لا أحد بمقدوره الجزم بأن يمرّ هذا السيل من التطورات الضارية من دون عواقب وتداعيات تهدد البنى الأساسية للكيان اللبناني، خصوصاً أنّ المؤشرات على انقلاب الأوضاع رأساً على عقب ليست قليلة سواء تلك التي صدرت من جهات لبنانية مطّلعة، أو التي تسرّبت عبر قنوات خارجية جعلت من قبول الحكومة اللبنانية توقيع اتفاقية أمنية غير مشروطة مع قيادة التحالف الذي تقوده السعودية، والموافقة على استعمال مطار رينيه معوض (وهو مطلب أميركي قديم) شرطاً لتلافي "الأعظم الآتي" بحسب وزير الداخلية نهاد المشنوق.
على حين غرة تصلّبت السياسة السعودية تجاه لبنان واصطنعت لها دعامة عروبية لتبرير حملتها الجنونية التي بدأت بسحب الهبة العسكرية للجيش اللبناني ثم أعقبتها بسلسلة من الإجراءات الكيدية الطفولية التي تعكس عجز العقل السعودي عن التعلّم والتفكّر والتطور. أمّا القول إنّ سبب الحملة يعود إلى موقف وزير الخارجية اللبناني الذي لم يكن مستساغاً من قبل القيادة السعودية فهو لا يعرف أنّ المشكلة تنتمي إلى خارج محيط هذه القضية الجزئية رغم حساسيتها، بل إنّ السبب الحقيقي المحرّك لهذه الحملة يعود على الأقل لسبعة تحدّيات رئيسية:
أولاً: نمو النفوذ الإيراني الذي بدأ يُعرب عن نفسه بوسائل شتى.
ثانياً: اهتزاز ميزان القوة الإقليمي لصالح إيران وحلفائها على إثر توقيع الاتفاق النووي مع الدول الكبرى.
ثالثاً: تسارع وتيرة الحسم الميداني لصالح الجيش السوري بشكل غير مسبوق على حساب حلفاء السعودية.
رابعاً: تعاظم قدرة حزب الله العسكرية بعد انخراطه في الأزمة السورية ووصول قواته إلى الحدود التركية والأردنية.
هل سحبت الدول
الغربية تحفظاتها بشأن إشعال
الساحة اللبنانية؟

خامساً: وقوف حزب الله إلى جانب "الحوثيين" سياسياً وإعلامياً وعسكرياً وتنديده بالحرب السعودية على اليمن.
سادساً: ردود الفعل التي صدرت عن حزب الله على إثر إعدام الشيخ نمر النمر والتي اعتبرتها السلطات السعودية تدخلاً بشأن داخلي.
سابعاً: استمرار حزب الله في لعب أدوار إقليمية وحضوره العسكري في ساحات عربية متعددة.
بالطبع هناك دوافع إضافية جعلت المملكة تقوم بخطوات تراها استراتيجية للحفاظ على وجودها ومكانتها ودورها في المنطقة، منها ما كشفته وسائل إعلام إسرائيلية مؤخراً عن حركة تنسيق وزيارات متبادلة ومشاريع اتفاقات يُمكن أن تُوظّف من قبل صانعي القرار في الكيانين الإسرائيلي والسعودي لمواجهة العدو المشترك! لذلك كان المطلوب من المملكة أن توسّع ساحة مناوراتها إلى داخل البيئة التي يتحرك فيها حزب الله وتطويقه بالأزمات وصولاً إلى تجريده من مصادر القوة.
ولنجاح هذه الحملة فقد استلزم الأمر نسقاً من المواقف التصعيدية حول ملفات لم تكن بالضرورة أساسية أو جديدة ولكنّها تفي بمتطلبات المواجهة، وإرسال الرئيس سعد الحريري من قبل داعميه السعوديين إلى بيروت هو لإضفاء شيء من السخونة على الوضع العام بعدما كان الوضع يتصف بالهدوء النسبي والموقف السياسي الرسمي يتسم بالحياد المقبول. وبتخلّي تياره عن الحوار الثنائي مع حزب الله يكون الحريري قد قطع جسور التواصل وفتح الباب أمام احتمالات الصدام التي عبّر عنها اللواء أشرف ريفي بصراحة مباشرة بقوله: "سنقلب الطاولة في وجه حزب الله وسنواجه سلاحه"! فهل أُخذ قرار تفجير لبنان الذي لا يحتاج إلا إلى تحريك لبنة من لبناته الهشة لينهار.
لكن أسئلة كثيرة تقفز على سطح الظروف المستجدة.
أولها: هل سحبت الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية تحفظاتها السابقة بشأن إشعال الساحة اللبنانية؟
ثانيها: هل الدول هذه التي تعمل حالياً على إطفاء النيران السورية أو حصرها بالحد الأدنى راغبة وراضية أو مشجعة على تمددها إلى دول أخرى؟
ثالثها: هل الدول هذه قادرة على التحكم بارتدادات التفجير عسكرياً أو تحمّل أزمة لاجئين جديدة؟
رابعها: هل تفجير الوضع الأمني في لبنان لاستئصال حزب الله كما هي أدبيات بعض المسؤولين السعوديين يمكن أن يصب في صالح السعودية وحلفائها من اللبنانيين الذين يتخبطون بأزماتهم وانكساراتهم؟
خامسها: هل التفجير المرتقب يمكن أن يحدّ من المخاطر على المملكة أم سيرفع من منسوبها من المنافذ العراقية – اليمنية - البحرينية التي يمتلك حزب الله نفوذاً فيها؟
سادسها: هل في إشغال حزب الله محلياً (استقالة الحكومة، تظاهرات، قطع طرقات، إدخال العامل الفلسطيني...) وغير ذلك من السيناريوهات السوداء يساهم في انسحاب الحزب من سورية ويعيد ضبطه في إطار التوازنات اللبنانية المحلية حصراً؟
سابعها: وإذا كان التفجير له هدف محدد، فهل تخطّي السعودية سقف علاقتها التاريخية بلبنان بالضغط على مختلف القطاعات ومنها الاقتصادية يمكن أن يؤدي بحزب الله إلى التراجع سياسياً عن دعمه لترشيح العماد ميشال عون وقبوله بمرشح للرئاسة تسميه هي بنفسها؟
ما زالت الأمور تقف منتظرة على أبواب التقديرات والتوّقعات. صحيح أنّ لبنان الرسمي غير قادر على احتواء الأزمة، لكن حزب الله لن يسمح بمعادلة جديدة أمام السعار السعودي سواء استدعى حرباً أهليّة أو إسرائيلية أو اكتفى بالفوضى والتوتير. الأوضاع خطيرة هذا صحيح. ولكن (لكل مدّ جزر) هكذا نفهم من تجربة احتلال إسرائيل للبنان التي يُفترض أن تحدّ من (الأنا الأعلى) للسعوديين والخليجيين والصهاينة الذين يعيشون هذه الأيام عقدة (قنبلة الأمونيوم) وأن لا يفرطوا في الضلال وطلب الانتحار، فأدبيات حزب الله تقول أيضاً: الآتي أعظم!
* كاتب وأستاذ جامعي