تعاني الولايات المتحدة الأميركية في هذه الأيام من «عقدة العراق»، في أعراض تشبه ما عانته في عهد كارتر (1977 ــ 1981) بعد هزيمتها في فييتنام في ربيع عام 1975، قبل أن يأتي ريغان (1981 ــ 1989) ويقلب موازين الحرب الباردة لصالح واشنطن، ويضع موسكو في موضع التراجع الدولي (1987 ــ 1988). ثمّ انهارت الكتلة الاقليمية في شرق ووسط أوروبا في خريف 1989، ثم لحقها انهيار البناء الداخلي للاتحاد السوفياتي وتفككه، في الأسبوع الأخير من عام1991.يمكن ملاحظة هذا الوضع الأميركي المستجدّ في عهد أوباما منذ توليه منصبه في الشهر الأول من عام 2009: لم يعد هناك سياسة هجومية أميركية كما رأيناها منذ ريغان، ولم تعد توجد قدرة عند واشنطن على ممارسة وضعية «القطب الواحد للعالم»، كماحصل في حرب 1991 بالخليج، وحرب كوسوفو 1999، وغزو العراق 2003. أكثر من هذا، انتفى عند السياسة الأميركية الغطاء الأيديولوجي الذي كان لها مع «الليبرالية الجديدة للمحافظين الجدد»، التي تمّ التسويغ من خلالها بعد 11 سبتمبر للهجمة الأميركية على الشرق الأوسط لـ«إعادة صياغته»، بعد أن كان مصدراً لكرات اللهب التي أصابت العاصمتين الاقتصادية والسياسية للعالم في ذلك اليوم «السبتمبري» من عام 2001.
أكثر من هذا، يمكن أن يلاحظ على إدارة أوباما انكفائية نحو الداخل، تذكر بانكفائية أميركية كانت مع مبدأ مونرو (1823) ولم تنكسر إلا مع انخراط واشنطن في قضايا القارة العجوز عبر دخولها الحرب العالمية الأولى عام 1917، يعزوها البعض إلى الأزمة المالية ــ الاقتصادية التي انفجرت في نيويورك في أيلول 2008، ثم امتدت لأوروبا، في تعاكس مع سلوك الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت (1933 ــ 1945)، الذي كانت الأزمة المالية ـــ الاقتصادية العالمية، البادئة أيضاً في نيويورك في تشرين الأول 1929، دافعاً عنده للتغلب على النزعة الانعزالية الأميركية، التي استيقظت من جديد في العشرينيات عقب الدخول الأميركي في حروب ومشاكل الأوروبيين، ولقيادة الجهد ضد هتلر واليابانيين ليس بعد «بيرل هاربور» (7 كانون الأول 1941)، وإنما قبله ولكن عبر أشكال خفية مع انكلترا (منذ بدء الحرب الثانية في 1 أيلول 1939)، ومع موسكو (مع بد الهجوم الهتلري على الاتحاد السوفياتي في22حزيران 1941).
على الأرجح أنّ هذه الانكفائية عند أوباما لا تعود لما جرى في نيويورك بأيلول 2008، وإنما لتداعيات فشل الاستراتيجية الأميركية في العراق لما لم يؤد ارسال مئات آلاف الجنود لبلاد الرافدين إلى الوصول لتحقيق هدف جعل بغداد بوابة «لإعادة صياغة» منطقة الشرق الأوسط بأكملها سياسياً ــ أمنياً ــ اقتصادياً ــ ثقافياً، كما صرح كولن باول قبيل أسابيع من بدء الغزو يوم 19 آذار 2003، وإنما لأن تظهر واشنطن بمظهر «المحتل الفاشل» الذي لا يملك «استراتيجية اليوم التالي» لسيطرته العسكرية على الأرض. مما أدى إلى فقدان الزمام السياسي (وكذلك الأمني) من يدي الأميركي في العراق المحتل، حيث قاد فقدان سيطرته على المجريات العراقية في «مرحلة ما بعد 9 نيسان 2003» ليس فقط إلى عدم قدرته على تحقيق استراتيجيته الاقليمية (التي ظهرت ملامح منها مع القرار 1559 الخاص بلبنان، 2 أيلول 2004، ثم في وضع طهران بين كماشتي الأميركي في كابول وبغداد) وإنما كذلك في خروج واشنطن صفر اليدين من العراق عند انتهاء الانسحاب الأميركي في آخر يوم من عام 2011، وتحوله إلى دائرة النفوذ الإيراني عبر قوى محلية عراقية موالية لطهران فازت في الانتخابات، وهو ما أدى بالنهاية إلى نشوء وضع اقليمي جديد في المنطقة جعل طهران «دولة اقليمية عظمى» من خلال كسر الأميركي عبر غزو واحتلال 2003 لما كان يسميه صدام حسين بـ«البوابة الشرقية للوطن العربي». وإلى درجة وصلت فيها السياسة الأميركية، منذ استراتيجية كوندوليزا رايس عقب حرب 2006 على لبنان: «معتدلون ضد متطرفين»، إلى رسم سياسة اقليمية أميركية تهدف إلى محاربة وضع اقليمي قادت أيادي الولايات المتحدة إلى صنعه وبنائه من خلال ما جرى في العراق المغزو والمحتل، عندما يمكن أن ينطبق ايرانياً على الأميركي ما قاله ماركس عن بسمارك عند تحقيق الوحدة الألمانية عام1871: «إنه يقوم بجزء من عملنا».
يعزز هذه الأرجحية ما جرى من سياسة أميركية عقب «الربيع العربي»: لم يكن عند واشنطن استراتجية للبناء عليها، كما جرى عند انهيار أبنية داخلية عدوة لواشنطن (الكتلة السوفياتية، 1989) أو حليفة (الديكتاتوريات العسكرية في أميركا الجنوبية...)، لما تبنت واشنطن بعهد ريغان، وبعده بوش الأب، راية «الديموقراطية السياسية واقتصاد السوق» لسفينة سياستها الخارجية تجاه ملاقاة تطورات تلك البلدان مع بناء فكري ــ سياسي يصل إلى مرتبة الأيديولوجيا من خلال «الليبرالية الجديدة الممزوجة مع نزعة المحافظة الجديدة»، التي طرحتها «مدرسة شيكاغو» منذ الستينيات والتي هي أبعد من رؤية اقتصادية ضد الاتجاه الكينزي لتصل إلى بناء فلسفي يمزج ليبرالية جون ستيوارت ميل مع اتجاه محافظ واجه فلسفياً ثورة 1789 الفرنسية من خلال الانكليزي وليام بيرك وكتابه «تأملات في الثورة الفرنسية».
ما فعله أوباما، بعد تخبط اشترك فيه مع الفرنسيين في رسم سياسة متسقة تجاه الثورة التونسية، كان اللحاق بالتطورات المصرية في مرحلة ما بعد ثورة 25يناير، ولم يكن عنده استراتجية لملاقاة تطورات داخلية في بلد حليف محوري بالاقليم، حيث تخبط وجرى وراء الأحداث ولهث راكضاً وراء ثلاث سياسات متناقضة في سبعة عشر يوماً: بقاء مبارك مع تجميلات على النظام، خلافة عمرو سليمان لمبارك مع تنحي الأخير، ثنائية العسكر والإخوان. في اليمن والبحرين رسمت الرياض السياسات ثم قامت واشنطن باللحاق بها. في سوريا ما بعد 18 آذار 2011 كانت ملاقاة واشنطن للأزمة السورية أقرب إلى اللاسياسة، وقد تركت أنقرة ــ باريس ــ الدوحة تدير الملف، قبل أن توكله إلى الرياض لكي تنوب عن الغرب الأميركي ــ الأوروبي والخليج بعد اقصاء أميركي منذ اتفاقية موسكو في 7 أيار 2013 لكل من تركيا وقطر عن الملف السوري، بالتوازي مع طلاق الأميركيين مع الإخوان المسلمين بعد زواج بدأ في مرحلة ما بعد مبارك قبل أن يتحطم منذ أيلول 2012 في «محطة بنغازي» وبعدها مالي ثم بوسطن في أواسط نيسان، وليكون أحد أعمدة اتفاقية موسكو تحجيم واقصاء الاسلاميين قبل أن تبدأ الترجمة في اسطنبول والدوحة ومن ثم في «قاهرة 3 تموز 2013» عند حصول الانقلاب العسكري على مرسي، والذي كانت ملاقاة أوباما له، رغم الغطاء الأميركي منذ البداية للسيسي، تتسم بالتلعثم السياسي في تنفيذ سياسة مقررة أميركياً وتحاول أن تعطي الشيء ونقيضه وخاصة مع جريان الدماء المصرية على أيدي الانقلابيين في عملية هي أقرب إلى غسل اليد الأميركية من الدماء المشتركة مع الجنرال المصري.
لم تستطع واشنطن استثمار «الربيع العربي»، لتعزيز مواقعها الاقليمية في الشرق الأوسط وتعويض تراجعاتها بين عامي 2007 ــ 2010، من خلال استثمار تطورات داخلية لترجمتها في الاقليم ثم دولياً، كما جرى من قبل بوش الأب ضد موسكو في خريف 1989، بل استطاعت موسكو كسر الأحادية القطبية من خلال الأزمة السورية التي تحولت إلى ساحة للمجابهة المباشرة بين الكرملين والبيت الأبيض لأول مرة في مرحلة ما بعد نهاية الحرب الباردة، فيما فرضت طهران نفسها وأيضاً عبر الأزمة السورية طرفاً رئيسياً في الطاولة الدولية ــ الاقليمية، التي هي على الأرجح رباعية: واشنطن، موسكو، طهران، الرياض، لرسم خريطة النفوذ في اللوحة الشرق أوسطية المقبلة.
كل ما سبق يطرح العديد من الأسئلة: لماذا لم تنجح واشنطن في إدارة عالم ما بعد عام 1989عندما أصبحت قطباً أوحد للعالم، رغم نجاحها في كسر موسكو وهزيمتها بالحرب الباردة البادئة بين القطبين منذ عام1947؟
هل انعزاليتها أقوى من عالميتها؟ ثمّ، لماذا كانت لندن أنجح من واشنطن في مرحلة 1763 ــ 1945، رغم محاولة نابليون بونابرت كسر قيادة لندن للعالم ثم الألمان بعد عام1871؟
* كاتب سوري