وسير المرافق العامة، حتى لو بَدَت غير شرعية في الظروف العادية. ذلك أن للظرف الاستثنائي شرعية استثنائية تحلّ محل الشرعية العادية في الظرف العادي. ومن شأن الشرعية الاستثنائية توسيع صلاحية السلطة والإدارة توسيعاً لا تلحظه، غالباً، القوانين النافذة (لطفاً راجع كتاب الرئيس جان باز: «الوسيط في القانون الإداري اللبناني»، 1971، الصفحة 423-431. كذلك كتاب الدكتور محسن خليل: «القضاء الإداري اللبناني، دراسة مقارنة»، الصفحة 149-165).
في الواقع، ثمة نصوص تشريعية لبنانية توسّع صلاحية السلطات الإدارية في الأزمات، ولاسيما في حالة الحرب. فالمرسوم الاشتراعي الرقم 52 تاريخ 5 آب 1967 يوسّع صلاحية السلطات العسكرية بعد اعلان حالة الطوارئ، وذلك بتخويلها: فرض التكاليف العسكرية بمصادرة الأشخاص والأشياء والممتلكات، وفرض الغرامات الجماعية، وإبعاد المشبوهين، وفرض الإقامة الجبرية، ومنع التجوال، وفرض الرقابة على أجهزة الإعلام.
إذا كانت الحرب هي أبرز حالات الظروف الاستثنائية، فإن الاجتهاد اعتبر «الظروف العصيبة» نتيجةً للحرب، وقد طبقها في أيام السلم أيضاً في «الظروف الحرجة»، وحتى في الظروف التي تسودها تهديدات اضراب عام أو وجود أزمة يؤدي تطبيق الاجراءات الشرعية فيها إلى اضطرابات خطيرة (راجع اجتهادات لافتة في هذا الصدد لمجلس الدولة الفرنسي فيباز، المرجع السابق الذكر، الصفحة 425. كذلك كتاب:
(A. Hauriou: Droit constitutionnel et Institutions politiques 1966).
في ظروف استثنائية مشابهة، جرى اللجوء في لبنان إلى اعتماد اجراء استثنائي. فقد قام مجلس النواب بإنتخاب اللواء فؤاد شهاب (1958) والعماد اميل لحود (1998) والعماد ميشال سليمان (2008) لرئاسة الجمهورية رغم عدم استيفائهم شرط الانفصال عن وظيفتهم في الفئة الأولى (قيادة الجيش) قبل سنتين من تاريخ انتخابهم وفق أحكام المادة 49 من الدستور.
تبرر الظروف الاستثنائية للحكومة والإدارة مجابهة الأحداث الخطيرة الحاصلة أو المحدقة بسلطات أوسع مدى وأكثر فاعلية تجعل التدابير المتخذة تدابير شرعية رغم أنها تعدّ في الظروف العادية غير شرعية (قرار مجلس الدولة الفرنسي تاريخ 26 حزيران 1946، مجموعة 89، مجلة القانون العام 1941، 542).
غير أن أوسع وأفعل ما تستطيعه السلطة الإدارية في الظروف الاستثنائية، ولا سيما في المواد التي هي من اختصاص المشترع، اتخاذ التدابير التي تفرضها هذه الظروف كأن يقوم رئيس مجلس بلدي خلال الحرب أو في ظرف اضطراب أمني بإنشاء رسم لتأمين إعاشة الآهلين في بلدته، مع أن فرض الضرائب والرسوم عائد للسلطة التشريعية دون سواها (مجلس الدولة الفرنسي، أول تموز 1949، لكوك، مجموعة 321).
تركت اجتهادات مجلس الدولة والمحاكم الإدارية أثرها في دساتير بعض دول أوروبا، ولا سيما بعد الحرب العالمية الثانية. فدستور إيطاليا الصادر في 27 كانون الأول 1947 تضمّن نصاً لافتاً هو المادة 77: «لا يجوز للحكومة، دون تفويض من المجلسين، أن تصدر مراسيم لها قوة القانون
العادي.
فاذا اتخذت الحكومة، تحت مسؤوليتها، في حالات استثنائية تقتضيها الضرورة أو الاستعجال، إجراءات موقتة لها قوة القانون، وجب عليها أن تقدّمها في الوقت نفسه إلى المجلس لتحويلها إلى قانون».
دستور الجمهورية الخامسة في فرنسا الصادر في 4 تشرين الأول 1958 يتضمن نصاً لافتاً أيضاً هو المادة 16: «إذا أصبحت أنظمة الجمهورية أو استقلال الوطن أو سلامة أراضيه أو تنفيذ تعهداته الدولية مهدّدة بخطر جسيم وماثل، ونشأ عن ذلك انقطاع السلطات العامة الدستورية عن مباشرة مهامها كالمعتاد، يتخذ رئيس الجمهورية الاجراءات التي تقتضيها هذه الظروف بعد التشاور مع الوزير الأول ورؤساء المجالس والمجلس الدستوري بصفة رسمية، ويُخطر الشعب بذلك في رسالة. ويجب أن يكون الغرض من هذه الاجراءات تمكين السلطات العامة الدستورية من القيام بمهمتها في أقرب وقت ممكن»...إلخ.
في ضوء اجتهادات الفقهاء بشأن نظرية الظروف الاستثنائية، واجتهادات مجلس الدولة الفرنسي، وأحكام الدستور في إيطاليا وفرنسا، تتضح لنا الحقائق والحقوق والموجبات الآتية:
أولاً، إنّ الوضع الشديد الاضطراب في لبنان، ولا سيما في حال عدم التوافق على تأليف حكومة جديدة ولا على قانون جديد للانتخابات، وبالتالي عدم اجراء الانتخابات وغياب البرلمان، يقع في إطار الظروف الاستثنائية، الأمر الذي يتيح، بل يوجب، اعتماد نظرية الظروف الاستثنائية وتقبّل مفاعيلها ونتائجها.
ثانياً، إنّ الظروف الاستثنائية التي من شأنها تخويل الحكومة في إيطاليا ورئيس الجمهورية في فرنسا إجراءات استثنائية تتوافر حالياً في لبنان وسيكون حضورها أكثر وضوحاً وحدّة فيما إذا تعذّر اجراء الانتخابات النيابية وبالتالي غياب البرلمان وسلطته التشريعية.
ثالثاً، إذا كان لجوء الحكومة في إيطاليا ورئيس الجمهورية في فرنسا إلى اتخاذ اجراءات استثنائية في الظروف الاستثنائية ممكناً ومسوَّغاً مع وجود برلمان قائم وعامل، أليس أحرى أن يصبح ذلك اكثر تسويغاً ومشروعية في حال عدم إجراء الانتخابات وبالتالي غياب البرلمان وسلطته التشريعية بعد 30 حزيران 2013؟
رابعاً، ثمة دافع إضافي إلى اعتماد نظرية الظروف الاستثنائية في لبنان دونما تردد هو مبدأ «لا فراغ في السلطة». فالصالح العام والنظام العام لا يحتملان وجود فراغ في السلطة أو انقطاع السلطات العامة، التشريعية والتنفيذية والقضائية، أو إحداها عن مباشرة مهامها، الأمر الذي يوجب مسارعة مجلس الوزراء المنوطة به، مجتمعاً، السلطة الإجرائية (التنفيذية) إلى اتخاذ كل ما تستلزمه متطلبات إدارة شؤون البلاد من اجراءات، سواء في إطار القوانين النافذة أو في إطار نظرية الظروف الاستثنائية التي تستولد شرعية استثنائية.
خامساً، تكتسب الإجراءات الاستثنائية التي يتعيّن على الحكومة اتخاذها مشروعية إضافية عندما يكون هدفها ونطاقها تنفيذ أحكام الدستور، ولا سيما المادتين 22 و95 منه، اللتين تقاعست جميع الحكومات المتعاقبة عن تنفيذ أحكامهما.
إلى ذلك، تقتضي الإشارة إلى أنّ جميع المجالس النيابية والحكومات المتعاقبة لم تتقيد بأحكام الدستور ولا نفذت معظم مواده المعدّلة العام 1990. كما أن جميع قوانين الانتخابات الصادرة قبل الاستقلال وبعده كانت غير دستورية أو تعتريها شوائب ونواقص فاضحة.
ذلك كله يوجب أن تبادر الحكومة إلى اغتنام فرصة تهاوي النظام السياسي الطوائفي الفاسد وعجزه حتى عن إعادة إنتاج نفسه، كي تقوم من خلال سلطاتها الاستثنائية الناشئة عن الظروف الاستثنائية السائدة إلى وضع قانون ديم قراطي للانتخابات يستجيب لمضمون الفقرة «ج» من اصلاحات «اتفاق الطائف» للعام 1989 التي قضت بمراعاة «القواعد التي تضمن العيش المشترك بين اللبنانيين وتؤمّن صحة التمثيل السياسي لشتى فئات الشعب واجياله وفعالية ذلك التمثيل بعد اعادة النظر في التقسيم الإداري في إطار وحدة الأرض والشعب
والمؤسسات».
في ضوء ما تقدّم بيانه، يُستحسن أن تستهل الحكومة اضطلاعها بسلطاتٍ استئنائية بإعلان ذلك للشعب من خلال برنامج متكامل تحدد فيه أولوياتها ومهامها الأساسية خلال فترة انتقالية مدتها ستة أشهر أو سنة على الأكثر، على أن يكون وضع قانون ديم قراطي للانتخابات أولى الأولويات، وأن يُصار إلى إقراره في استفتاء عام، وإجراء الانتخابات خلال شهرين من تاريخ الإقرار.
قد لا تكون الحكومة مضطرة إلى تجميد اختصاصات المجلس الدستوري خلال الفترة الانتقالية لأن من المنتظر أن تدرك هيئته العامة نشوء شرعية استثنائية فرضتها الظروف الاستثنائية، فلا يمارس المجلس عمله في أثنائها. أما إذا فعل، فإن بإمكان الحكومة، سنداً إلى سلطاتها الاستثنائية، أن تتجاهل قراراته. هذا مع العلم أن في مقدورها تضمين قانون الانتخابات الجديد بنداً يقضي باعتباره نافذاً من تاريخ إقراره في استفتاء عام واعتبار جميع القوانين والأنظمة والاحكام القضائية الصادرة خلافاً لأحكامه لاغية ولا مفعول لها.
قد يقول قائل إن ما جرى عرضه مُقنع، لكن ماذا لو امتنع رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، منفردَين او مجتمعَين، عن اعتماد نهج الاجراءات الاستثنائية أو التزام نتائجها؟
الأرجح أن يستجيب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء لمقتضيات المصلحة العامة في الظروف الاستثنائية فيتعاونون على اتخاذ الإجراءات الاستثنائية اللازمة في كل ما تقتضيه مصلحة البلاد والعباد. أما إذا امتنع رئيس الجمهورية عن الاستجابة، فإن بإمكان مجلس الوزراء إعمال (تفعيل) الفقرة الثانية من المادة 56 من الدستور وبالتالي اعتبار القرار المتخذ والمحال على رئيس الجمهورية نافذاً حكماً بعد انقضاء مهلة الخمسة عشر يوماً المحددة له لإصداره أو إعادته.
أما إذا رفض رئيس الحكومة الاستجابة لمتطلبات الظروف الاستثنائية واجراءاتها وتوقف عن دعوة مجلس الوزراء إلى الانعقاد، فإن في وسع مجلس الوزراء، خلال الفترة الانتقالية الاستثنائية، الاجتماع بدعوة من رئيس الجمهورية أو بدعوة من نائب رئيس مجلس الوزراء أو بدعوة من أكبر أعضائه سناً. كما بإمكانه تسمية رئيس جديد لمجلس الوزراء وإحالة قراره إلى رئيس الجمهورية لإصداره بمرسوم، وفي حال امتناعه يقوم بإعمال (تفعيل) المادة 56 من الدستور كما جرى تبيانه آنفاً.
لقد بات واضحاً أنه من الصعب جداً، إن لم يكن من المستحيل، إصلاح النظام السياسي القائم من داخله بسبب تعنّت أهل النظام الطوائفي وتمسكهم بالصيغة الطائفية لمصالح شخصية، سياسية واقتصادية، أو استجابة لتدخلات خارجية.
ما دام الأمر كذلك، فهل تُلام القوى الوطنية الحية والقيادات المتعقّلة في صفوف القوى السياسية التقليدية إن هي بادرت إلى اغتنام الظروف الاستثنائية من أجل اعتماد خيار الإجراءات الاستثنائية في سياق برنامج وطني اصلاحي يرمي إلى استكمال عملية تطبيق احكام الدستور، ولا سيما المادتين 22 و95 منه، وذلك من خلال قانون ديموقراطي للانتخابات على أساس لبنان دائرة واحدة وفق نظام التمثيل النسبي، على أن يُصار إلى إقراره في استفتاء عام؟ هل من سبيل أقصر وأفعل؟
* محامٍ - نائب ووزير سابق